أين مجمع البحرين؟
فليكن معلوما أنه لا يوجد مكان بهذا الاسم على الأرض، وقصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح هي إسراء موسى الروحاني الذي يشبه إسراء نبينا صلى الله عليه وسلم.
وللتفصيل في هذا أنقل فيما يلي ما جاء في التفسير الكبير للخليفة الثاني للمسيح الموعود في تفسير هذه الآية، ويرجى مراجعة تفسير السورة كلها، ففيه التفصيل المتكامل:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا
شرح الكلمات:
لا أبرَحُ: ما برِح فلان كريمًا أي بقِي على كرمه (الأقرب).
أمضي: مضى الشيءُ يمضي ومضَا يمضو: ذهَب وخلا (الأقرب).
حُقُبًا: الحُقُب جمع الحُقْبِ وهي ثمانون سنة، ويقال: أكثرُ من ذلك. والحُقْب: الدهرُ؛ السنَةُ، وقيل: السنون (الأقرب).
تفسير الآية
لقد تحدّثَ الله تعالى في الآيات السابقة عن موضوع الصراع بين المسيحية والإسلام بلغة تمثيلية، حيث بيّن أنه صراع بين القوي والضعيف فيما يبدو، ولكن التدبر البسيط يكشف أن القوي من يتجه إلى الله تعالى، وليس مَن شغلته أمور الدنيا. كما أشار سبحانه أيضًا أنه من المقدر للمسيحية أن تزدهر أول مرة حتى مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ثم سيُحرز الإسلامُ الرقيَّ لفترة من الزمن، لتزدهر المسيحية ثانيةً. أما الآن فقد تناول الله تعالى الموضوعَ نفسه على أساس ما ورد في الكتب السماوية من أنباء بهذا الصدد.
وليكن معلومًا أن معارضي الإسلام – كما بيّنتُ من قبل- يطعنون في هذه السورة بأنها قد جمعت أحداثًا مختلفة من دون أي رابط بينها؛ بل إن اجتماع هذه الأحداث فيها كان باعث حيرة حتى للمسلمين أنفسهم، الذين اقتنعوا بقولهم إن اليهود سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن بعض الأمور فجُمع جوابها في هذه السورة.
ولكن الأمر ليس كذلك كما هو ظاهر، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا كان قد سئل بالفعل عن أصحاب الكهف وذي القرنين فلماذا أقحم الله تعالى بين ذكر أصحاب الكهف وذي القرنين كلَّ هذه التمثيلات المذكورة آنفًا وكذلك حادثَ موسى (عَلَيهِ السَلام) مع فتاه الذي يبدأ بهذه الآية؟ لِمَ لم يذكر الإجابة عن أصحاب الكهف وذي القرنين على الأقل في مكان واحد؟
الحق أن هذه المواضيع كلها قد وردت هنا بترتيب محكم، وقد جيء بكل حادث ومثال في محله وبمقتضى الضرورة. لقد سبق أن بيّنتُ الحكمة من ورود هذه الأمثال خلال قصة أصحاب الكهف، وأبين الآن الحكمة من ورود قصة موسى (عَلَيهِ السَلام) في هذا المكان.
لقد سبق أن بيّنتُ أن ثمة في الحياة القومية للمسيحيين أمرًا لم أجد لـه نظيرًا في حياة أية أمة أخرى. ذلك أن الأمة المسيحية نالت الرقي بعد عيسى (عَلَيهِ السَلام) لمدة من الزمان، ثم توقف رقيها لفترة بعثة نبي آخر وهو نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حيث حققت أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الرقي لفترة من الزمان، لتستأنف بعدها الأمةُ المسيحية رقيها ثانية؛ وقد أُشير إلى هذا الأمر من قبل بكلمة *نَهَرًا* في المثال السابق حيث قال تعالى *وفجّرنا خلالهما نهرًا*. أما الآن فقام بتوضيح نفس الأمر بذكر قصة موسى (عَلَيهِ السَلام) هنا. ذلك أن موسى * مثيلٌ لنبينا * بحسب النبوءة التوراتية التالية: “أُقيم لهم نبيًّا مِن وَسَطِ إخوتهم مِثلَك، وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أُوصيه به” (تثنية 18: 18). كما أشار القرآن الكريم أيضًا إلى هذه النبوءة في قوله تعالى *إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً*(المزّمِّل:16). إذًا فقد ذكَر القرآن واقعةَ موسى (عَلَيهِ السَلام) هذه بين عصري رقي المسيحيين للدلالة على أن ظهور هذا النبي المثيل لموسى بين هذين العصرَين كان ضروريًّا؛ وهكذا دفَع الشبهةَ القائلة بأنه لو كان هذا الذي ادعى النبوة بعد الرقي المسيحي الأول نبيًّا صادقًا فلماذا لم ينته الرقي المسيحي بعد ظهوره كليةً؟ أليس استئناف الرقي المسيحي بعد ظهوره بفترة من الزمن وبقوة أكبرَ يشكّل دليلاً على أن هذا المدعي لم يكن نبيًّا صادقًا، وإلا لأوقف مد الرقي المسيحي؟
لم أذكر هذا الأمر بناء على ذوقي، بل يدعمه أيضًا حادث موسى (عَلَيهِ السَلام) الذي سأقوم بشرحه لاحقًا. ولقد اكتفيت هنا بالإشارة إلى أن ظهور محمد * لما كان مقدَّرًا بين عصرَي الرقي المسيحي فذُكر حادث موسى (عَلَيهِ السَلام) – الذي كان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مثيلاً له – للفصل بين هذين العصرين، لتُسرد هذه الأحداث بحسب وقوعها المقدَّر.
لقد اختلف المفسرون في الواقعة المذكورة هنا. فقال أكثرهم – كما ورد في بعض روايات الحديث أيضًا – أن هذه الآيات تتحدث عن أخبار سفر قام به موسى (عَلَيهِ السَلام) للقاء رجل اسمه الخَضِر.
ثم اختلفوا في بيان دواعي هذا السفر، فقال بعضهم إن موسى (عَلَيهِ السَلام) قال لله يومًا: هل يوجد رجل أعلم منه؟ قال تعالى: نعم، يوجد الرجل الفلاني. فذهب موسى (عَلَيهِ السَلام) لملاقاته. وفي رواية أن موسى سُئل مرة: هل يوجد رجل أعلم منك؟ فقال لا أعلم. فأوحى الله إليه وأخبره عن مكان الرجل الذي كان أعلم منه، فذهب لزيارته. (الكشاف والقرطبي والطبري، والبخاري: كتاب التفسير سورة الكهف).
الحق أن الناس قد أخطأوا في فهم هذا الحادث. ذلك أن سورة بني إسرائيل أنبأت عن هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ونتائجها على شكل إسراء، حيث أخبرت عما سيحققه المسلمون من الرقي والازدهار، وعما سيحيق بهم خلال هذه الترقيات من الأخطار المتمثلة في المعارضة الشديدة مِن قبل اليهود والنصارى. وكان من أكبر هذه الأخطار الخطر الآتي من إحدى طائفتي الأمة الموسوية وهي طائفة النصارى – علمًا أن النصارى هم، عند الله تعالى، من أمة موسى وإن كانوا لا يعدّون أنفسهم منها. فأخبر الله تعالى أن هؤلاء سيُلحقون بالمسلمين في آخر الزمان ضررًا كبيرًا جدًّا. وقد ذَكَرَ الله تعالى إسراء موسى (عَلَيهِ السَلام) عقبَ إسراء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ليؤكد أن العاقبة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولأمته، وأن هذه الطائفة الثانية من أمة موسى، أي المسيحيين، لن يبقوا غالبين.
كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرى أن هذه الواقعة كانت كشفًا من كشوف موسى (عَلَيهِ السَلام) ، وأنها لم تقع بالجسم المادي (حقائق الفرقان ج 3 قولـه تعالى: وأما الغلام فكان أبَواه مؤمنَين). وبعد التدبر في الأمر توصلت إلى أنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كان مصيبًا في رأيه هذا. وإليكم الأدلة على ذلك:
الأول: أنه لا يوجد في التوراة أي ذكر لهذا السفر، مما يدل على أن هذا الحادث لم يقع في العالم المادي. كان من الممكن أن يختلف العهد القديم والقرآن الكريم لحد ما في بيان تفاصيل هذا السفر، أما أن يخلو العهد القديم عن ذكره أصلاً فهو أمر جد غريب.
نعم إن الروايات الإسرائيلية تتحدث عن معراج لموسى (عَلَيهِ السَلام) (الموسوعة اليهودية كلمة Ascension).
وقد بلغني أن عزيزي المولوي جلال الدين شمس قد استخرج من المصادر الموجودة في مكتبة المتحف البريطاني بلندن رواياتٍ يهودية تشير إلى معراج موسى، وأنه كان معراجًا بالجسد المادي. ولكن قولهم هذا ليس حجة علينا، إذ يوجد بيننا نحن المسلمين أيضًا من يزعم أن إسراء سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان بالجسد المادي (تفسير ابن كثير، وتفسير معارف القرآن: سورة الإسراء).
الثاني: لم يثبت لموسى (عَلَيهِ السَلام) قبل بعثته إلى بني إسرائيل إلا سفر واحد، وهو سفره إلى مَدْيَنَ، وقد ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع. وقد أجمع القرآن والعهد القديم على أنه لم يكن مع موسى في ذلك السفر أحدٌ (سورة القصص: 22- 24، وسفر الخروج 2: 15، 16). بينما نجد في السفر المشار إليه هنا رفيقًا لموسى تابعًا له على ما يبدو، لأن لفظ “فتى” إذا ورد مضافًا إلى أحد فيعني ابنَه أو خادِمَه. إذًا فكلمات هذه الآية لا تنطبق على السفر الذي قام به موسى إلى مَدْيَن. وبما أنه لم يثبت لموسى (عَلَيهِ السَلام) سفر غيره فثبت أن السفر المشار إليه لم يكن إلا كشفًا.
الثالث: لم يثبت لموسى (عَلَيهِ السَلام) حتى بعد بعثتِه سفرٌ فارقَ لأجله قومَه. ولقد سجّل العهد القديم أحداث حياة موسى من الأول إلى الآخر بترتيبها الواقعي، ولكن لا نجد فيها أيضًا ذكرًا لهذا السفر، وهذا يدل على أن هذا السفر لم يكن حادثًا ماديًّا.
الرابع: لما ذهب موسى (عَلَيهِ السَلام) لسماع كلام الله إلى الجبل الذي كان يقع على بعد بضعة أميال فقط من قومه، وبقي هناك أربعين ليلة، اتخذ بنو إسرائيل في غيابه العجلَ إلهًا (الأعراف: 143-149). فإذا كانت غيبته لمجرد أربعين يومًا أدّت إلى مثل هذا الفساد في قومه، فماذا عسى أن يقع فيهم أثناء غيابه الطويل عنهم بسبب هذا السفر الطويل؟ ولكننا نعرف أنه لم يقع أي فساد بين بني إسرائيل نتيجة هذا السفر، إذ لا تشير التوراة إلى أي فساد آخر غير الذي حصل باتخاذهم العجل إلهًا. كما أنه لم يكن من الحكمة أن يذهب موسى في مثل هذا السفر الطويل بعد ما شاهدَ من فساد قومه ما شاهدَ.
الخامس: عندما ذهب موسى إلى الجبل لميقات ربه أربعين ليلة استخلف أخاه هارون على قومه، ولكن لم يثبت أن موسى (عَلَيهِ السَلام) استخلف أحدًا – هارونَ أو غيره – خلال هذا السفر. إذا كانت التوراة قد سكتت عن ذكر أحداث هذا السفر لسبب ما، فكان من واجبها أن تذكر – على الأقل – استخلافَ موسى لأحد عند هذا السفر، إذ ليس من المعقول أن يذهب موسى (عَلَيهِ السَلام) لهذا السفر الطويل من دون أن يستخلف على قومه أحدًا. فعدم ذكره في الكتاب المقدس يدل على أن هذا السفر لم يكن بالجسد المادي.
السادس: أنه مما يتعارض مع سنة الأنبياء أن يفارقوا قومهم لأمد طويل بعد أن يبعثهم الله تعالى، حيث لا نجد بين الأنبياء الذين يذكرهم التاريخ نبيًّا واحدًا فعَل ذلك. لا ريب أن المسيح (عَلَيهِ السَلام) فارقَ قومَه حسب عقيدتنا، ولكنه في الحقيقة فارقَ طائفةً من قومه إلى طائفة أخرى منهم؛ وهناك أمثلة كثيرة حيث قام الأنبياء برحلات تبليغية بين قومهم، لكن سفر موسى (عَلَيهِ السَلام) هذا لم يكن من أجل التبليغ، كما لم يسافر في منطقة قومه، وإنما فارقَ قومه لمجرد أن يتعرف على الرجل الذي كان أعلم منه.
السابع: قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير الكنـز المذكور في هذا الحادث: “ما كان الكنـز إلا علمًا” (ابن كثير، قوله تعالى: ذلك تأويلُ ما لم تَسْطِعْ عليه صبرًا). والجلي أن ما قاله ابن عباس تعبيرٌ، والتعبير لا يكون إلا للكشوف والرؤى. ولما كان الكنـز علمًا فثبت أن الجدار الذي أقامه موسى ورفيقُه لم يكن جدارًا ماديًّا كذلك، كما أن الطعام الذي طلباه من أهل القرية لم يكن طعامًا ماديًّا. فإذا كان هذا الجزء من الواقعة كشفًا فلا شك في كون الواقعة كلها كشفًا من الكشوف.
الثامن: أن الشهادة النابعة من الحادث نفسه أيضًا تؤكد أنه لم يكن حادثًا ماديًّا. خُذْ مثلاً حادثة خرق السفينة، حيث قيل إنما خرَقها صاحبُ موسى كيلا يأخذها الملِكُ غصبًا. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تعطلت السفينة من ذلك الخرق أم لا؟ وإذا كانت لم تتعطل فلِمَ لم يغصِبْها الملكُ؟. وإذا كانت تعطلت بالمرة فلم لم تغرَق من الخرق الحاصل فيها؟ إذ من المستحيل في العالم المادي أن تسلم من الغرق السفينةُ التي يُنـزع لوح من ألواحها. ولكن رؤية مثل هذا المنظر في الكشف ممكن تمامًا، ولا يخالف العقل بتاتًا.
كذلك لا يمكن أن تؤخذ حادثة “قتل نفس بغير نفس” من حيث الظاهر، لأن العبد الذي تبعه موسى (عَلَيهِ السَلام) ليتعلم منه إما أن يكون نبيًّا أو وليًّا مقرَّبًا لدى الله تعالى. ولا يمكن أن يجترئ على قتل نفس بغير نفس حتى المؤمنُ العادي، فهل يرتكبه وليٌّ مقرّب أو نبيٌّ عظيم الشأن.
يقول البعض لإثبات جواز قتل الغلام أنه لو عاش لكان قتّالاً وسفّاكًا. ولكنا نقول: إنه من الظلم العظيم ومما ينافي الشرعَ تمامًا أن يعاقَبُ شخص على جنايةٍٍ لم يرتكبها بحجة أن الله تعالى كان يعلم أنه سيرتكبها في المستقبل؟ لو كان مثل هذا العقاب جائزًا فلماذا لا يعاقب الله تعالى عباده قبل ارتكابهم الجرائم لمجرد علمه أنهم سيرتكبونها؟ إن القانون الأساسي في الشرع هو أن لا يعاقَب أحدٌ على إثم قبل ارتكابه، وإن جميع الشرائع على اختلافها متفقة على هذا الأصل.
وقد قال البعض إن ذلك الغلام كان يقتل بالفعل خفيةً ولكن لم يظهر على أمره أحد (زاد المسير لابن الجوزي). ولكنه قولٌ سخيفٌ، إذ لو كان الأمر كذلك لذكره القرآن المجيد ليعلَم الناس ويطمئنوا بأن قتل الغلام لم يكن بلا سبب.
والحادث الأخير في هذا السفر هو إقامة الجدار، وهو أيضًا لا يمكن أن يؤخذ على ظاهره، إذ لا يُعقَل أن نبيًّا جليلاً كريمًا كموسى (عَلَيهِ السَلام) يلوم رفيقه على إقامة جدار اليتيمين لأن أهل القرية أبوا أن يضيّفوهما، وبخاصة أنه لم يكن لليتيمين البريئين دخلٌ في هذا، بل كان الذنب ذنب أهل القرية. ثم إنه بعيدٌ عن مروءة ونبل موسى (عَلَيهِ السَلام) أن يعترض على رفيقه لعدم اتخاذه أجرًا على إقامة جدار اليتيمين.
إذًا فأحداث هذا السفر تشهد بنفسها على أنه لم يكن سفرًا بالجسد المادي، بل كان كشفًا من الكشوف.
التاسع: إن هذه الواقعة بمجملها تؤكد أنها كانت كشفًا، لأن الأمور الثلاثة – الصادرة من عبد الله هذا الذي اتّبعه موسى (عَلَيهِ السَلام) – إذا حُملت على ظاهرها فهي ليست من الأهمية بحيث يسافر من أجل تعلُّمِها مؤمن عادي بَلْهَ أن يُرسل الله تعالى موسى ليتعلّمها. هل راح موسى (عَلَيهِ السَلام) ليتعلم كيف تُخرَق السفن، ويُقتَل الناس، وتقام الجدران المتهدّمة، وهل يؤخذ الأجر على إقامة الجدار أم لا؟ كلا، لن يسافر لتعلُّم مثل هذه الأمور حتى بدوي جاهل. إذًا فليس في هذه الأمور ما يجيز العقل اعتباره أمرًا ماديًّا هامًّا حتى يسافر من أجله نبيٌّ جليل الشأن كموسى الذي كان من أولي العزم من الرسل عليهم السلام.
العاشر: روى الماوردي أن الذي ذهب موسى للقائه كان مَلَكًَا (ابن كثير). وهذا يعني أنه لا بد من اعتبار هذه الواقعة كشفًا، إذ لا يُعقل أن يتكبد موسى (عَلَيهِ السَلام) عناء السفر المادي لزيارة ملاك قادر على أن يأتي إلى موسى في لمح البصر.
الحادي عشر: ورد في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: “وَدِدْنا أن موسى كان صبَر حتى يقصّ الله علينا مِن خبرهما” (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه). فإذا حُملت هذه الأمور على ظاهرها فلا أجد أنا في نفسي أدنى رغبة في معرفة هذه التوافه، كما لا أتصور أن أيّ عاقل سيتمنى ذلك؛ فكيف برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي شأنه أسمى من إدراك البشر؟ فثبت أن هذه الأمور كانت أنباءً تتعلق بزمن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتجلّتْ على موسى (عَلَيهِ السَلام) على صورة كشف. وبما أنها تشتمل على الغيب وتنبئ عن أحوال الأمة المحمدية لذلك تمنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يظل موسى صامتًا حتى تنكشف أمور أخرى أيضًا. فثبت من كل هذه الأدلة أن هذا الحادث كان كشفًا من الكشوف.
مما لا شك فيه أن هذا الحادث غير مذكور في العهد القديم، بيد أن كتب الروايات اليهودية تشير إليه. كما يتضح من المصادر الإسلامية أن مثل هذه الروايات كانت شائعةً بين اليهود في أوائل الإسلام، وإلا من أين أخذها المسلمون؟
غير أن الروايات اليهودية لا يمكن أن تؤثر على بحثنا، ولسنا مكلفين بقبولها ما لم يصدّقها القرآن والعقل والمشاهدة، بل إن قبولها من دون هذه الشروط لا يخلو من المزالق.
وملخص القول إن العقل والنقل كلاهما يقرّران كون هذه الواقعة مشهدًا من الكشوف الروحانية.
من هو العبد الذي ذهب موسى في إسرائه ليتعلّم منه؟
وهناك سؤال: من هو ذلك العبد من عباد الله الذي ذهب موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في إسرائه ليتعلّم منه؟ كان أستاذي المكرّم حضرة المولوي نور الدّين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم هو الذي تمثل لموسى. وقد تبين لي صواب رأيه بعد التدبر في الأمر، وأيقنت أن سيدنا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم هو الذي تمثل لموسى (عَلَيهِ السَلام) ، ومن أجل ذلك تمنّى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قائلاً: ليت موسى سكتَ حتى نزداد علمًا بالأمور التي تتعلق بمستقبلنا.
وأرى – ورأيي هذا لا يتأسس على فهمي فحسب – أن موسى لما تلقى النبأَ عن ظهور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عند جبل سيناء (تثنية 18: 18)، وعلِم أن نبيًّا عظيمًا سيظهر بعده، تمنى أن يشاهد ذلك التجلي العظيم الذي يظهر به اللهُ على ذلك النبي، فلم يتمالك نفسَه وقال: *رَبِّ أَرِني أنظُرْ إليك*؟ فأجابه الله تعالى: *لن تراني*، لأن كلّ واحد يرى التجلي الإلهي اللائق به.
ومما يؤيد رأيي هذا أن موسى (عَلَيهِ السَلام) كان سبق أن شاهد التجلي الإلهي قبل هذا السؤال حيث قال الله تعالى لـه: *إني أنا ربّك فاخلَعْ نَعلَيك إنك بالواد المقدَّس طُوًى*(طه: 13). فرغم مشاهدته التجليَّ الإلهيَّ من قبل لِمَ قال موسى مرة أخرى: *رَبِّ أَرِني أَنظُرْ إليك*؟
وقد يقال هنا: التجلي الذي شاهده من قبل كان روحانيًا، فأراد هذه المرة رؤية الله تعالى في صورته الأصلية. ولكن هذا القول تسفيهٌ لنبيّ الله موسى، ونعوذ بالله من ذلك، لأن طلب رؤية الله تعالى جهرةً في جسدٍ هو غاية السفاهة والجهالة، ولا يجوز عزوها لموسى (عَلَيهِ السَلام) . فثبت أن طلبه هذا لم يكن إلا للرؤية الروحانية. وبما أن التجلّي الإلهي كان حصل لموسى (عَلَيهِ السَلام) من قبل، فلا بد أن يكون طلبه هذه المرة لرؤية تجلٍّ من نوع آخر؛ وبما أنه (عَلَيهِ السَلام) سأل التجلي الإلهي هذه المرة بعد تلقِّي بشارة ظهور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مباشرة، لذا أستنتج من ذلك أنه سأل هذه المرة رؤيةَ التجلّي الإلهي الذي سينكشف على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم . فردّ الله عليه *لن تراني*.. أي ليس بوسعك أن تراني بالصورة التي يراني بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، لأن رؤية ذلك التجلي تتطلب من الرائي أن يكون حائزًا على المرتبة المحمدية التي لم تَحُزْها أنت. وبالفعل لما تجلّى الله للجبل خرّ موسى صعقًا، وعرَف أنه لم يكن بوسعه تحمل ذلك التجلّي العظيم.
فأرى أن الله تعالى أراد بهذا الكشف أن يُرِيَ موسى (عَلَيهِ السَلام) سُموَّ مكانة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذ لم يكن الخضرُ في الكشف إلا حبيبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي لم يكن موسى (عَلَيهِ السَلام) قادرًا على السير معه. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبارِكْ وسلّم إنك حميد مجيد.
أما قوله تعالى *وإذ قال موسى لفتاه* فقد ورد في الروايات أن ذلك الفتى هو يوشع بن نون (الكشاف). ولا غرابة في أن يكون موسى قد رأى معه في الكشف يوشع، ولكني أرى أن هذا الفتى هو في الحقيقة عيسى (عَلَيهِ السَلام) الذي كان من المقدر أن يُبعَث في آخر الأمة الموسوية لهداية بني إسرائيل؛ وكأن سفر موسى هذا ما كان ليبلغ نهايته إلا مع عيسى عليهما السلام.
والحق أن هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها أيضًا تدعم رأيي بأن هذا الفتى هو عيسى (عَلَيهِ السَلام) ، إذ لم تذكر أن موسى أخذ معه فتاه حين خروجه من البيت، بل إنها لا تشير حتى إلى بداية سفره هذا. كل ما ورد فيها هو أن موسى (عَلَيهِ السَلام) وجد نفسه في حالة السفر مع فتى، فقال لفتاه: سأظل أمشي حتى أبلُغَ مجمَعَ البحرينِ أو أمضيَ حُقُبًا. وإن اللفظ الذي استعمل لبيان مدة هذا السفر هو حُقُب وهو جمع الحَقْب الذي معناه ثمانون سنة أو أكثر منها. والحق أن هذا اللفظ في اللغة العربية يقوم مقام القرن أي مائة سنة، وقد يُستعمل بمعنى سنة أو عدة سنين أيضًا. وإذا أخذنا المعنى الأخير فقوله *أو أمضيَ حُقُبًا* يعني أو أمشي سنين أو عشرات السنين. والظاهر أن مفارقة نبي لقومه لسنوات يتنافى مع العقل، بل يؤدي إلى التشكيك في ضرورة النبوة نفسها. إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لما وجد نفسه مضطرًا للهجرة إلى المدينة أمَر أصحابه بالهجرة إليها قبل أن يهاجر هو نفسُه، كما كان في المدينة نفسِها جماعةٌ من المؤمنين المخلصين تنتظرهم. إذًا فلو كان موسى (عَلَيهِ السَلام) يعني بقوله: *أو أمضيَ حُقُبًا* أنه سيظل يمشي لسنوات فهذا أيضًا يدل على كون هذه الواقعة كشفًا. أما إذا أراد به أنه سيظل يمشي لقرون – وهو الأصح عندي – فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الله تعالى قد أجرى هذه الكلمات على لسان موسى للدلالة على أن سفره الروحاني – أي زمن أمته – سيمتد إلى قرون طويلة.
وعندي أن في ورود هذه الجملة في هذا المقام حكمةً أخرى، وهي أنه كان من المقدر – لدى تلك المرحلة من السفر الموسوي التي سيُرافقه فيها فتاه – أن تعتقد طائفة من أمّة موسى خطأً بانتهاء سفره وبداية سفر فتاه عيسى؛ بمعنى أنها ستظن أن زمن الشريعة الموسوية قد انقضى، وأن عيسى قد جاء بدين جديد؛ لذلك دحض الله تعالى هذه الشُّبهة بهذه الجملة على لسان موسى وبيّن أن سفر موسى لم ينته بلقاء فتاه بل سينتهي عند مجمع البحرين، أي لدى بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم . وكأنه تعالى يقرر هنا أن عيسى لن يأتي بدين جديد، بل يكون تابعًا ومؤيِّدًا لدين موسى، ولن يُنهي سفرَ موسى بل سيكمِّله كنائب عنه. وهذا الأمر قد أكده عيسى (عَلَيهِ السَلام) نفسُه حين قال: “لا تظنوا أني جئتُ لأنقُضَ الناموسَ والأنبياء. ما جئتُ لأنقض بل لأُكمِّلَ” (متى 15: 16).
يظهر من هذا الكشف أن موسى إما بدأ سفره هكذا بأن وجد نفسه وكأنه على سفر مع فتاه، وأنه متحيّر لعدم الوصول إلى غايته المنشودة؛ وإما أن هذا الكشف كان طويلاً، فلم ير القرآن المجيد حاجة إلى ذكر بدايته التي اشتملت على أحداث لا علاقة لها بالموضوع. ذلك أنه لا يقول أحد: *لا أبرَح حتى أبلُغَ مجمَعَ البحرينِ أو أَمضيَ حُقُبًا* إلا إذا كان قد ضلّ الطريق لفترة طويلة، فتأخذه الحيرة فيقول: أين غايتي المنشودة؟
وعندي أن هذا أيضًا دليل على أن الفتى الذي لقي موسى قبيل انتهاء سفره، وصار رفيقه في هذا السير الروحاني هو عيسى عليهما السلام.
أين مجمع البحرين؟
واعلم أن لفظ *مجمع البحرين* أيضًا يؤكد كون هذه الواقعة كشفًا، إذ ليس ثمة مقام معروف بمجمع البحرين. هناك ثلاثة أماكن هي أقرب المواضع إلى المقام الذي سكن فيه موسى (عَلَيهِ السَلام) بعد الهجرة يلتقي فيها بحران، وهي:
- مضيق باب المندب حيث يلتقي البحر الأحمر والمحيط الهندي.
- مضيق الدردنيل حيث يلتقي بحر الروم وبحر مَرْمَرَة.
- مضيق البحرين حيث يلتقي الخليج الفارسي والمحيط الهندي.
كل من هذه الأماكن الثلاثة يبعد عن وطن موسى (عَلَيهِ السَلام) نحو ألف ميل، ونظرًا لحالات ذلك الزمان كان السفر إليه يستغرق سنة تقريبًا. وكما هو بيّنٌ من الكشف أن موسى سافر ماشيًا على ساحل البحر، وفي حال اعتباره سفرًا مادّيًّا فليس مجمع البحرين هذا إلا مضيق الدردنيل لأنه هو المكان الوحيد من بين هذه الأماكن الثلاثة الذي يمكن أن يصل إليه المرء من مسكن موسى (عَلَيهِ السَلام) عبر ساحل البحر. ولكن هذا الطريق يمر بأرض كنعان التي لم يستطع موسى (عَلَيهِ السَلام) أن يدخلها أبدًا في حياته، كما يشهد عليه العهد القديم (تثنية 34: 5). وهذا دليلٌ آخر على كون هذه الواقعة كشفًا.
فالحقيقة أن مجمع البحرين ليس اسم مقام ماديّ خاص، بل هو اسم يتطلب تعبيرًا، حيث ورد عن البحر: “يدلّ في المنام على مَلِكٍ قويٍّ هائل مهابٍ عادلٍ شفيقٍ يحتاج إليه الخلائقُ.” ثم يقول: “وربما دلَّ البحر على التسبيح والتهليل” (تعطير الأنام: كلمة البحر).
وكأن هذا التعبير القرآني الأخير يومئ إلى قول الله تعالى في مستهل سورة الإسراء: *سبحان الذي أَسرَى بعبده*. فالمراد من مجمع البحرين الزمن الذي انتهى فيه عهد موسى (عَلَيهِ السَلام) وابتدأ عهد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم .. أي أن الساعة التي تلقى فيها سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أولَّ وحي النبوة كانت مجمع البحرين، حيث انتهت الحدود الزمنية لمُلك موسى (عَلَيهِ السَلام) الذي كان حاكمًا روحانيًّا عادلاً شفيقًا لا غنى للخلق عنه، وابتدأت الحدود الزمنية لمُلك محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي كان أكبر البِحار أي الملوك الرّوحانيين. فكأن الله تعالى أراد بإراءة موسى (عَلَيهِ السَلام) مجمعَ البحرين أن يدله على زمن ينتهي فيه عهد أمّته ليبدأ من هناك بحر آخر أي زمنُ نبي جديد، وأنه لن ينال بعد ذلك أحدٌ أسباب الحياة الروحانية إلا الذي يغوص في هذا البحر الجديد.
هذا، وتتضمن هذه الرؤيا أيضًا الإشارةَ إلى أن السلسلة الموسوية كانت إرهاصًا للسلسلة المحمدية، وأن البحر الموسوي سيلتقي في نهاية المطاف بالبحر المحمدي؛ والدليل على ذلك هو مجيء جبريل (عَلَيهِ السَلام) بنفسه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الإسراء، بينما نجد موسى (عَلَيهِ السَلام) في كشفه يخرج بنفسه مع فتاه إلى مجمع البحرين حيث انتهى سفره (الدر المنثور، ودلائل النبوة للبيهقي: باب الإسراء).