يظن البعض بأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين هم المخاطبون بالشك وسؤال اليهود والنصارى حول الحقيقة حسب الآية {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ}، وهذا ظنٌّ خاطئ باطل بالبداهة وبالأدلة القرآنية نفسها أيضا، والصواب هو أنَّ الخطاب في الحقيقة موجَّهٌ للمعترض المشكّك الذي يدّعي بأن القُرآن الكَرِيم لا يعطيه الطمأنينة والنفع أن اسأل أهل الذكر -أي القُرآن الكَرِيم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة النحل 45)- اسأل أهل الذكر المؤمنين الذين عرفوا القُرآن الكَرِيم قبل أن تعرفه أيها المعترض المشكك ونالوا الطمأنينة والانتفاع العظيم من هذا الكتاب، وسوف تدرك إذا سألتهم بأن اعتراضك وتشكيكك لا يلامس الواقع لأن الدليل العملي الحقيقي من خلال المؤمنين به قائمٌ على أن القُرآن الكَرِيم كتابٌ يهب الطمأنينة والنفع الروحي التامّ ويوُصل إلى الله تبارك وتعالى.
لنقرأ تفسير المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لقوله تعالى:
﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ . إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ (سورة يونس 95-98)
يقول حضرته رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“لا تعني الآية أن القرآن الكريم يولّد الشكوك في القلوب، وإنما المقصود ما يردده الكفار من اعتراض، إذ زعموا بأن القرآن يوقعهم في الشُبُهات. فردّ الله عليهم قائلاً: أيها المعترض، إذا كان هذا الكلام يسبّب الشكوك في قلبك -كما تزعم- فاسأل الذين قرءوه وانتفعوا به، لتعرف أنه يطهر القلوب وينير الباطن ويهب اليقين. كما تبين الآية بكل وضوح وجلاء أن الكتاب السماوي وحده لا يكفي لهداية الناس، بل لا بد من معلّم يعلّمهم إياه، لأن معرفة العلوم الروحانية تتطلب تجربة روحانية ولو قليلة. فإذا درس الإنسان كتابًا سماويًا يجب أن لا يبتّ بنفسه في الأمور التي يساوره الشك فيها، بل عليه أن يستشير فيها أولي العلم بهذا الكتاب، لأنه إذا كان هذا كلامًا إلهيًا في الحقيقة فلا بد أن تنكشف مفاهيمه وفق ما يتمتع به القارئ من روحانية وقربٍ لدى الله عز وجل. لقد ظنّ البعض خطأً أن ضمير الخطاب هنا يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنهم هم الذين شكوا في الوحي القرآني، فأمرهم الله أن يسألوا في شأنه اليهود والنصارى. ولكنه من المستحيل أن يكون هذا الكلام موجَّهًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الذي يتلقى وحي الله تعالى لا يمكن أن يَشُكّ في صحته. فلا جرم أن الخطاب هنا أيضًا موجه إلى الذين اختلفوا فيه. وقد سبق أن أَثبتُّ خطأ هذا الزعم بالبراهين، لأن الله تعالى قد أكّد إيمانهم القوي بصدق القرآن في موضع آخر بقوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 109). وبديهي أن المقتنع بالشيء على وجه البصيرة والخبرة لا يمكن أن يساوره الشك فيه. كما أن الآية التالية أيضًا تدحض هذا الزعم الفاسد كليةً.
﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾
… الكلمة هنا تعني الوعيد بالعذاب، والمراد من الآية أن الذين استوجبوا الإنذار بالعذاب ثم لم يسعوا للنجاة منه فإنهم لن يؤمنوا أبدًا. والآية تؤكد أنه كلما يخبر القرآن الكريم أن الكفار لن يؤمنوا فإنما يريد به فقط الكفار الذين لا ينتفعون من الإنذار، وليس جميع الكفار.
﴿وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾
… تصرح الآية أن الذين لا يريدون الانتفاع بالحق الذي ينزل على رسل الله عز وجل لا تنفعهم الآيات النازلة من عند الله شيئًا، بل إنّ كبرى المعجزات تصبح في نظرهم خدعةً وشعوذة. إذن، فلا عبرة ولا قيمة لما يردّده أعداء أي نبي من أنه لم يُرهم آية ولا معجزة، وإلا لكانوا قد آمنوا به، وإن كان هؤلاء المعارضون جهابذة ونوابغ في العلوم. بل يجب على كل إنسان أن يتخذ بنفسه القرار في أمر النبي بعد التدبر الكافي في أمره، وبعد قياسه على سنة الأنبياء الآخرين وأحوالهم، حتى لا يُحرَم من قبول الحق.” (التفسير الكبير، سورة يونس)
لذا فإن تفسير المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المتناسق القائم على الدليل العلمي والعملي هو في الحقيقة مبيّنٌ ومصرّحٌ به في الآيات التالية لما شرحه حضرته أعلاه، وخاصة الآية التالية التي أتت بعد ثلاثة أو أربع آيات فقط، أي قوله تعالى:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 105)
فيقول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“لقد أمر الله هنا رسوله أن يقول للكفار: كيف تدّعون أن الشكوك تساوركم حول ديني، مع أنني لا أزال على نفس الدين الذي كنت عليه من قبل، ولا أنفكّ كارهًا ومتبرئًا من الشرك كما كنت في الماضي. ولم أزدَدْ في ديني هذا إلا إيمانًا ويقينًا.” (نفس المصدر)
إذن فالخطاب للمشككين وليس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بل هو قول النبي ﷺ لمن يشكك ويعترض لا العكس. ويكمل المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير الآيات التالية لها التي تصرح بأن الشك هو عند المعترضين وليس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُعلن بأن الحق أي القُرآن الكَرِيم قد جائكم يا من تشككون أي أن المشككين هم المقصودون بالخطاب:
﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾ (يونس 108-109)
فيقول رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“لقد صرّح اللهُ هنا أن القرآن الكريم ليس بمسئول عمّا ينشأ في قلوب الكافرين من شبهات وشكوك، وإلا لوجب أن تتولد هذه الشكوك في قلبي أنا قبل أي شخص آخر، لأنني أنا الذي نزل عليه القرآن. ولكني ثابت على صخرة من اليقين، وقد جعلني هذا القرآن محبًّا كاملاً لله تعالى، وزاد عقلي فراسةً وأفكاري استنارةً، وأزال عن عيني كل غطاء لما سوى الله، وكأن كل ما دونه قد غاب عن أنظاري فيما يتعلق بنفعي وضرّي. إن تأثيره المذهل هذا يؤكد بطلان زعمكم، وأنَّ كل ما عندكم من رِجس الشكوك إنما هو وليد أفكاركم المريضة. ثم أتبعه بقوله {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي لا جرم أن قلوبكم قد فسدت، غير أنني أؤكد لكم أنكم لو تضرعتم إلى الله طالبين غفرانه فسوف يطهر قلوبكم ويزيل عنها كل رجس وفساد، ويهب لكم اليقين كما وَهَبَه لي أنا.
… ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾ … أي أن هدايتكم أو ضلالكم لن يجلب علي أي نفع أو ضرر، لأنني لست مسئولاً عنكم، ولو أنني كنت كذلك لكانت مسؤولية ضلالتكم عليّ دون شك ولعاقبني الله عز وجل؛ إذ لم أُجْبِرْكم على الهدى وأنتم تَضِلّون. إنما أنا رسولٌ وما على الرسول إلا البلاغ.” (نفس المصدر)
وتختتم السورة بقوله تعالى:
﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ (يونس 110)
يقول حضرته رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“هنا في آخر السورة وجّه الله الأنظار إلى نفس الموضوع الذي بيّنه في مستهلها، وقال: إن أمر الله مفعول لا محالة، وكما أنه حكيم فهو حاكم كذلك. فما عليك أيها الرسول إلا أن تستمر في تبليغ رسالة ربك، وأن تتحمّل في سبيل ذلك أذاهم غير مكترثٍ به إلى أن يُصدِرَ الله فيهم قضاءَه.
أما قوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فإشارة إلى أن قضاءه جلّ شأنه سيكون خيرًا لك. وبالفعل فقد أنزل الله قضاءه الذي وقف حيالَه العالمُ مبهورًا مبهوتًا، حيث أصبح المتعطشون لدم النبي صلى الله عليه وسلم عاشقين له، وَلِهِين به، يفدونه بأرواحهم. لقد آمنتْ به مكة كلها فجأةً كما فَعَلَ قوم يونس عليه السلام، وتوافد عليه القوم أفواجًا، يدخلون في دينه وينضمون تحت لوائه صلى الله عليه وسلم.” (نفس المصدر)
وهكذا يعود الموضوع إلى بدايته وهو أنك أيها المعترض وكل من يشكك في القُرآن العظيم اسألوا المؤمنين قبلكم كيف آمنوا بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وهذا الكتاب المبين وكيف نالوا الطمأنينة والنفع الروحي والقرب من الله تبارك وتعالى وكيف تحوّل ألدّ الأعداء إلى عاشقين لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وكتابه الكريم.
وفي نفس السياق والمعنى يقول تعالى في موضع آخر من القُرآن الكَرِيم:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة النحلً 44)
فيشرح المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“الذِّكر: التلفظُ بالشيء؛ إحضارُه في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيتُ، ومنه: “له ذِكرٌ في الناس”؛ الثناءُ؛ الشرفُ .. وفي القرآن {إنه لذكرٌ لك ولقومك}؛ الصلاةُ لله تعالى والدعاءُ .. “إذا حَزَبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الذكر”؛ الكتابُ فيه تفسير الدين ووضع الملل. والذِّكر من الرجال: القويُّ الشجاعُ الأَبيُّ؛ والذِّكر من المطر: الوابلُ الشديد والذِّكر من القول: الصلبُ المتين (انظر: معجم أقرب الموارد).
أما قوله تعالى {فَاسْأَلُوا أهلَ الذِّكرِ إِن كنتم لا تعلَمون} فوجّه به اللوم إلى الكفار، إذ كانوا يدّعون أنهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنهم على علم بأحوالهما وكانوا يعرفون كيف أنهما نجحا في مهمتهما على الرغم مما لقيا من معارضة وإيذاء (راجع: السيرة النبوية لابن هشام: سياقة النسب مِن وُلدِ إسماعيل). فيلومهم الله عز وجل ويقول: يبدو أنكم قد نسيتم ما جرى على آبائكم، فاسألوا أهل الذِّكر عنهم إن كنتم لا تعلمون! وبما أن الذكر يعني حفظ الشيء أيضًاً فالمراد: اسألوا عن أحوالهم مَن يذكرها ويحفظها .. أي المسلمين.
ما أروعَ أسلوبَ القرآن هذا، وما أشدَّه تأثيرًا، ولا جرم أن قلوب الكفار تكون قد تقطعت بسماع هذا الكلام المليء بالتعنيف والتقريع. أما قوله تعالى {نوحي إليهم} فقد أشار بذلك إلى أن عزة النبي ليست بالجنود والأسباب المادية، إنما ثروته الوحي، وبه ينال الفتح والظفر.” (التفسير الكبير، سورة النحل)
ويبيّنُ حضرته في سياق مماثل أيضاً من تفسيره لسورة الأنبياء ما يلي:
“يقول القرآن إن المسيحيين يقولون أن هناك آلهة من دون الله تعالى مثل الروح القدس والمسيح. وهذا باطل. إنما هو إله واحد. ولست أنا الوحيد الذي يدعو إلى هذا التعليم، بل إن الأنبياء الذين أتوا قبلي كإبراهيم وإسحاق وموسى كلهم قد دعوا إلى هذا المبدأ نفسه. والكتاب المقدس مليء بهذا التعليم (الآيات 22 – 25)
في الأزمنة الخالية أيضًا قد جاء البشر من عند الله تعالى لهداية الناس، ولم يأت ابن لله تعالى كما يقال عن المسيح. فكيف يزعم المسيحيون أن الله تعالى قد اتخذ أحدًا من البشر ابنًا له. إنه تعالى أسمى من ذلك، إذ لا تحتاج إلى الأبناء والأولاد إلا الكائنات التي يأتي عليها الفناء. ولكن الله تعالى منزه عن كل عيب، ومن المحال أن يقترب منه الفناء، فما حاجته إلى الابن؟ وكذلك يرغب في الولد من يحتاج إلى مساعد، ولكن الله تعالى ليس بحاجة إلى أي مساعد؛ إنه قادر على إدارة أموره كلها بنفسه. إنه تعالى لا يزال منذ البداية يختار بعضًا من عباده ليكرمهم برسالته. وهكذا قد اختار المسيح أيضًا وشرّفه. فمن الظلم العظيم أن يتنكر هؤلاء لهذه المنة الربانية ويتخذوا عبدًا من عباد الله، الذي أكرمه وشرفه، ابنًا له وبالتالي ندًّا له سبحانه وتعالى. (الآيات 26 – 27)
إن سائر الأنبياء الذين أتوا من قبل من عند الله تعالى إنما اعتبروا أنفسهم تابعين لله تعالى، عاملين بأوامره ووصاياه. والحق أن المسيح أيضًا كان مثلهم، ولكن المسيحيين أطروه إطراءً، فأخرجوه من صف الأنبياء الآخرين. والحق أنه ليس إلا واحدًا من عباد الله المختارين. (الآيتان 28 – 29)” (التفسير الكبير، سورة الأنبياء)
ويكمل حضرته رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“لقد أخبر اللهُ تعالى هنا أن الرسل قبلك أيضًا كانوا بشرًا كاملي القوى، والفرق الوحيد بينهم وبين غيرهم من شرفاء قومهم هو أن الله كان يوحي إليهم.
لقد سمى اللهُ هنا الأنبياء الآخرين أيضًا رجالاً أي أناسًا ذوي قوى كاملة، ولم يصفهم بذلك مقارنةً بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل مقارنة بأناس آخرين من قومهم، فإن كل نبي يكون أشرف قومه وأفضلهم. ثم يقول الله تعالى {فسْئلوا أهلَ الذكر إن كنتم لا تعلمون} .. أي لقد كان قبلكم أهل الكتاب، فاسئلوهم هل جاءهم رسل بشر أم رسل آلهةٌ؟
الحق أن هذه الآية جاءت إفحامًا لمن يقول {هل هذا إلا بشرٌ مثلُكم}، فكيف تصدّقون بما يقول لكم؟ يقول الله تعالى لم نرسل قبلك لهداية الناس إلا رجالاً كنا نوحي إليهم. فسئلوا اليهود والنصارى إن كنتم لا تعلمون. ذلك لأن معارضي النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين بنبوة إبراهيم عليه السلام وصلاحه على الأقل. فإذا كان إبراهيم رسولاً بشرًا، فلم يعترضون الآن على مجيء رسول بشر؟
إن فائدة مثل الجواب الإفحامي تكمن في أن المعترض لا يتعصب ضد أمر هو مقرٌّ به، ويكون بحوزته أدلة على صحة ذلك الأمر. فعوضًا عن أن نسوق الأدلة على ما اعترض عليه، من الأسهل أن نعرض عليه شيئًا مما هو مسلّم به عنده، لكي يعرف صدق ما يعترض عليه بمساعدة الأدلة التي هو يملكها على صدق ما يسلّم به. وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه الله تعالى هنا، فبدلاً من أن يدلل الله على أن النبي لا بد له من أن يكون بشرًا، اكتفى الله بقوله إن الرسل السابقين الذين تؤمنون بهم كانوا هم الآخرون بشرًا، فلِم صدقتموهم؟
﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ (الأنبياء 9)
يجب أن لا ينخدع هنا أحد فيقول إن أمة عيسى عليه السلام تؤمن بأنه ابن الله، أو أن قوم رام أو كرشنا يعدّونهما إلهين، فلمْ يكونا بشرًا برأيهم. ذلك أنهم سواء اعتبروهم ابن الله أو آلهة فإنهم لا يمكن أن ينكروا أن كل واحد منهم قد وُلد من بطن امرأة، وأنه كان له جسد إنسان، وأنه لم يكن أسمى من الأكل والشرب والموت. إن هذا الإقرار منهم يثبت أنهم كانوا يؤمنون بكونه بشرًا في الحقيقة. وبالفعل ترون أن التوحيد قد وجّه من خلال الإسلام لهذه العقائد الوثنية ضربة قوية حتى أخذ الهندوس والنصارى هم الآخرون يقولون نحن أيضًا نؤمن بالتوحيد.” (التفسير الكبير، سورة الأنبياء)
هذا التفسير في الواقع يشهد عليه الوقت الحالي أيضاً حين يبدأ الملاحدة وأعداء الإسلام بمهاجمة الإسلام وكتاب الله تعالى وسنّة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بحجة أن تصرفات المسلمين اليوم هي انعكاس لعقيدة الإسلام التي تأمرهم بالشر والعياذ بالله فيأتي الرد سريعاً ودامغاً من مثال علمي وعملي وهو الجماعة الإسلامية الأحمدية التي تزداد حباً للناس وخدمةً للخلق على أساس اتّباع تعاليم الإسلام في القُرآن الكَرِيم وسنّة النبي الأكرم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فلا يمكن بوجود هذا المثال الحيّ من الواقع لوم الإسلام والقُرآن الكَرِيم وسنّة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم على أي تصرف لا يقبله القانون الإنساني لأنه أصلاً مسطور في القُرآن الكَرِيم والسنة العملية فقبل أن يخالف أي قانون وضعي فهو يخالف القُرآن الكَرِيم والسنَّة بالأصل. طبيعي ليس كل المسلمين يفعلون ما يدَّعيه الملاحدة بل إنَّ الغالبية من عموم المسلمين هم أهل فطرة صالحة يُؤْمِنُونَ بأن الإسلام هو دين السَلام، وبوجه خاص يتجلّى ذلك على أرض الواقع من خلال ما تقوم به جماعة من المسلمين وهي الجماعة الإسلامية الأحمدية المنتشرة حول العالم من خدمات للبشرية والبيئة ونشر السَلام بكافة الطرق المعروفة وبالجهود المتظافرة التي تتلقى الأوامر من الخلافة المباركة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عبر خادمه المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام. فإن شككت واعترضت أيها المعترض فاسأل/انظر إلى المسلمين الأحمديين لترى التجلّي الحقيقي للإسلام.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ