لا يطلب الإسلام مجرد العدل ويعتبره قمَّة الحسنة، بل يريد الارتقاء بالحسنة إلى ما فوق العدل؛ ألا وهو الإحسان الذي يتنازل فيه صاحب الحق عن بعض حقوقه ويعفو عن المخطئ بحقه، ثم أن يرتقي بهذا الإحسان بحيث يقوم به بدافع فطري لا يبتغي فيه جزاءً ولا شكورا كإحسان ذوي القربى إلى بعضهم والذي في قمته إحسان الأم الرءوم لأبنائها. وهذا هو صلب تعاليم الإسلام وغاية الشريعة الإسلامية؛ التي لا تكتفي بتوجيه الإنسان نحو هذا الهدف بل تعمل على تدريبه وإعداده عليه عمليا ليصبح جزءا من طبيعته.
فبينما ركزت اليهودية على العدل وأهميته وضرورة إقامته، وركَّزت المسيحية على الإحسان ومزاياه وضرورة التحلي به، تقدَّم الإسلام وقدَّم إيتاء ذي القربى ليضع العدل والإحسان في نطاقهما الصحيح المناسب للمحلِّ، وليرتقي بالحسنة إلى أعلى درجاتها لكي تصل إلى كمالها وتستدام.
فمما جاء في اليهودية حول العدل:
{لاَ يَكُنْ لَكَ فِي كِيسِكَ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ. لاَ يَكُنْ لَكَ فِي بَيْتِكَ مَكَايِيلُ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ. وَزْنٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، وَمِكْيَالٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ} (اَلتَّثْنِيَة 25 : 13-15)
ومما ورد في القصاص جاء في التوراة:
{نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْل.} (اَلتَّثْنِيَة 19 : 21)
ولكن مفهوم العدل في اليهودية كان مجرَّدا إلى حد كبير مما جعل اليهود يقعون في الخطأ لتركيزهم على العدل ونسيانهم للإحسان. بل انحرف العدل ليصبح مفهومه عندهم أن يعدلوا فيما بينهم وأن يركزوا على تحصيل حقوقهم وإن ظلموا الآخرين.
أما في المسيحية، التي جاءت لتهذيب اليهودية، فقد جاء في الإحسان:
{سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. } (إِنْجِيلُ مَتَّى 5 : 38-41)
أما الإسلام فقد جاء فيه:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (النحل 91)
فما يريده الإسلام لا أن نعدل مع الناس ونعطيهم حقوقهم فحسب، بل يجب أن نبادر معهم بالحسنة ونعطيهم فوق ما يستحقون ونتجاوز أيضا عن حقوقنا وعن أخطائهم بحقنا بدافع الإحسان. ولكن بما أن الإحسان قد يورث الكبر في النفوس ويُشعر المحسِن بأنه خير من المحسَن إليه لأنه أسدى إليه معروفا، فما يريده الإسلام هو أن نحسن ولا نشعر بهذا الشعور، بل أن نقوم بذلك تلقائيا مدفوعين بحبنا للبشرية وذلك حبَّا بالله تعالى الذي خلقهم. ولا يكتفي الإسلام بأمرنا بهذا، بل يعمل على تدريبنا وتطويرنا ليصبح الإحسان بدرجة إيتاء ذي القربى جزءا من طبيعتنا.
وقد عالج الإسلام الآثار الضارة من مجرد التركيز على العدل فقط كما في اليهودية التي أدت إلى قسوة القلوب والظلم أيضا نتيجة الاختلاف حول الحقوق أو وقوع الأخطاء في إنزال العقوبة، ومجرد التركيز على الإحسان في المسيحية الذي يؤدي إلى ضياع الحقوق وتقوية الأشرار إذا لم يعاقبوا أو يخافوا العقوبة ويرتدعوا، وبيَّن بأن تحقيق العدل واجب، ولكن حبذا لو أحسن صاحب الحق وتنازل عن شيء من حقه لوجه الله تعالى وبقصد الإصلاح وتحقيق الخير بشرط مراعاة المحلِّ المناسب. لذا يقول تعالى:
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } (الشورى 41)
لذلك فقد بيَّن الإسلام أن الإحسان بالعفو أولى إذا كان سيترتب عليه الإصلاح، أما إذا لم يكن في محلِّه وأدى إلى الفساد فالعقوبة أولى، وأشار في هذه الآية أن الذين يركزون على القصاص وحده ولا يراعون الإحسان والعفو والصفح في محله سيقعون في الظلم، والله تعالى لا يحب الظالمين.
ولم يكتفِ الإسلام بمجرد الحض على الحسنة وتبيان درجاتها، بل بين بأن الحسنة لا يمكن أن تقوم وتتحقق إلا باجتثاث السيئة التي تحول دون الحسنة أصلا. وكما أن الحسنة متدرجة فالسيئة أيضا هي كذلك، فهي تبدأ بالفحشاء الذي هو الإثم والخطيئة التي تخصُّ الإنسان والتي يرتكبها ولا يطَّلِع عليها أحد، والمنكر هو الإثم والخطيئة التي يراها النار ويستنكرونها وإن لم يقع شيء منها عليهم، أما البغي فهو الإثم والخطيئة التي فيها اعتداء على حقوق الآخرين والتي لا تخصُّ مرتكبها وحده. فلا بد من ترك البغي ليتحقق العدل، ولا بد من ترك المنكر ليتحقق الإحسان، ولا بد من نزع الفحشاء من فطرة الإنسان ليرتقي ويصبح محسنا إحسانا فطريا الذي هو إحسانُ إيتاءِ ذي القربى. وهذا هو الغرض الذي من أجله جعل الله في شريعة الإسلام نهيًا عن المنكرات والسيئات وأمرا بالحسنات لكي تتقوم فطرة الإنسان وتصل إلى هذه الغاية المنشودة.
وأخيرا، فبينما يرى الناس عموما العدل إنما هو الغاية المنشودة والحلم الذي يراود البشرية والذي به يتحقق الأمن والسلام في العالم نجد أن الإسلام بتعليمه الكامل يقدِّم هذه الدُرَّة للبشرية التي ليس العدل فيها إلا الخطوة الأولى نحو الحسنة لا قمتها وغايتها. فلو ركّز الناس على هذا التعليم الإسلامي وتحلَّوا به لزالت الخصومات والعداوات والطمع والجشع من العالم. ولو عرف العالم حقيقة هذا التعليم وعملوا به لتوطَّد الأمن والسلام في العالم وتحوَّل العالم إلى جنة وارفة الظلال يعيش فيها البشر جميعا في أمن وسعادة وطمأنينة.
هذه الدرَّة وحدها تكفي دليلا على صدق الإسلام وكماله وكونه الدين الصالح لإصلاح شئون البشرية ورفع معاناتها والرقي بها. وهذا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلَّمه لصحابته الذين كانوا مثالا عمليا له، وهذا ما قد تفرَّد المسيح الموعود والإمام المهدي عليه الصلاة والسلام بتسليط الضوء عليه كثيرا في كتاباته وكان منهاج عمله وما غرسه في جماعته من بعده بينما غفل عنه مسلمو اليوم وضيعوه. فما أجمل هذا الإسلام الذي منَّ الله تعالى به علينا. والحمد لله رب العالمين.