ذكر الله ﷻ { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}
وذلك بـعـد ان قـال { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }
يرى البعض أن البشارتين تتكلمان عن ولادة غلامين لابراهيم ؏ وذلك بسبب السياق الذي يذكر قصة غلام أطاع أباه ومن ثم بشر الله ﷻ ذلك الأب بغلام إسمه إسحق نبياً، ويرى البعض الآخر أن الغلام في القصة الأولى هو ذاته المبشر به بعد انتهاء الحادثة ويرون أنها تعني البشارة بالنبوة بسبب التضحية في القصة الإولى كجائزة له ولأن اسم الغلام الأول لم يذكر لذا يكون هو ذاته المبشر به في نهاية القصة.
الواقع أننا لو جمعنا الآيات المتعلقة بإبني إبراهيم ؏ من القرآن الكريم من مبدأ تفسير القرآن بعضه بعضاً يتضح بكل جلاء أن إسماعيل ؏ هو إبن بكر لإبراهيم ؏ وجاء اسحق ؏ بعد إسماعيل ؏ كإبن ثان لإبراهيم ؏ وأنه أي إسماعيل ؏ هو الذي صاحب أباه في الواد غير ذي الزرع وليس إسحق ؏ وبالتالي فهو الذبيح، فلنقرأ ونتأمل:
ورد ذكر علاقة البنوة بين إسماعيل وإبراهيم بصورة صريحة في “السورة الرابعة عشرة” سورة إبراهيم. وفي هذه السورة تظهر لأول مرة في القرآن أبوة إبراهيم لإسماعيل، إذ يقول إبراهيم :
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} إبراهيم (40:15) .
فيدخل، من ثم، إسماعيل في سلسلة الآباء المنحدرين من إبراهيم ؏، فكلما ذكروا ؛ ذكر معهم متقدماً على اسحق : { قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} البقرة (126:3).
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَوَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة (137:3).
وكذلك في سورة آل عمران (85:4) فتكرر الآية ذاتها، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا …} البقرة (140:2).
{… وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} النساء ( 164:4 ).
أما في تطهير البيت، ورفع قواعده، فيذكر إسماعيل وحده مع إبراهيم : {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة (125:2).
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} البقرة (128:2) .
الآن اتضح أن اسماعيل ؏ هو الإبن البكر لإبراهيم ؏ وهو الذي صاحبه في رفع القواعد والكل يعرف أن الإبن البكر الذي يأت على الكبر يكون ذو معزّة ومحبة في قلب أبيه فمن الطبيعي أن تكون النبوءة بتضحية الإبن تتحدث عن البكر وليس الأصغر ونجد في الكتاب المقدّس إشارة لذلك فبعد البشارة بولادة اسحق نجد أن ابراهيم ؏ كان متعلقا جداً باسماعيل ؏ فدعى الله ﷻ رغم ذلك أن يحفظ اسماعيل مما يدلّل على مكانته في قلب أبيه وكما يلي :
(وقال ابراهيم لله ليت اسماعيل يعيش امامك.) تكوين 17: 18
ومما يدعم هذا القول أكثر هو عندما بشر الله إبراهيم وسارة بإسحاق عن طريق الملائكة، جاء فى البشارة “وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ” هود : 71، يعنى أن إسحاق سيولد ويكبر ويتزوج ويولد له يعقوب، فهل يعقل بعد الاطمئنان على حياة إسحاق أن يذبحه أبوه؟ إنه لو ذبحه فمن أين يكون يعقوب؟ هذا دليل قوى على أن الذبيح هو إسماعيل.
لنتأمل الآن في هذه الآيات :
{ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} سورة الصافات
اي أن البشرى بالغلام الحليم البكر كانت تخص إسماعيل ؏ بعد حادثة الإلقاء في النار. فلما كَبِر إسماعيل وصار يسير ويمشي مع أبيه وهو السن الذي يعزّ فيه الإبن عند أبويه بعد التربية والصبر قال له أبوه بعد أن رأى في المنام رؤيا متكررة حول ذبحه لإبنه : إني أرى في المنام أني أذبحك، فما هو رأيك؟ (ورؤيا الأنبياء حق) فقال إسماعيل مُرْضيًا ربه، بارًّا بوالده، معينًا له على طاعة الله : أمض ما أمرك الله به مِن ذبحي، ستجدني إن شاء الله صابرًا طائعًا محتسبًا، وينبغي التركيز على صفة الصبر فهي لازمة لإسماعيل ؏ من قوله تعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) أي صابر واسماعيل ؏ يقول (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ونجد فى آيه أخرى إن الله ﷻ يصف سيدنا إسماعيل أنه من الصابرين ( وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ )الأنبياء85، وهو تحقق لدعاء سيدنا إسماعيل فكان حقاً من الصابرين وهو ما ذكرته الآية الكريمة واصفةً سيدنا إسماعيل بالحليم أي الصابر.
ومن هنا فالدليل واضح أن المقصود في الآية بالذبح هو سيدنا اسماعيل ؏ .
لننظر الآن في صفة سيدنا اسحق ؏ يقول ﷻ { قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } وهنالك فرق واضح بين الحليم والعليم فالإولى جاءت بحق اسماعيل ع والثانية بحق اسحق ع فظهر بجلاء أن المقصود بالذبيح هو اسماعيل ].
الأدلة من الحديث الشريف والروايات
الأدلة على إسماعيل هي من الحديث الصحيح:
144283 – إن جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ ثم أتى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ ثم أتى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ فلما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه اسماعيل قال لأبيه : يا أبت أوثقني لا أضطرب فينتضح عليك من دمي إذا ذبحتني فشده فلما أخذ الشفرة فأراد أن يذبحه نودي من خلفه { أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا }.
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: أحمد شاكر – المصدر: مسند أحمد – الصفحة أو الرقم: 4/284
خلاصة الدرجة: إسناده صحيح
186123 – عن ابن عباس أنه إسماعيل عليه السلام [ أي الذبيح ]
الراوي: – المحدث: ابن كثير – المصدر: البداية والنهاية – الصفحة أو الرقم: 1/150
خلاصة الدرجة: صحيح
قال أبو حاتم الرازي -وهو من علماء الحديث ونقاده -كما في تفسير ابن كثير (4/19): “الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام“، قال: “وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل“.
الأدلة على إسحق هي من الحديث الضعيف والموضوع :
93811 – إن جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات ، فساخ ، فلما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسحاق ، قال لأبيه : يا أبت ! أوثقني لا أضطرب ، فينتضح عليك من دمي إذا ذبحتني ، فشده فلما أخذالشفرة ، فأراد أن يذبحه ، نودي من خلفه ( أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا )
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الألباني – المصدر: السلسلة الضعيفة – الصفحة أو الرقم: 337
خلاصة الدرجة: ضعيف بهذا السياق
86651 – الذبيح إسحاق
الراوي: عبدالله بن مسعود و أبو هريرة و العباس بن عبدالمطلب المحدث: الألباني – المصدر: ضعيف الجامع – الصفحة أو الرقم: 3059
خلاصة الدرجة: موضوع
189148 – الذبيح إسحاق
الراوي: – المحدث: محمد ابن عبدالهادي – المصدر: رسالة لطيفة – الصفحة أو الرقم: 22
خلاصة الدرجة: ليس له إسناد أو له إسناد ولا يحتج بمثله النقاد من أهل العلم
233414 – الذبيح إسحاق
الراوي: العباس بن عبدالمطلب المحدث: الهيثمي – المصدر: مجمع الزوائد – الصفحة أو الرقم: 8/205
خلاصة الدرجة: فيه مبارك بن فضالة وقد ضعفه الجمهور
الدليل من الكتاب المقدّس
لنقرأ سياق الحديث في الكتاب المقدّس حول ابراهيم وذريته ؏ :
( واما ساراي امرأة ابرام فلم تلد له. وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر. فقالت ساراي لابرام هوذا الرب قد امسكني عن الولادة. ادخل على جاريتي.لعلي أرزق منها بنين. فسمع ابرام لقول ساراي. فاخذت ساراي امرأة ابرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لاقامة ابرام في ارض كنعان واعطتها لابرام رجلها زوجة له. فدخل على هاجر فحبلت. ولما رأت انها حبلت صغرت مولاتها في عينيها.) تكوين 16: 1-4
حسب النص الذي ذكرناه آنفاً فإن زواج إبراهيم ؏ من هاجر كان استجابة لطلب زوجته ساراى أي سارة لانها قالت لإبراهيم إن الرب قدّر لها عدم الولادة فنصحته بالزواج من هاجر لعلها أي سارة ترزق منها أولاداً وفي ذلك تنسب ساره لنفسها الولد قبل أن يولد !! في الواقع أن هذا الكلام يعني أمراً مهما للغاية حيث يدلّل أن الولد الذي سيأتي من هاجر ع كان يتلهف عليه سارة وهاجر وابراهيم ؏، وأذاً فهذا الطفل كان منتَظَراً ويحبه الجميع حتى قبل ولادته.
وبعدها نقرأ أن الغيرة دبّت في قلب سارة لما رأت هاجر حبلى وحسبت أنها صغرت في عيني ابراهيم ؏ لذلك أذلتها حسب الكتاب المقدس ثم هربت هاجر منها الى البرية فناداها ملاك الرب أن تعود الى سارة وتخضع لها وقال :
( وقال لها ملاك الرب تكثيرا اكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. وقال لها ملاك الرب ها انت حبلى فتلدين ابنا. وتدعين اسمه اسماعيل لان الرب قد سمع لمذلّتك.) تكوين 16: 10-11 ، ثم نقرأ في الإصحاح التالي ( فولدت هاجر لابرام ابنا. ودعا ابرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر اسماعيل.) تكوين 16: 15
ثم تتوالى النصوص لتثبت أن ابراهيم ؏ لم يعد يدعى ابرام بعد ولادة اسماعيل بل صار اسمه ابراهيم لأن نسله سيكون عظيما وفرض الله ﷻ على ابراهيم ونسله الختان العهد الأبدي الى الأبد وهو ما يقوم به المسلمون ونبذه النصارى الى اليوم.
بعد هذه الأحداث جاءت البشارة بولادة إسحق ؏:
( وقال الله لابراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة. واباركها واعطيك ايضا منها ابنا.اباركها فتكون امما وملوك شعوب منها يكونون.) تكوين 15: 16
بعد ذلك نقرأ كيف أن الغيرة عادت بين الزوجتين وأن سارة حسب الكتاب المقدّس طردت هاجر وابنها لكي لا يرث اسماعيل ؏ أبيه ابراهيم ؏ وهكذا فقد رحلت سارة بإبنها الى بئر سبع وانتهى بها المطاف في برية فاران حيث عاش وتعلم رمي القوس ولنقرأ معاً هذا النص : (فبكر ابراهيم صباحا واخذ خبزا وقربة ماء واعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها والولد وصرفها.فمضت وتاهت في برية بئر سبع. ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار. ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس.لانها قالت لا انظر موت الولد.فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت.فسمع الله صوت الغلام.ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لك يا هاجر.لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو.قومي احملي الغلام وشدي يدك به.لاني ساجعله امة عظيمة.وفتح الله عينيها فابصرت بئر ماء.فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام.وكان الله مع الغلام فكبر.وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران) تكوين 21:15-21.
لقد كان سياق قصة الكتاب المقدس مضطرباً حيث نجده يركز على إبعاد اسماعيل ؏ الى البرية قبل أن يذكر الذبح ليكون الذبيح هو إسحق وليس إسماعيل وخطاب الرب لإبراهيم بالتضحية بولده الوحيد الذي يحبه في حين أثبتنا أن الكتاب المقدّس يقر ببكورية اسماعيل فكيف والحال هذه يسمّي اسحق إبناً وحيدا محبوباً لإبراهيم (فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب الى ارض المريّا واصعده هناك محرقة على احد الجبال الذي اقول لك باختصار) تكوين 22:2 ؟ كيف يُقبل هذا النص أنه من الله ﷻ الذي يحث والعياذ بالله على التفرقة بين الأولاد أو التفرقة العنصرية حيث يُعمي النصارى القصة بدل تجميلها بقولهم أن المقصود هو اسحق لأن اسماعيل ابن الجارية ولا يتساوى مع ابن السيدة فكيف يُنسب الى الله مثل ذلك؟
إذا كان اسماعيل كما ثبت ابناً لإبراهيم ؏ فلا يعني أنه ابن غير شرعي كما يدّعي بعض النصارى لأن النص لا يقول ذلك ثم إن الرب لم ينه ابراهيم عن هذا الزنى والعياذ بالله فلماذا الافتراض السيء هذا؟ ثم إن مما يهدم هذا التصور هو أن أولاد يعقوب (ابن اسحق) الأثني عشر أي الأسباط كان منهم أولاد جواري وهم ( جاد ، دان ، نفتالى ، أشير ) ومع ذلك كانوا أولادا شرعيين ليعقوب، فهل يعتقد النصارى بأن أربعاً من الأسباط الأثني عشر هم أولاد غير شرعيين؟
الكتاب المقدس يقول عنهم أنهم أبناء يعقوب :
(وَكَانَ بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَيْ عَشَر) تكوين 35:22
فإذا كانوا شرعيين فإسماعيل ولد شرعي أيضاً بدليل أنه يرث أباه كما في النصوص التالية :
(فقال ابرام ايها السيد الرب ماذا تعطيني وانا ماض عقيما ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي. وقال ابرام ايضا انك لم تعطني نسلا وهوذا ابن بيتي وارث لي. فاذا كلام الرب اليه قائلا.لا يرثك هذا.بل الذي يخرج من احشائك هو يرثك.) تكوين 15:2-4
فالذي خرج من أحشائه وكان ينتظره ابراهيم و الذي كانت سارة أيضا بانتظاره حسب النصوص التي ذكرناها سابقاً وفي هذا النص هو اسماعيل إبنه البكر فكان اسماعيل هو الولد البكر المحبوب لدى ابراهيم وسارة وهاجر أمه كما أن النص يقول (يرثك) !!!
…..ترتيب القصة بين التوراة والقرآن…..
لنتأمل ترتيب القصة في التوراة والقرآن الكريم :
الترتيب في التوراة = ولادة إسماعيل / ولادة إسحاق / الذبح
ويصحح القرآن الكريم هذا الترتيب في إعادته سرد القصة بشكلها المتناسق كرد على تدليس أو سهو كاتب الكتاب المقدس كما يلي :
الترتيب في القرآن = ولادة إسماعيل / الذبح / ولادة إسحاق
ولقد اضطرب النص التوراتي بسبب أن الكاتب غفل عن بعض التفاصيل الدقيقة كما سيتبين، لنقرأ النصوص التالية :
(كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً لَمَّا وَلَدَتْ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ لأَبْرَامَ.) تكوين 16: 16
(وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ ابْنُهُ.) تكوين 21:5
إذاً فإبراهيم ؏ كان يبلغ من العمر ( 86 ) عاماً عند ولادة إسماعيل ؏.. و (100 ) عاماً عندما ولادة إسحاق ؏.
لنطرح الآن سن إبراهيم عند ولادة إسماعيل من سنّه عند ولادة إسحاق و الناتج ( 14 عاما ) وتلك هي سن إسماعيل ؏، والمثير أن الكاتب يقول في الإصحاح 21 بأن الغيرة ظهرت مره أخرى بين ساره وهاجر بعد ولادة إسحق فطلبت ساره من إبراهيم طرد هاجر واسماعيل إبنه البكر الذي ولنركّز على أن سنّه كان (14) عاما.
(فبكر ابراهيم صباحا واخذ خبزا وقربة ماء واعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها والولد وصرفها.فمضت وتاهت في برية بئر سبع) تكوين 12:14
(ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار)
السؤال هو هل بمقدور امرأة حمل غلام يبلغ (14) عاما على كتفها مع قربة الماء و السفر في الصحراء كل تلك المسافة الطويلة لأن النص يقول انها ظلّت تحمله حتى نفذ الماء ؟ ومن ثم فهل يستقيم قول طرح المرأة لغلام ذي 14 عام تحت شجرة؟ وكأن الكاتب نسي قوله السابق من ولادة اسحق بعد اسماعيل ب14 عاما !!!
ولا ننس أن الكتاب المقدس يؤكّد على تقديم البكر في القربان أو الذبيحة فنقرأ ما يلي :
( وقدم هابيل ايضا من ابكار غنمه ومن سمانها.فنظر الرب الى هابيل وقربانه) تكوين 4:4
( لان لي كل بكر في بني اسرائيل من الناس ومن البهائم.يوم ضربت كل بكر في ارض مصر قدّستهم لي) العدد 8:17
( فاتخذت اللاويين بدل كل بكر في بني اسرائيل)العدد 8:18
(وكلم الرب موسى قائلا. قدس لي كل بكر كل فاتح رحم من بني اسرائيل من الناس ومن البهائم.انه لي) الخروج 13:1-2
ولا قيمة لمن يقول بأن البكر في القربان هي في الشريعة وهي نزلت بعد ابراهيم لأن البكورية في القربان هي من زمن هابيل حيث قدم ذبيحته من الأبكار، فهو بالتالي حكم أقدم من الشريعة وإنما أكد الرب ذلك في الشريعة التي نزلت على موسى ولم يستحدثها.
فمن هو البكر لإبراهيم ومن هو فاتح الرحم؟
مادام اسماعيل هو الإبن الوحيد قبل ولادة اسحق بأربعة عشر سنة وهو المحبوب كونه الوحيد وهو البكر وهو فاتح الرحم بالنسبة لأمه هاجر والنص يقول ( خذ ابنك وحيدك الذي تحبه ) يثبت أن النص التوراتي فيه اضطراب وخلل والصواب هو السرد القرآني الدقيق.
بالإضافة لما سبق نجد أن التوراة تذكر أن إبراهيم بعد حادثة الذبيحة وفداء إسحق كما يزعم كاتب التوراة ذهب الى بئر سبع حيث تسكن هاجر كما في النص (فبكر ابراهيم صباحا واخذ خبزا وقربة ماء واعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها والولد وصرفها.فمضت وتاهت في برية بئر سبع) تكوين 21:14 بدل أن يذهب الى سارة التي تسكن في قرية أربع في حبرون حسب هذا النص (وكانت حياة سارة مئة وسبعا وعشرين سنة سني حياة سارة. وماتت سارة في قرية اربع التي هي حبرون في ارض كنعان.فاتى ابراهيم ليندب سارة ويبكي عليها) تكوين 23:1-2 ليرد لها ابنها.
إذاً فإسماعيل وأمه كانا لايزالان في بئر سبع ولم تنجح محاولة كاتب التوراة تكبير عمر إسماعيل 14 عاماً عند ذهاب هاجر الى بئر سبع بل كان لايزال طفلا.
القضية كلها هي أن ابراهيم ؏ كانت تتكرر عليه رؤى أنه يذبح إبنه إسماعيل كما في قوله ﷻ (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) الصافات 102، وعبارة إني أرى تفيد الإستمرارية ولذلك ظن أن عليه أن يقوم بذبحه بشكل مادي ليصدع بأمر ربّه ولكن الرؤى بحاجة لتأويل ولا يشترط أن تكون على ظاهرها، فمثلاً إذا رأيت في المنام أنك تركب سفينة أو قطار قد يعني أن حالك ستتغير حسب الرؤيا خيراً فخير أو شراً فشر ونجد لهذا الموضوع شاهداً في القرآن الكريم في سورة يوسف حيث رأى صاحبا يوسف في السجن رؤيتان فأولهما يوسف ولم يأخذهما على ظاهرهما كما يلي (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ…. يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) يوسف 36-41، فإبراهيم ؏ كان ينفذ أمر الله ﷻ حسب اعتقاده ولم يأول الرؤيا ولذلك قال الله ﷻ له ( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الصافات 104-107، أي أنك يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ولست بحاجة الى ذبح ابنك فقد ذبحته يوم تركته وأمه في البرية بدون معين ولا مصدر للعيش مطيعاً أمري اليك بذلك كما في الآيات (ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ابراهيم 37، حيث أن مكان الذبح الذي حدث في الحقيقة في الصغر هو في مكة، حيث ترك إبراهيم ابنه الصغير وزوجته في واد غير ذي زرع، وبهذا ارتبطت شعائر الحج، وبذلك تكون قد صدّقت الرؤيا لأن الله ﷻ لا يأمر بالقرابين البشرية حاشا لله ولا يأمر بهكذا أمر ثم يتراجع عن أمر قضاه وأمره بل هي رؤى بحاجة الى تأويل.
وقد يسأل سائل: ما معنى الذبح العظيم إذاً؟
والجواب: هو أن الله ﷻ لا يطلق لقب صفة العظمة على كبش أو ثور والعياذ بالله وهي صفة لله ﷻ بل المقصود به أن الذبح العظيم هو محمد ﷺ الذي بشّر الله ﷻ ابراهيم ؏ به أنه سيكون من نسل إسماعيل ؏ وسيكون أمة عظيمة وهو الذي سينال العهد الأبدي وهذا هو ميثاق النبيين الذي أخذه الله ﷻ من كل نبي وأراه المبشرات وبالتالي فالنبوة والوحي نعمة عظيمة شرّف الله ﷻ بها نسل اسماعيل ؏ بنواله العهد الأبدي رغم كثرة الرسل من نسل اسحق ؏ في الأمة اليهودية ولكن الرسالة الخاتمة هي لنسل إسماعيل ؏ أي محمد ﷺ. وبذلك يكون اسماعيل ؏ هو من تنطبق عليه هذه الشروط وهو الذي يملأ الفراغ الذي حصل في القصة التوراتية.
المزيد هنا: تفسير آية وفديناه بذبح عظيم
ونوردا أخيراً نصاً من كلام المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حول هذه المسألة حيث يقول:
“وكان تأويل هذا الذبح في رأيي أن يترك ابنه في واد غير ذي زرع حيث لا طعام فيه ولا شراب، فكأنه يقتله في الظاهر، ولما كانت القرابين الإنسانية رائجة يومها، فأراه اللهُ تعالى هذا الأمرَ في المنام حسماً لقضية القرابين الإنسانية أيضا. ونظراً إلى عادة تقديم القرابين الإنسانية ظنّ إبراهيم عَلَيهِ السَلام أن الله تعالى يريد اختباره حيث يريد منه فعلاً أن يذبح ابنه الذي رُزقه بعد الثمانين من عمره. فذكر ذلك ابنه اسماعيل -علماً أن الذبيح عندنا هو إسماعيل عليه السلام الذي استعدّ للذبح فوراً نتيجة التربية الجيدة التي تلقاها من أبويه- فقال الابن: ما دام الله تعالى يأمرك فاذْبَحْني وإنّي راضٍ برضا الله. فأخذه إبراهيم عليه السَلام إلى البرية ليذبحه، فلما ألقاه على جبينه وهَمَّ بذبحه بالسكين، أوحى الله إليه ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ الصافات: 105-106.” (التفسير الكبير، سورة القدر)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ