تروج للأسف مؤخراً قصة من النوادر تُنسب بلا دليل لسيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ملخّصها أنَّ أصل الكرد أشباح أو جِن ونحو ذلك وأنَّ الرواية تسيء إلى الكرد. وللرد على ذلك نقول بأن الرواية لا علاقة لها بسيدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لأن أصل الرواية هذه ورَدَ بلا نسبة في كتاب “مروج الذهب” للمسعودي وهو كتاب جغرافيا وروايته سابقة لرواية الراغب الأصفهاني المنسوبة زوراً لسيدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بمائتي عام تقريباً، وهي كالتالي:
“وأما أجناس الأكراد وأنواعهم فقد تنازع الناس في بدئهم، فمنهم من رأى أنهم من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان انفردوا في قديم الزمان وانضافوا إلى الجبال والأودية دعتهم إلى ذلك الأنفة – إلى أن قال: ومن الناس من رأى أنهم من مضر بن نزار وأنهم من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن انفردوا لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان، ومنهم من رأى أنهم من ربيعة ومضر اعتصموا إلى الجبال طلبا للمياه والمراعي فحالوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الامم، ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود حين سلب ملكه ووقع على إمائه المنافقات الشيطان المعروف بالجسد وعصم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن فعلق منه المنافقات فلما رد الله على سليمان ملكه ووضع تلك الإماء الحوامل من الشيطان قال: أكردوهن إلى الجبال والأودية فربتهم امهاتهم وتناكحوا وتناسلوا فذلك بدء نسب الأكراد.” (مروج الذهب، للمسعودي 2/99-101)
هذه الرواية لا أصل لها في أي حديث أو تفسير وَلَمْ ترد في أي كتاب من كتب السُنّة على الإطلاق كما أنه لا تُنسب لأحد في أصلها الذي سبق الرواية المتداولة بقرنين تقريباً، فكيف تُنسب بعد قرون من ذلك إلى سيدنا الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي كان مشهوراً بتواضعه الشديد وقوله كيف “تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” وكان يحرس بنفسه مع الجند ويتفقد الناس والرعيّة بنفسه ويحمل على ظهره لهم الطعام من مسافات بعيدة ويبكي عند سماع كُلّ آية وعيد وكلام للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى يقع مغشياً عَلَيهِ ويُحمل إلى بيته فيحسبوه كالمريض من شدّة التأثر والوجد وكان يسمعه الصحابة يهدد نفسه في الليالي ويحاسبها ويقول “ليتني كنتُ هذه التبنة، ليتني لم أولد، ليتني كنت نسياً منسيا“، وكان يخاف أن يدخل الناس كلّهم الجَنّة إلا هو مع أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بشّره بالجنّة وقال “لو كان نبي بعدي لكان عمر” رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه، ومثل عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لا وقت لديه ولا يليق به سرد الروايات والقصص التي مثل هذه.
لَمْ تَرِد هذه الرواية إلا في كتاب واحد عنوانه “محاضرات الأدباء” وهو للراغب الأصفهاني أحد أعلام اللغة (ص 160) أما أصل الرواية فهو في كتاب “مروج الذهب” للمسعودي وهو مؤرِّخ وجغرافي معروف (2/99-101). وكما هو واضح فهذان الكتابان ليسا من كتب الحديث ولا حتى من كتب شرح الأحاديث بل ولا من كتب التفسير نفسها، فلا يصح الاحتجاج بقصة وردت فيهما خاصة وأنها غير معضدة بحديث بنفس المعنى أو قريب من ذلك ولا تفسير كذلك وإنما هي مجرد رواية نادرة وردت في كتاب أدبي، وهذا النوع من الكتب قد يصح خبره وقد لا يصح لأن كتب الأدب عادة تورد كُلّ ما يشاع بين الناس لغرض التأريخ بدون أسانيد ولا توثيق، فتأتي بصيغة مثل (قِيلَ) و(رُويَ) و(يُحكى) ونحو ذلك فقط، والغرض هو دعم الفكرة وإغنائها لا غير. أما الذي يُجزم به فهو الرواية ذات السند، فبدون السند تبقى الرواية مجهولة المصدر لا يسعفها إلا إذا دعمها حديثٌ يحمل نفس المعنى أو معنى مقارب لها أو كانت ذائعة مشهورة ومعروفة في كتب الأدب وليست قولاً نادراً يتيماً مثل رواية (اكردوهم إلى الجبال) التي لا توجد سوى كقصة نادرة يتيمة في مصدر واحد لا علاقة له بالحديث ولا التفسير ولا يوجد ما يدعمها إلا قصة مجهولة المصدر في كتاب جغرافيا سبقها بقرنين.
أما المعنى منها فهو أنَّ بعض العمّال الغرباء المستقدَمين أيام مملكة سيدنا سليمان عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام تركوا العمل وتزوجوا أو اغتصبوا بعض نساء المملكة فقرر الملك إجلائهم لأنهم خالفوا بنود العمل التي استُقدِموا لأجلها وهي أن ينشغلوا في البناء والهندسة فقط، فلمّا خالفوا ذلك تمّ إبعادهم، ومن هذا التزاوج ظهر نوع من قوم الأكراد الذين أُبعدوا من مملكة سيدنا سليمان عَلَيهِ السَلام. ذلك أنَّ أصل القصة يقول “وأما أجناس الأكراد وأنواعهم فقد تنازع الناس في بدئهم فمنهم من رأى أنهم كذا ومنهم من رأى كذا ومنهم من رأى كذا الخ” أي أنَّ القصة تتحدث عن نوع أو بعض أنواع من الأكراد فقط وليس كلّهم. والمعنى المذكور في القصة ليس فيه إشكالٌ فضلاً عن عدم ثبوته، والله أعلم.
كذلك فلفظ الجن للبشر لا يراد به الأشباح في أفلام الرعب والقصص بل العمال المهرة والناس الغرباء كأولئك الذين يأتون من مكان بعيد أو منعزل مثل سكان الجبال والجزر النائية ونحوه. كما أن لفظ الجن لا يوجد فيه ما يعيب لأن كُلّ شخص غريب هو جِنٌّ لغيره سواء كان كردياً أو عربياً أو أوروبياً الخ. هذا على فرض صحة الرواية التي لا أساس لها.
أما عبارة (اكردوهم) الواردة في القصة فهي فعلٌ يعني (الإبعاد) في اللغة العربية حيث جاء في المعاجم اللغوية:
“كرد: الكَرْدُ: الطَّرْدُ. والمُكارَدَةُ: المُطارَدَةَ. كَرَدَهُمْ يَكْردُهُم كَرْداً: ساقَهم وطَرَدَهم ودفَعهم، وَخَصَّ بَعْضَهُمْ بالكَرْدِ سَوْقَ العَدُوّ فِي الحَمْلَة. وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَرادوا الدُّخُولَ عَلَيْهِ لِقَتْلِهِ جَعَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الأَخنس يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ ويَكْردُهُم بِسَيْفِهِ، أَي يَكُفُّهم ويطْردُهُم.” (لسان العرب، ابن منظور، 3/379، دار صادر – بيروت)
ففعل كردَ في اللغة العربية يقابل طردَ وأبعدَ، وهو لنوع من الأقوام الكردية فقط كما تدل الرواية للمسعودي الجغرافي المشهور.
أما الكرد كقوم فهم أقوام معروفون جاء ذِكرهم في نفس المعاجم اللغوية كما يلي:
“والكُرْد، بِالضَّمِّ: جِيلٌ مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ أَكراد؛ وأَنشد:
لَعَمْرُكَ مَا كُرْدٌ مِنَ ابناءِ فارِس
وَلَكِنَّهُ كُرْدُ بنُ عَمْرِو بنِ عامِرِ
فَنَسَبَهُمْ إِلى الْيَمَنِ.” (لسان العرب، ابن منظور، 3/379، دار صادر – بيروت)
أي أنَّ الكرد هُم أناسٌ معروفون بعينهم وفيهم طوائف كانت في اليمن وبلاد فارس، وهذا يفسر ذكر قصة ملكة سبأ في القُرآن الكَرِيم وارتباط هذه القصة واستقدام العمال المهرة (الجن) إلى مملكة سيدنا سليمان عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام. ولذلك نجدُ أنَّ كتاب سيدنا سليمان عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام إلى ملكة سبأ كان باللغة الأرامية وهي اللغة السائدة في ذلك الزمان والرسمية في المكاتبات بين اليمن والشام حيث كان اليهود في زمن سليمان عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام يتحدثون الآرامية ويدوّنون بالفينيقية، وهي كتابة عربية قديمة أصلها من اليمن، حتى إنَّ اسم “سليمان” المذكور في القُرآن الكَرِيم هو أصل التسمية في الآرامية أو السريانية “شليمون” وليس “شلومو” بالعبرية مما يدلّ على أنَّ لغة سليمان عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كانت بالفعل هي السريانية أو الآرامية إلى جانب العبرية (انظر: سليمان – شليمون).
وقد كانت الآرامية السريانية التي تسمى أيضاً الكلدانية في العراق هي اللغة الأوسع انتشاراً بين اليهود حتى إنها استبدلت العبرية تماماً فيما بعد وأنها هي لغة يسوع الأصلية. ولنقرأ من موقع حقيقة الكتاب المقدس:
“At the time when the books of Daniel and Ezra were written, most Jews could speak and understand both Hebrew and Aramaic. They understood Hebrew as the language spoken at home, among themselves, and in the reading of the Scriptures, while Aramaic was the language spoken in broader society. Over time, Aramaic replaced Hebrew as the primary language spoken by the Jews who lived in Palestine and regions to the east. … Because of this, Aramaic was the native tongue of our Lord; Hebrew was rarely used as a spoken language by Jews of the first century AD.” (TruthOnlyBible)
وبالرغم من أنَّ السريانية أو الآرامية والعبرية هي لغة اليهود في ذلك الوقت إلا أنَّ العربية أقدم منهما بكثير (انظر: MAARABIA).
الخلاصة أنَّ الكرد هم أقوام ككل الأقوام فيهم القادة الكبار والصلحاء والعلماء وأهل اللغة والفنون والفقه وغير ذلك وهُم من المؤمنين المسلمين الذين دخلوا الإسلام في أول بعثته وظهر منهم أعلام في الأمة أمثال سيدنا جابان أبو ميمون رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أول صحابي كردي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم والذي جاء ذِكره في كتب الحديث وشرْحِها وكذلك ابنه التابعي الجليل ميمون الكردي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي روى الأحاديث عن أبيه كما سمعها من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومن أعلام الكرد أيضاً الإمامُ ابن الصلاح عليه رحمة الله المحدّث العظيم والفقيه الذي يُعَدُّ من دعائم عِلم الحديث في الإسلام، وكذلك القائد الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله الغني عن التعريف، وكذلك من أعلام الكرد الإمام الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي تتلمذ على يديه أكابر علماء الإسلام كابن القيّم رحمه الله وغيره، ومن أعلام الكرد الحافظ العراقي رحمه الله المُحدِّث العظيم المعروف، ومنهم العالم والمؤرخ الكبير ابن خلّكان والعالم والمؤرخ ابن الأثير وغيرهم من الأعلام رحمهم الله بالإضافة لأهل العلم والصناعة والفن أولئك العظام الذين لا يسع المجال لذكرهم. ولو كان في أي أصل من الكتب الإسلامية أيُّ سوءٍ ضدّ الكرد -لا سمح الله- لما ظهرَ ونبغَ وبرزَ هؤلاء العظماء من الكرد الذين قادوا الأمة الإسلامية وصاروا من رموزها وركائزها الثابتة.
كما وصلت دعوة الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى الكرد منذ زمن خليفة المسيح الثاني حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حيث ذكر حضرته في كتاب “منهاج الطالبين” الصفحات 32-36 كيف تأثر الثوار الأكراد بقيادة الشيخ سعيد في تركيا بدعوى الجماعة الإسلامية الأحمدية ورغبوا جميعاً في الدخول للجماعة الإسلامية الأحمدية وكانوا ذوو قوة وبأس لدرجة أنَّ الحكومة التركية اضطرّت لجمع ثلاثمائة ألف جندي قادها رئيس الوزراء التركي “عصمت باشا” شخصياً للقضاء عليهم، وقد كان الشيخ سعيد قبيل مقتله قاب قوسين أو أدنى من ترك الثورة وتخصيص حياته للدعوة إلى الإسلام في الهند بعد قبوله الجماعة الإسلامية الأحمدية وسجّل المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كلام الشيخ سعيد بعد القبض عَلَيهِ كما يلي:
“لولاها (حادثة معينة) لما اشتركتُ في حركة التمرد هذه، لأنني كنتُ قد عقدتُ العزم على السفر الى الهند وتبليغ الإسلام بعد انضمامي إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية.” (منهاج الطالبين). ولكن الشيخ سعيد تعرض للقتل على يد الأتراك قبل أن يتمكن من تحقيق هذه الرغبة.
وكانت إشارة الشيخ سعيد رحمه الله إلى أنَّ تعاليم الجماعة الإسلامية الأحمدية تمنع المسلم من الثورة والتمرد على الحكام وأنه كان ينوي ترك التمرد لولا حادثة معينة سبقت معرفته بالجماعة.
وفي الختام لا نقول إلا أنَّ الكرد والبشر جميعاً عيال الله وأحبُّ النَّاسِ إلى الله تعالى أنفعهم لعياله. هذا بالعموم فكيف بالكرد المسلمين المؤمنين النجباء الذين منهم جاء عظام الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ