سورة الجن – مكية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}
{اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}، الجنّ خلق الله مثل الملائكة وغيرهم. لا أرفض وجود الجنّ والملائكة مطلقا بل أعتقد بوجود كليهما، ولكن كلمة الجنّ لا تعطي معنى واحدا في كل مكان. وما يُظَنّ أن الجنّ تتلبّس بعض النساء والأولاد فلا أقبل ذلك. الجنّ في اللغة يقال للحيوانات المؤذية الصغيرة أيضا التي لا تُرى بالعين المجردة بل تشاهَد بالمناظير فقط. إن ميكروبات الطاعون أيضا تُسمّى جنًّا لذلك قال – صلى الله عليه وسلم – عن الطاعون: “وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ” رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري، في الطبراني الأوسط عن ابن عمر – رضي الله عنه -.
من معاني الوخز، اللسع والطعن أيضا. كبار الناس أيضا يسمَّون جنًّا في اللغة: “جنّ الناس معظمهم”. لعل اسم “مهاجن” …. الإنسان الذي يركض وراء الحمامة أيضا يسمّى جِنًّا.
لقد ذُكر في سورة الأحقاف قومٌ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (الأَحقاف: 30)، {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} (الأَحقاف: 31). ويقابل الجنَّ أناسٌ. الإنس هم الفقراء من الناس، والجنُّ كبارهم.
وفي سورة الحجر ذُكر خلق الإنسان والجانّ معا واحدا بعد الآخر في الآية نفسها وهي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (الحجر: 27 – 28). كان الجانّ موجودون قبل آدم وذريته، وهذا ما لا يمكن إنكاره بأي حال. والجِنَّة موجودة الآن أيضا بصورة غير مرئية.
إن نظام الكون ليس مقتصرا على المحسوسات والمرئيات فقط، لذا فإن إنكار العالم غير المحسوس وغير المشهود وغير المرئي حمق وغباوة محضة. لذا كلما تتقدم العلوم تظهر للعيان أمور كثيرة كان قبولها من قبل متعذرا. لقد أثبتت المناظير والتلسكوبات كم من حيوانات توجد في الجو. كذلك توجد في قطرة ماء واحدة حيوانات لا تُحصى. كما أن هناك حيوانات كثيرة في قطرة منيٍّ واحدة. فيتبين من ذلك كله أن إحاطة خلق الله وأنواع خلقه محال محض، وإنكار المرء نتيجة علمه المحدود حمق بحتٌ. لذا يجب التذكر عن الجِنّ أولا أنه لا يحق لنا أن ننكر خلقا يختلف عن البشر. لدينا أوجه للقول بأن الجنّ خلْقُ الله الذي لا تراها عيون ظاهرية لأن تركيبها المادي شفاف للغاية فلا يستطيع الناس أن يروها بعيون ظاهرية بل هناك حاجة لرؤيتها إلى حاسة أخرى أي العين الروحانية. لهذا السبب إن الأنبياء عليهم السلام وأولياء الله والمؤمنين الصادقين يستطيعون أن يروا الملائكة وغيرهم من المخلوقات غير المرئية، بل يحدثونهم أيضا. ملخص الكلام أن إنكار أيّ من خلق الله من هذا القبيل ليس من العقل في شيء. نحن نؤمن بأن في العالم خَلْق الله المستورُ عن أعين البشر، فيسمَّون جِنًّا لأن الجّن في العربية يُطلق على من كان من صفاته الخفاء والاستتار. فالجَنَّة خافية عن أعين الناس، والجُنَّة تُخفي الإنسان وراءها وتنقذ الإنسان من هجمة السيف. الجنين: ولدٌ يكون خافيا في بطن أمّه. الجنون: مرض يغشي العقل. فالجنّ مخلوق، أيا كان نوعه، يخفى عن أعين الناس عادة. باختصار، الجنّ نوع من المخلوق. هناك أمر آخر جدير بالذكر وهو أن الجنّ قد أُطلق في الحديث على كل من الحية والكلب الأسود والذبابة والنمل ذي اللون البُنّي الفاتح، والجراثيم الوبائية والبرق والحمامة والصقر والزقوم وعلى من يأكل باليد اليسرى والحمار وأشعث الرأس والغراب ومبتور الأنف أو الأذن، والشرير والزعيم وغيرهم. وبالتأمل في هذه الأمور تتبين حقيقة المفاسد والمضار التي تُنسب إلى الجِنَّة. بعد بيان ذلك لا بد من الاطلاع على ما هو المراد مما ذُكر في القرآن بهذا الخصوص؟ فليكن معلوما أن هذا حادث تاريخي. كانت مدينة نصيبين مدينة مأهول، وسكانها اليهود كانوا يسمَّون جِنًّا، وكانوا يزورون سوق عكاظ. لقد ذهب النبي – صلى الله عليه وسلم – يائسا من أهل مكة إلى الطائف حيث آذاه أشرارها. كان – صلى الله عليه وسلم – قادما إلى عكاظ وقابله الناس في نخلة في طريقه. كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصلي صلاة الفجر فرقّت قلوبهم بسماعهم القرآن الكريم، فآمنوا وبلّغوا قومهم حين رجعوا إليهم.
من كتاب حقائق الفرقان للخليفة الاول رضي الله عنه وأرضاه