تفسير آية واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْْسَ ما شَرَوْا به أنْفُسَهُم لَوْ كانوا يَعْلَمون)
شرح كلمات الآية:
تتلو – تلا يتلو تلوا: تبعه. وذلك يكون بالجسم تارة، وتارة بالاقتداء في الحكم. أما بالجسم فقوله تعالى (والقمر إذا تلاها) (الشمس: 3). وأما في الحكم فقوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) (البقرة : 122) أي يتبعونه حق اتباعه (تاج العروس).
على – تأتى بمعنى ’في‘ كقوله (إن كنتم على سفر) أي في سفر (مغني اللبيب).
الملك – العظمة والسلطان، واحتواء الشيء والقدرة على الاستعلاء به (اللسان).
السحر – السحر كل ما لطف مأخذه ودق؛ الفساد؛ إخراج الباطل في صورة الحق؛ الخداع؛ التمويه بالذهب أو الفضة. سحره عن كذا: صرفه عنه (الأقرب).
الملكين– الملك معروف، وقد يطلق مجازا على الرجل الصالح. وفي قراءة “الملكين”.. (تفسير البحر المحيط تحت هذه الآية). وحيث إن القراءة الثانية توضح المعنى الصحيح تبين أنه ليس المراد هنا الملكين وإنما رجلان صالحان.
وقد أطلق القرآن ” الملك ” على الصالح التقي حيث ورد في شأن يوسف عليه السلام: (إن هذا إلا ملك كريم) (يوسف: 32) … أي رجل صالح ذو محاسن.
فالمراد من الملكين هنا رجلان صالحان كأنهما ملكان. ويؤيد رأينا ما ذكر من المهمات التي قام بها هذان الملكان؛ فقد ذكر أنهما كانا يلتقيان بالناس ويعلمانهم. ويصرح القرآن أن الملائكة لا يأتون كالناس بحيث يعيشون بينهم ويعلمونهم، وإنما يرسل لهداية الناس أناس أمثالهم. يقول الله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا. قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنـزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (الإسراء: 95-96).
وصرح الله عز وجل: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء: 8).
كل هذه الآيات تدل صراحة على أن الله تعالى لم يرسل لهداية الناس وإرشادهم أو لاختبارهم رسلا ملائكة. وإنما يبعث رسلا أناسا، وأن الملائكة إنما تنـزل على أنبياء الله تعالى وأوليائه فقط ..أما غيرهم فقد يرونهم كشفا. وحيث إن الآية تصرح أن هذين الملكين كانا يتعايشان مع الناس ويعلمانهم.. فلا بد أن نعتبرهما رجلين صالحين، وقد أطلق عليهما اسم ملكين لصلاحهما وتقواهما، وكانا يفعلان كل ما يأمرهما به الله تعالى.
فالذين يظنون أن هاروت وماروت كانا ملكين يعلمان الناس السحر في بابل ويختبرانهم في إيمانهم.. غير مطّلعين على معارف القرآن. فما دام الملائكة لا يعيشون على الأرض فكيف تبعث إلى الناس؟
إنه من المستحيل تماما أن تأتي الملائكة بدلا من الناس لهداية الخلق. تصفحوا التاريخ تجدوا أن الرجال هم الذين بعثوا أنبياء.
وليس ثمة امرأة أو أي مخلوق آخر غير الإنسان بعث إلى الناس. فليس هناك إلا طريقان اثنان: إما أن نقول بأن هاروت وماروت صفتان أطلقتا على رجلين صالحين كأنهما ملكين.. كما سمي يوسف مَلكًا، أو إذا كان ملكين حقيقين فإنهما نزل على نبِيَّيْن ولم يبعثا للناس عامة.. لأن الملائكة لا تتنـزل هكذا. وإنما تتنـزل على رجال مطمئنين كما جاء في القرآن (الإسراء: 96). والمطمئنون هم الصلحاء والأطهار المقربون، المبرءون من كل نوع من المعاصي والرذائل، والحائزون على البركات الإلهية والأفضال السماوية. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر). فالمطمئنون هم أصحاب النفوس المطمئنة، وليس الذين يعيشون على الأرض في رفاهية، إنهم يمشون في هدوء لا يتشاجرون ولا يتخاصمون. والحقيقة أن هؤلاء المطمئنين هم الذين تتنـزل عليهم الملائكة، ولم يحدث أنهم نزلوا على الكفار وبلغوهم رسالة الله تعالى.
هاروت – من هرت الثوب: مزقه (المنجد). هرت الشيء: شقه (المعجم الوسيط).
فهاروت كثير التمزيق والشق. ماروت – من مرت أي كسر. فماروت كثير الكسر. (ملاحظة المترجم: لم نعثر على هذا المعنى في القواميس المتوفرة لدينا، إلا أنه ورد هناك: مرت الشيء: ملسه. وملس الشيء: انتزعه واستأصله؛ ملس الرجال بلسانه: داهنه؛ ملس الإبل: ساقها بشدة؛ ملس الأرض: سوّاها (المنجد). فكان هاروت من يمهد بكسر شوكة العدو واستئصاله.)
فتنة -الفتنة اختبار المرء ليتبين خيره من شره، وطيبه من خيره (المنجد).
تفسير الآية
توفي سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام في مايو 1908م، وبعد وفاته بشهر تقريبا أوحى الله إليّ الآية القرآنية “اعملوا آل داود شكرا“. ومع أن الله تعالى لم يستخدم في هذا الوحي اسم “سليمان”.. إلا أنه وعدني بقوله “آل داود” بعض ما خص به سليمان – عليهما السلام، واعتقد أن من نعم الله تعالى- حسب هذا الوعد- أنه عز وجل قد فهمني معنى الآية التي طالما حار واضطرب العلماء في تفسيرها، كما أعتقد أن هذا الوحي كان يتضمن أيضًا نبأ أنني سوف أصبح خليفة للإمام المهدي، ويشير إلى الصعاب التي سوف تعترض طريقي. ولما كان الإنسان بفطرته يقلق من مواجهة الأخطار، ويضيق ذرعا باعتراضات المعترضين .. لذا نبهني ربي-عز وجل- إلى أن الأخطار والاعتراضات ليست بدون جدوى.. فاستعد لمواجهتها دون قلق واضطراب.
خطأ المفسرين القدامى
وهذه الآية أيضا تتناول ذكر بعض ما واجه سليمان من صعوبات وأخطار. ورغم أن معناها واضح وصريح..إلا أن المفسرين القدامى قد عانوا كثيرا في تفسيرها. وقالوا في آخر الأمر إن الآية تشير إلى حادثين تم فيهما تعليم الناس السحر.
الحادث الأول وقع في زمن سليمان.. حيث اختلط الشياطين بالناس وعايشوهم وعلموهم السحر. والثاني حدث في بابل حيث أنزل الله ملكين –هاروت وماروت –كانا يعلمان الناس السحر قائلين: إنما نحن فتنة وامتحان لكم. كما كانا يقولان للذين يعلمانهم: أن تعلم السحر كفر، وسوف نعلمكم هذا الكفر إذا أردتم.
وقد نسج خيال هؤلاء قصصا غريبة جدا حول الحادثة شاعت بين العوام، وكنا نستمع إليها في الصغر. فحكوا أنه كان بحوزة سليمان خاتم “الخاتم السليماني”.. يدبر بفضله كل الأمور؛ فسلبه الشيطان من سليمان، فحرمه عرشه واضطره أن يهيم على وجهه، واستولى على ملكه وقد أُلقي عليه شبهه. وبعد مدة مديدة عثر شخص على الخاتم وسلمه لسليمان، فاستعاد عرشه.
أما عن قصة هاروت وماروت فزعموا أنهما كانا ملَكَيْن فسقا عن أمر ربهما، وقالا إن الأيام قد صدّقت قول الملائكة عند خلق آدم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).. وبطلت دعوى الله تعالى” إني أعلم ما لا تعلمون“.. إذ استولى الشيطان على ذرية آدم في الأرض؛ ولو كنا نحن الملائكة فيها ما ظهر هذا الفساد. فأرسل الله تعالى هاروت وماروت إلى الأرض قائلا: حسنا، اذهبا أنتما ننظر كيف تعملان. فجاءا إلى الدنيا وتعايشا مع الناس، وكانا يُعلمان اسم الله الأعظم والسحر. فجعلا يعلمان الناس السحر، ويدعيان أمام الله تعالى أن الناس بأنفسهم يكفرون. وكانا ينبهان الناس وقت تعليم السحر أن تعلمه حرام يؤدي إلى الكفر، ويخيرانهم يتعلمون أو لا يتعلمون، ولكن الناس رغم ذلك كانوا يتعلمون.
كما تحكي القصة أنهما كانا يعلمانه الرجال فقط، مما كان يؤدي إلى التفريق بين الرجال ونسائهم. وفي أثناء هذا جاءت بغي اسمها (زهرة) لتتعلم الاسم الأعظم فعشقاها. وفي يوم من الأيام سقتهما الخمر فزنيا بها. فخيرهما الله بين أمرين: إما أن يمكثا في الأرض معلقين من أقدامهما في البئر، وإما أن يعذبا في الآخرة.. ففضّلا عذاب الدنيا على الآخرة لعلمهما بشدة عذاب الآخرة، فعلقا من أقدامهما في بئر قديمة ببابل، ولا يزالان بها. أما (زهرة) التي تعلمت منهما الاسم الأعظم فصعدت وتحولت إلى نجم مشرق يعرفه القوم باسم (الزهرة) (تفسير محاسن التأويل للقاسمي). وقد بالغ أهل كشمير وقالوا: إن هاروت وماروت في كشمير، وكأنهما فرا من بابل إلى بلدهم!
وبعد سرد هذه القصة والأقوال الخرافية.. يقولون إن الملائكة أصابوا في اعتراضهم، حيث إن الله تعالى بعث آدم أولا ولكن نسله فسدوا، ثم أرسل هذين الملكين ولكنهما أيضًا تأثرا من الناس وفسدا. وهذا غير صحيح، لأن الله تعالى يقول في صراحة إن الملائكة كلهم مجبولون على الطاعة والصلاح وأنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(التحريم:7)، أما الناس فمنهم الأبرار ومنهم الأشرار. إذا كان الناس قد فسدوا فالملائكة أيضًا فسدوا كما يزعم هؤلاء المفسرون.. وهذا لا يدفع الاعتراض وإنما يقويه ويزيد الطين بلة، لأن قصتهم تقول إن الملائكة قد فسدوا، مع أن الله تعالى صرح أنهم لن يفسدوا.. وقد عصوا الله عصيانا صريحا، فعلقوا في بئر عقابا لهم.. حتى حكي أن البعض قد رآهم معلقين في البئر ببابل!
وعندي أن قولهم هذا خطأ تماما. فالزعم بأن ملكين كانا يعلمان السحر، وأن سليمان أيضًا كان يمارس السحر ويعلمه الناس يعرض الملائكة والأنبياء للطعن، كما أن شهادة التاريخ تكذبه تكذيبا. فلا وجود إطلاقا لما يسمى سحرا بأن ينفخ الساحر ويوجد شيئا في لمح البصر. أما التنويم المغناطيسي فشيء آخر تماما.
الأمر الواقع أن هذه الآية تذكر بعض ما دبر اليهود المعاصرون للنبي من مكائد ومؤامرات ضده، وتبين أنهم في عدائهم له ﷺ اتبعوا الطرق التي سلكها أعداء سليمان للقضاء على ملكه. كما تنبه اليهود إلى أنهم لن يفلحوا أبدا في نواياهم الخبيثة.
وإذا افترضنا صحة ما ذكره المفسرون من قصص.. وقد توخيت الإيجاز الشديد في سردها.. لم يبق أي علاقة لهذه الآية بما قبلها. ولكن المعنى الذي علمني الله بفضله لا يدع أي خلل في ربط الآيات من ناحية، ولا يجعل الملائكة هدفا للاعتراض من ناحية أخرى، ثم إنه لا ينافي تاريخ سليمان من ناحية ثالثة، كما يشكل برهانا عظيما على صدق النبي ﷺ من ناحية رابعة.
التفسير الصحيح لآية هاروت وماروت
والآن أبين لكم معنى الآية تفصيلا. ولكي لا يصعب فهم المعنى.. أتوخى في الشرح التعامل الفكري الطبعي الذي يوصل إلى هذه النتيجة.
يتبين من الآية أنها تتكلم أولا: عن حدوث فعل ثلاث مرات في مختلف العصور.
وثانيا: أن هذا الفعل الحادث ثلاث مرات تعلق بجمعية سرية، أو بمؤامرة خفية.
وثالثا: أنه حدث في المرات الثلاث التالية:
- في عصر سليمان: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان).
- في بابل: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت).
- في عهد النبي ﷺ: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم)، وقال في موضع آخر في هذا المعنى نفسه (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)(البقرة:104).
ورابعا: أن هذا الحادث المتكرر ثلاث مرات صدر عن اليهود.
وإذا فهذه الأمور الأربعة سوف تحدد معنى الآية، وكل معنى لا يتوفر فيه هذه الشروط الأربعة كلها أو بعضها يكون مردودا.
وإذا فحصنا القصص التي ذكرها المفسرون وجدناها ينقصها واحد من هذه الشروط: إما لكونها لا تخص اليهود، أو لكونها لم تقع ثلاث مرات، أو لم تحدث في هذه العصور الثلاثة، أو لا تكون لها علاقة بالجمعيات السرية والمؤامرات الخفية.
وإذا أمعنا النظر في هذه الشروط أو الأصول الأربعة وجدنا أن أوضحها هو كون هذا الحادث مرتبطا بالجمعيات السرية والمؤامرات الخفية التي تفرق بين الرجال والنساء.. أي لا تكون المرأة عضوا فيها. فهذا الأصل يسهل ويضمن لنا المضي في التحقيق في اتجاه سليم. هلموا الآن نرى هل هناك أي جمعية تفرق بين الرجل والمرأة، ولها صلة بهذه العصور.
إذا ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ العالم كله لم نجد فيه إلا جمعية واحدة تفرق بين الرجل والمرأة، وما زالت آثارها موجودة في عصر النبي ﷺ، بل لم تزل موجودة حتى قبل عشر أو عشرين سنة.. ألا وهي الجمعية الماسونية، وهي جمعية سرية، لا تضم في عضويتها النساء.
هذا، مع العلم بأنه لا علاقة للماسونية الحالية بهذه الأحداث، وإنما تتعلق هذه الأحداث بتلك الجمعية الماسونية السرية التي كان لها علاقة بهذه العصور الثلاثة، وشواهد التاريخ تؤيد ذلك. كما أن الجمعية الماسونية لم تكن موجودة وجودا متصلا إلى الآن.. وإنما تأسست بهذا الاسم عدة جمعيات في مختلف العصور.. عاش بعضها أربعمائة سنة، ثم جاءت أخرى وعاشت لخمسمائة سنة، وبعضها حتى القرن الخامس عشر الميلادي، ثم تأسست أخرى في القرن الثامن عشر وانمحت في نفس القرن، وتأسست من جديد في القرن التاسع عشر. لذلك لا نستطيع تخصيص إحدى هذه الجمعيات الماسونية، ولكن إذا وجدنا لإحداها علاقة باليهود وصلنا إلى الهدف، لأن الشروط الثلاثة الأخرى أيضًا تخص اليهود.
علاقة اليهودية بالماسونية في عهد سليمان ؏
والآن تعالوا نتحقق..هل كان لإحدى هذه الجمعيات الماسونية علاقة باليهود؟ فليكن معلوما أن مؤلفي دائرة المعارف اليهودية قد حاولوا قطع أية صلة بين اليهود والماسونية، حيث قالوا إنه لا علاقة لهم بالماسونية (انظر تحت كلمة الماسونية)، وهذا يشكل في حد ذاته دليلا واضحا على أنهم كانوا على صلة بها، وإلا لم تكن بهم حاجة لذكر ذلك.
ثم إن المقال نفسه يؤيد رأينا، فقد قالوا فيه: إننا نسلم بوجود آثار يهودية في أصول الجمعيات الماسونية. وهذه تربط اليهود بالماسونية، لأن هذه الآثار تخص في أول الأمر أولئك المعماريين الذين بنوا معبد سليمان عليه السلام.. حتى إن هذه الجمعية نفسها تعترف أن بدايتها كانت حينما بنى سليمان معبده الأول، بل يقول بعض أعضائها إن موسى عليه السلام هو أستاذهم الكبير.
كما ورد في دائرة المعارف اليهودية أن الروايات الماسونية تذكر صلتها بالنبي”حورام أبي ” الذي بنى المعبد، والذي تذكره التوراة على النحو الآتي: (وأرسل الملك سليمان وأخذ حورام من صور..وكان ممتلئا حكمة وفهما ومعرفة لعمل كل عمل في النحاس) (الأخبار الثاني 2: 13و 14)
ويضيف صاحب الكتاب أن الروايات الماسونية تذكر أنه بعد أن تم بناء المعبد قتل ثلاثةُ بنائين حورام أبي. ويعتبر موته للآن سرا كبيرا من الطقوس الماسونية. كما أن البنائين الآخرين أيضًا قتلوا (الجمعيات السرية في العالم ج5 ص1-10)
ثم يقدم الكاتب حلا لهذا اللغز قائلا: يبدو من الروايات الإبِّيّة أن البنائين قتلوا بعد بناء المعبد خوفا من أن يحولوه إلى معبد للأوثان فيهتكوا حرمته. وتذكر هذه الروايات أنهم قتلوا البنائين الآخرين أيضًا، ولكن حورام أبي صعد إلى السماء، وهو جالس فيها الآن بجانب ’حنوك‘. ويعقب المؤلف على ذلك ويقول: لا يوجد عندي أي أثر لذلك في كتب التاريخ الأخرى.
ويضيف أيضًا: ليس من المستبعد أن يكون الماسون بأنفسهم قد نقلوا من التوراة المصطلحات والآثار والأفكار والروايات اليهودية التي توجد في الماسونية بدون أي دخل لليهود في ذلك، بيد أن الكثير من الروايات قد أخذت من اليهود بلا شك، وتذكر في أحوال وعلامات أصدقائهم الماسون. وعلى سبيل المثال..فإن للعمودين Braze-Jachin أهمية كبرى في علامات الماسون (الجماعات السرية والحركات الهدامة ص101-110).
ثم إن من البراهين على صلة الماسونية باليهود أن أسماء الشهور والأعوام القمرية التي تستخدمها الجمعية الماسونية الأسكتلندية هي نفس الشهور والأعوام التي كان اليهود الأوائل يستخدمونها. ولكن صاحب دائرة المعارف اليهودية يعلق على ذلك قائلا: من يدري.. لعل هذه الأسماء راجت فيهم عن طريق المسيحيين؟ ثم يذكر المؤلف قائمة لهذه الأسماء المتداولة في الماسونية التي يبلغ عددها ما بين ثلاثين وأربعين اسما.
هذا، وقد جاء حورام أيضًا في هذه المصطلحات.. وكل هذه المصطلحات والطقوس يهودية، وصاحب دائرة المعارف اليهودية معترف بذلك (ج5ص503).
وعلاوة على ذلك –فإن الروايات الماسونية تذكر أنه كان هناك بين الماسون وبين سليمان صراع، حيث جاء أنه كان في عهد سليمان بنّاء اسمه حورام، فعشقته بلقيس وعشقها، فاشتعل سليمان حسدا على حورام، وتآمر مع ثلاثة من مساعدي حورام الحاقدين عليه، فقتله وتزوج بلقيس قسرا. وأنه لا تزال الماسونية منذ ذلك الحين، وتوجد فيها أيضًا آثار تخص البنائين، بل أن كلمة الماسون نفسها Free Massons & Accepted Massons تعني (البنائين الأحرار)(الجمعيات السرية في العالم Secret Societies of the World ج2،ص1-10).
فيتضح من هذه الرواية أن الماسونية كانت على صلة وثيقة بأعداء سيدنا سليمان، حتى أن الناس أيضًا كانوا على علم لهذه العداوة بينه وبينهم.
المزيد من الثوابت على علاقة اليهود بالماسونية
وهناك رواية أخرى تؤكد وجود جمعية سرية في عهد سليمان، كانت تعمل ضده. وهذه الرواية كانت شهيرة في قدامى الماسون، وتقول إن سليمان كان قبل حادث بلقيس أيضًا يحسد ويحقد على حورام لِما أوتي من ذكاء عال ونفوذ كبير، فحاول سليمان قتله سرا، وألقاه في حوض به زيت مغلي، ولكن روح جده ’قابيل‘ أنقذته، إلا أنها أخبرته أن عدوه سوف ينتصر عليه آخر الأمر. وتم ذلك حيث أغرى سليمان بعض حساد حورام بالمال لقتل ثلاثة بنائين، كان حورام أحدهم. ويقولون إن حورام هذا كان قد اخترع رموزا وإشارات سرية ليتفاهم بها مع أصحابه، فكانوا باستخدامها يجتمعون على الفور (المرجع السابق).
ويضيف صاحب هذا الكتاب أنه قبل “الماسون المقبولين” كانت الجمعيات الماسونية كلها تستخدم نفس الرموز التي استخدمت في زمن حورام. وكانوا يُعلِّمون أعضاءها الجدد بعض الأسرار الخفية للقيام بالمهمات، ويذكرون لهم حادث حورام، وكانوا يحكمون للعضو الجديد شيئا من الحادث بالكلام وشيئا بالتمثيل.
ويذكر صاحب دائرة المعارف اليهودية أيضًا أن اسم حورام يتكرر في رموز الماسونية، وحاول أناس أن يعثروا على تلك الرموز، ولكنها كانت معلقة في عنقه، ولما قتله سليمان أتلفها.
وإذًا فقد تبين من ذلك كله أنه كان هناك في زمن سليمان جمعيات سرية تعاديه وتتآمر عليه، فقتل سليمانُ زعيمها. وكان بعض أتباع هذا الزعيم يقدسونه لدرجة أنهم ظنوا أنه لم يقتل وإنما رفع إلى السماء. وكان هؤلاء من اليهود حيث وجدت في هذه الجمعيات آثار وطقوس يهودية تنسب إلى حورام.
التوراة تثبت الماسونية
ثم نرجع إلى التوراة لنجد فيها أيضًا ذكرا لجمعيات معادية لسليمان. وبرغم أن التوراة لم تذكر حورام إلا أنها تؤكد عدواة اليهود لسليمان واتهامهم إياه بالكفر والشرك، وهذا ما ذكره القرآن ههنا.
فأولا_ جاء اتهامهم سليمان بالكفر والشرك في التوراة هكذا:
(وكانت له سبعمائة من النساء السيدات ثلاثمائة من السراري. فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه.. فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين. وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى. فلم يحفظ ما أوصى به الرب) (الملوك الأول 3:11 ،4 ،9، 10).
مما يبين أن اليهود كانوا يتهمونه بالكفر والشرك بالله، كما كانوا يقومون بنشر هذه التهم بين الناس. ويشير أيضًا قول الله في القرآن (على ملك سليمان) أن تكفيره كان شغلا شاغلا بين الناس.
وثانيا- يتضح مما سبق أن الذين كانوا تحته في الظاهر هم الذين كانوا يتآمرون عليه. وبحسب التوراة فإن سليمان صار مشركا بالله.. لذلك أقام الله ثلاثة أعداء له هم: (1)هدد الأدومي، (2)ملك دمشق رزون بن أليداع، (3) يربعام الذي أثاره أخِيّا الشيلوني النبي ضد سليمان.
فقد ورد: “وأقام الرب خصما لسليمان..هدد الأدومي“(الملوك الأول 14:11).وكان هدد هذا من نسل الملوك الأدوميين، وهرب إلى مصر في عهد داود، ولكنه رجع ثانية في عهد سليمان ليتآمر عليه.
وورد أيضًا: “وأقام الله له خصما آخر..رزون بن أليداع الذي هرب من عند سيده هَدَدَ عَزَزَ ملك صوبة. فجمع إليه رجالا، فصار رئيس غزاة عند قتل داود إياهم. فانطلقوا إلى دمشق وأقاموا بها وملكوا في دمشق“(المرجع السابق: 23 ،24).
وورد: “ويربعام بن ناباط أفرايمي من صردة عبد لسليمان واسم أمه صروعة وهي أرملة. رفع يده على الملك” (المرجع السابق: 26).
يتضح من هذا أنه صار لسليمان أعداء كثيرون من داخل ملكه يتآمرون عليه. تقول التوراة: (ولما سمع يربعام بن نباط وهو في مصر حيث هرب من وجه سليمان الملك رجع يربعام من مصر. فأرسلوا ودعوه. فأتى يربعام وكل إسرائيل وكلموا رحبعام قائلين. إن أباك قسّى نيرنا، فالآن خفف من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا، فنخدمك)(أخبار الأيام الثاني 2:10-4).
مما يدل على أنه ما أن مات سليمان إلا أرسل بنو إسرائيل إلى أكبر أعدائه يربعام في مصر. وقبل أن يجلس ابن سليمان رحبعام على العرش جعلوا يطالبونه بقبول بعض شروطهم إن أراد كسب طاعتهم.
وتبين التوراة كذلك أنهم كانوا يستخدمون بعض رموز سرية، حيث قيل: (وكان في ذلك الزمان لما خرج يربعام من أورشليم أنه لاقاه أخيّا الشيلوني النبي في الطريق هو لابس رداء جديدا وهما وحدهما في الحفل، فقبض أخيّا على الرداء الجديد الذي عليه ومزقه اثنتي عشرة قطعة. وقال ليربعام: خذ لنفسك عشر قطع. لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل. هأنذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط. ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل أورشليم المدينة التي أخذتها من كل أسباط إسرائيل) (الملوك الأول 29:11-32).
ويبدو أن اليهود قد دسوا اسم الله في هذه العبارة من عندهم. والحق أن يربعام كان رجلا جريئا، بل حائزا على منصب الحاجب أي رئيس الحراس. ويبدو أن أعداء سليمان قاموا بشراء هذا الرجل.
أما لغة الإشارات والتصوير فتشير إلى ميلهم إلى الماسونيين. فكان في تمزيق الرداء إلى اثنتي عشرة قطعة إشارة إلى اثنتي عشرة قبيلة لبني إسرائيل وكان في تقديم عشر قطع ليربعام تحريض للثورة ضد سليمان، فإن عشرة قبائل إسرائيلية سوف تسانده. وبالفعل حدثت الثورة بعد ذلك، ونصبته القبائل العشر ملكا لها. إنهم من ناحية اتهموا سليمان بالكفر، ومن ناحية أخرى بمجرد أن تولي يربعام زمام الحكم ارتكب الشرك بالله، وبنى معابد لمختلف الأصنام، فقد ورد. (..لأن يربعام وبنيه رفضوهم من أن يكهنوا للرب، وأقام لنفسه كهنة للمرتفعات وللتيوس وللعجول التي عمل) (أخبار الأيام الثاني 14:11و15).
فاتضح مما سبق من العبارات والمراجع أن أعداءه كانوا ينصحون أصحابهم باستخدام الرموز لإخفاء نواياهم عن سليمان، كما كانوا يلجئون إلى إغراء الناس بالمال والمناصب والرشاوى للتآمر عليه.
وبالاختصار فإن قول الله تعالى (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر..) كأنما يتحدث عن المؤامرات السرية التي قام بها اليهود ضد سليمان عليه السلام، كما يبين أن اليهود المعاصرين للنبي ﷺ أيضًا كانوا يكدون له كيدا مثلهم، ولكنهم سوف يفشلون في مراميهم الخبيثة.
والحادث الثاني الذي يذكره القرآن هنا حدث ببابل، فهناك لجأ بنو إسرائيل إلى تشكيل جمعيات سرية، ولكن كان زعماؤها حينئذ اثنين من أنبياء الله تعالى، حاولا تحرير اليهود بأمر من الله تعالى، وذلك بكسر شوكة عدوهم وتشتيت شمله، كانا يستميلان الناس لتحقيق هدفهما قائلين: إنما نحن فتنة.. إذ سوف يختبركم الله تعالى ليميز الأبرار من الأشرار، فلا تكفروا ولا ترفضوا ما ندعوكم إليه. وكان يخفيان خطتهما عن النساء ولا يشركانهن في نشاطهما.. شأن الجمعيات السرية منذ القدم، حيث لا تقبل المرأة عضوا بها. كما كان هذان النبيان – اللذان سميا هنا هاروت وماروت –لا يضرون نشاطهما السري هذا إلا الذين أمرهما الله بالكيد لهم.
حدث بابل
ليكن معلوما أنه بعد سليمان ببضع سنين قام نبوخذنصر ملك بابل بغزو أورشليم وأسر عشر قبائل من اليهود وذهب بهم إلى بابل، وترك في فلسطين قبيلتين منهم فقط (الملوك الثاني 1:25-13). وانتشرت هذه القبائل اليهودية العشر واستوطنوا ما بين كشمير وغيرها من الأماكن. وقد تم أسرهم وإجلاؤهم هذا بحسب نبأ للنبي إرمياء الذي أنذرهم قائلا: إن لم تعطوا يوم السبت حرمته تدمرون (إرمياء 27:17).
ثم طال مُكثهم في منفاهم ببابل، ولم يجدوا سبيلا إلى النجاة.. حتى أنبأ الله على لسان أنبيائهم أنه تعالى سوف يعيدهم إلى وطنهم ومركزهم. وتحقق هذا بعد سبعين سنة عندما جلس على عرش ميديا وفارس ملك اسمه “كورش”، وشاء الله تعالى أن تنشب بينه وبين ملك بابل حرب لما رأى هذا وغيره من الملوك نجم كورش في صعود، ولكنه كان أدهى منهم، فأخذ يقضي عليهم واحدا واحد إلى أن شن الهجوم على بابل نفسها. وتمت بين كورش وبين النبييْن اليهودييْن “هاروت وماروت ” اتفاقية سرية تقضي بأن يناصره اليهود مِن داخل المدينة نظير السماح لهم بالعودة إلى وطنهم؛ بل وعدهم كورش بدعم مالي لإعادة بناء المعبد. وبالفعل احتل المدينة من داخلها بمساندة اليهود، ووفى لهم بوعده، فسمح لهم بالعودة إلى الوطن، وأمدهم بمال كثير وخشب لبناء المعبد، فعمرت أورشليم من جديد في عهد النبي عزرا (تأريخ المؤرخين للعالم ج2 ص26 Historians History of the World)
فهاروت وماروت إذًا نبيان إسرائيليان قاما بأمر الله بإرجاع شعبهما إلى الوطن، وذلك بمساندة كورش ملك ميديا وفارس. وقد أطلق القرآن على أحدهما اسم ’هاروت‘ أي كثير التمزيق، وعلى الآخر اسم ’ماروت‘ أي كثير الكسر.. لِما كانا يقومان به من كسر شوكة بابل وإضعاف قوتها وتمزيق وحدتها وتشتيت شملها.
وبالنظر في التوراة يمكن القول إنهما النبي حجي و النبي زكريا بن عِدّو.. فقد ورد أن النبيين حجي وزكريا هما اللذان سعيا لتحرير اليهود بمساندة كورش سرا (عزرا 5). وإلى هذا أشار القرآن بقوله: (..وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله).
نشاطات اليهود السرية في عهد النبي ﷺ
الآن ننظر إلى الأصل الثالث، ألا وهو: هل يوجد أي اثر لمثل هذه النشاطات من جانب اليهود في عهد النبي ﷺ؟
والجواب: نعم، تذكر كتب التاريخ أن اليهود تآمروا على النبي، وتزعمهم كعب بن الإشراف الذي طاف الجزيرة العربية، وأشعل نار العدواة، وأوغر صدور العرب ضد النبي ﷺ، وبلغت به الوقاحة أن هجا نساء المسلمين، وتناول نساء بيت النبوة أيضًا بهجوه الفاحش (السيرة النبوية لابن هشام، مقتل كعب بن الأشرف). ولما رأى اليهود أن دولة الإسلام في تقدم مستمر وازدهار متزايد رغم عواصف المعارضة هذه..تآمروا مع دول أخرى للقضاء عليه.
كان لليهود قبل بعث النبي ﷺ علاقات قوية بملك الفرس، وتذكر كتب التاريخ أن اليهود مالوا إلى ملك الفرس بسبب اضطهاد المسيحيين الرومان لهم. كانت في ذلك الزمن دولتان عظيمتان: الدولة الفارسية المجوسية والدولة الرومانية المسيحية؛ ولما كان الفرس يعادون الرومان، وكان اليهود أيضًا يعادونهم بسبب مسيحيتهم واضطهادهم الشديد لليهود في دولتهم..لذا مالوا إلى الفرس طمعا في مساندتهم لهم، وأنشئوا معهم علاقات قوية حتى صار لهم نفوذ في نفوس الفرس. وأيضًا فر بعض اليهود من اضطهاد الدولة المسيحية إلى بلاد فارس، وتمتعوا بالحرية الدينية تحت حكم الفرس. وهناك أعدوا كتابهم (التلمود)، ونبع هناك أحبار كبار منهم نالوا إكراما وتعظيما خاصا لدى ملوك الفرس، وخاصة لما اشتدت وطأة التعذيب المسيحي على اليهود في عهد جستنتين (527-567 م)،لم يجدوا ملجأ لهم إلا في فارس، حتى تحول مركزهم الديني من يهوذا أو أورشليم إلى ببيلونيا (هتشنسن-تاريخ الأمم 550، ودائرة معارف التوراة).
وصار بهم في عهد النبي ﷺ أن ضيَّق قيصر الروم عليهم الخناق، وكان لا يدخر وسعا في القضاء عليهم، وكان لا يكتفي بتعذيبهم.. بل يكرههم على الارتداد عن دينهم، وينفيهم من البلاد. وإذا فقد كانت الدولة الفارسية هي الوحيدة التي يمكن أن يستعين بها اليهود لما كان يتمتع به دينهم ورهبانهم من احترام ونفوذ كبيرين في نفوس الفرس، حتى أن الملوك كانوا يقربونهم إليهم.
والآن، إذا ثبت وجود أي مؤامرة فارسية للقضاء على الإسلام فلا بد لنا من عزوها إلى اليهود.. لأن مشركي العرب لم يكونوا على علاقة طيبة مع الفرس، وإنما كان اليهود هم المقربون إليهم. هلم الآن نتحقق: أدبّر اليهود مع الفرس مؤامرة للقضاء على الإسلام أم لا؟
يخبرنا التاريخ أن الملك الفارسي خسرو الثاني كتب إلى واليه على اليمن قائلا: بلغني أن رجلا من العرب قد ادعى النبوة، فاقبض عليه وابعث به إلينا لنعاقبه. فأرسل والي اليمن سفيرين إلى النبي ﷺ.. أبلغاه الخبر، وحثّاه على الذهاب معهما على ألا يرفض حتى لا يغضب الملك.. فيشن الغارة على العرب كلهم. فأمرهما النبي ﷺ بأن يعودوا إليه في الغد. فلما جاءا قال لهم: لقد أخبرني ربي أنه قد أهلك ربكم البارحة. فظنا لجهلهما أن النبي ﷺ يماطلهما. فنصحا له أن يصحبهما إلى الملك حتى لا يثور فيدمر العرب جميعا. وكرر النبي ﷺ قوله: ارجعا إلى بلدكما وبلغا صاحبكما بما أقول. فرجعا وأخبراه الخبر. فقال الوالي: لننتظر بضعة أيام، فإن تحقق ما قال فإنه نبي صادق، وإن كذب فويل للعرب من كسرى.
وبعد أيام وصلت اليمن سفينة فارسية، جاء عليها مكتوب إلى والي اليمن عليه خاتم الملك الجديد، ولما رآه الوالي شك في الأمر، وقال في نفسه: يبدو أن نبي العرب صادق. ولما فضّ الرسالة وجدها من ” شيرويه SIROES ” يقول فيها: كان أبي ملكا مستبدا فقتلناه بعد أن طفح الكيل من مظالمه، وقد خلفته في الملك، فخذ من الرعية عهد الطاعة لي. وكان قد أمر بإرسال نبي العرب ظلما.. ونحن نلغي هذا الأمر، وانتظر حتى يأتيك منا أمر جديد (تاريخ الطبري ج3،أحداث السنة 6هـ).
فتحقق ما أنبأ به النبي ﷺ. وقتل الابن أباه هو الآية الإلهية.. إذ لا يتجاسر أي ابن على رفع يده ضد أبيه.
الناس يتحيرون ويتساءلون: لماذا أصدر كسرى الأمر بالقبض على النبي ﷺ؟ ولكن هذا الحادث يدل على أن هناك من أغراه بالنبي ﷺ. والواضح أن النصارى لم يكونوا ليفعلوا ذلك..فالرومان النصارى والفرس على عداء فيما بينهم. ثم لم يكن العرب كذلك ليثيروه لأن الفرس كانوا يحتقرون العرب احتقارا شديدا..ويتبين هذا عندما قال الملك الفارسي للمسلمين حين ذهبوا لغزو فارس في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه: (ليأخذ كل واحد منكم دينارين وارجعوا إلى أرضكم.. أنتم أكَلَة الضب فما لكم وللملك؟!) (المرجع السابق، أحداث السنة 14 هـ).
فما دام العرب محتقرين في أعين الفرس المجوس لهذه الدرجة فكيف يعقل أن يتجاسروا على إثارة ملكهم ضد النبي.. وأن يستجيب هو أيضًا بهذه السهولة ويأمر بالقبض عليه؟
هذا بالإضافة أن العرب كانوا أشتاتا متفرقين تماما.. لا يجمعهم نظام مطلقا..فكيف يعقل أن يؤثر على ملك عظيم يحكم نصف العالم تقريبا.. قومٌ متخلفون منعزلون عن الدنيا ولا صلة لهم به، ولا حول ولا قوة لهم على ذلك الملك.
الواقع أن اليهود كانوا يتمتعون في دولة الفرس بمناصب عالية جعلت لهم نفوذا في الدولة..حتى أن زعماءهم كانوا يجلسون في الصدارة عند ملوك الفرس. واليهود هم الذين كانوا ألد أعداء الإسلام ونبيه، فلما استيأسوا من كل جهة، جعلوا يثيرون ملك الفرس بمختلف الطرق ضد النبي ﷺ حتى بعث الملك بالمكتوب المذكور آنفا.
وقد قال بعض المؤرخين: ربما كان كتاب النبي ﷺ الذي أرسله إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام هو الذي أثاره، فأمر واليه على اليمن أن اقبض على هذا الرجل وابعث به إلينا لأنه تجاسر علينا(المرجع السابق، أحداث السنة 6 هـ).
ولكن هذا لا يصح تاريخيا.. ذلك لأن أمر كسرى هذا كان قبل أن يدعوه النبي ﷺ إلى الإسلام بكتابه الذي أرسله إليه. يقول الزرقاني: (لأن بعثه للملوك إنما كان بعد العودة منها _أي من الحديبية _في غرة المحرم سنة سبع).(شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، ج2، أمر الحديبية). وغرة المحرم هذا توافق 12 إبريل عام 628م حسب التقويم الذي أخرجه صاحب تاريخ المؤرخين Historians History في المجلد8 صفحة118. أما كسرى خسرو الثاني فقد قبض عليه في 25 فبراير 628 واغتيل في آخر فبراير 628م (المرجع السابق، ص95). وذلك يعني أن الرسول ﷺ دعا الملوك إلى الإسلام بعد اغتيال خسرو الثاني بشهر واثني عشر يوما.. مما يبطل الزعم بأن كتاب الرسول ﷺ إلى كسرى خسرو الثاني هو الذي دفعه إلى إصدار الأمر بإلقاء القبض على النبي ﷺ، لأن سفير النبي ﷺ توجه بكتابه من المدينة إلى المدائن عاصمة فارس آنئذ بعد اغتيال كسرى (حياة محمد لموير صفحة 384). ولو افترضنا أن كتابه ﷺ هو السبب وراء ثورته.. للزم أن يكون النبي قد كتب إليه قبل ذلك بثلاثة أو أربعة أشهر .. أي في ديسمبر سنة 627م ..ولكنه كتب إليه في غرة المحرم سنة 7هـ الموافق 12 أبريل 628م. وذلك بحسب التقويم الذي أخرجه صاحب تأريخ المؤرخين، أما بحسب تقديرنا فهو 4مارس 628، وفي كلتي الصورتين لا يمكن أن يكون كتاب النبي ﷺ وراء ثورة كسرى، وإنما هي التقارير الكاذبة التي أرسلها اليهود إليه لإثارته. وحيث إنه قبض عليه في 25 /2 /628 وأعدم في آخر نفس الشهر.. فلن يكون خطاب النبي ﷺ موجها إلى كسرى خسرو الثاني وإنما إلى ابنه كسرى شيرويه الذي خلفه من بعده.
والذين أرجعوا ثورة كسرى إلى كتاب النبي..هم أنفسهم قد اعترفوا آخر الأمر أنه لم يصدر هذا الأمر بمشورة عربية لأنه لم يكن له أي نفوذ على العرب، وإنما قام بما قام بإثارة خارجية.. أصحابها هم اليهود الذين أرادوا القضاء على دولة المدينة بمساندة ملك الفرس، كما قضوا من قبل على دولة بابل بنفس الطريقة.
وقد اعترف بالمؤامرة اليهودية هذه سير وليم موير فقال: إن رجال كسرى توجهوا بأوامره قبل أن يصله كتاب النبي ﷺ. وأن اليهود كانوا يثيرون كسرى على النبي. أما العرب فلم يكن لهم شأن عند كسرى، وأما النصارى فكانوا أعداء له (المرجع السابق).
ومما يؤيد موقفي هو تصرف اليهود مع النبي ﷺ، فكل المحاولات لاغتياله ﷺ كانت من تدبير اليهود. فمثلا من الثابت تاريخيا أن امرأة يهودية حاولت مرة قتله بإطعامه طعاما مسموما (البخاري، الجهاد والسير؛ السيرة النبوية لابن هشام، أمر خيبر). ثم دعوه إلى بيت لهم وحاولوا اغتياله بإلقاء حجر كبير عليه (المرجع السابق، أمر إجلاء بني النضير).كما انحط هؤلاء لدرجة أنهم لم يكونوا يرون أي عار في القيام بنشاطات سرية.. في حين أن الأحرار الشجعان يرون ذلك عارا ويفضلون الثأر وجها لوجه. وحينما فشل اليهود في تنفيذ ما أرادوا..أغروا كسرى بقتل النبي ﷺ.
تبين مما سبق من البحث ما يلي:
- أولا-أن الجمعيات السرية كانت بدايتها من اليهود.
- وثانيا-أن هؤلاء كانوا من أعداء سليمان.
- ثالثا– أنهم دبروا نشاطات سرية ثلاث مرات: مرة ضد سليمان، وثانية ضد ملك بابل، وثالثة ضد النبي ﷺ.
وما دمنا قد رأينا أن حلقات هذه الأحداث قد اتصلت بعضها ببعض.. فتحقق أن هذه الآية تتحدث عن أعداء سليمان، ثم عمّا حدث بين الملك الفارسي كورش وبين ملك بابل، ثم كل ما دبره اليهود من محاولات لقتل محمد ﷺ.
وعلى ضوء هذه الأحداث..يكون معنى الآية كما يلي:
إن هؤلاء اليهود يتبعون ما كان الشياطين – أي رؤساء الشر والفساد –يأتونه في زمن حكم سليمان عليه السلام.. حيث كانوا يتهمونه بالكفر والشرك والإلحاد، وكانوا يشيعون عنه الإشاعات بأن النساء قد مَلَكْن قلبه ودفعنه إلى عبادة آلهة غير الله أو أن يأمر بما ينافي الدين. والحق أن سليمان كان مرسلا من ربه؛ ولم يكفر ولم يشرك قط، وإنما أولئك الشياطين..رؤوس الفتنة والشر هم الذين كفروا.
اتهامات اليهود لسيدنا سليمان بالشرك
بقي الآن مسألة لم أتناولها من قبل، وهو أن الله قد أعلن: أولا –أن أعداء سليمان كانوا يتهمونه بالكفر؛ وثانيا-أن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين الثائرين على ملكه هم الذين كفروا.
وهنا قد يقول أحد: من الممكن أن يكون معارضوه قد اتهموه بالكفر عن أمانة منهم وصدق نية، أو عن سوء فهم، أو أنهم قد اتهموه بالكفر بغيا وشرا..ولكنهم كانوا أهل صلاح. فرد الله على هذا الفرض بقوله: إن أعداءه لم يتهموه لا عن أمانة وصدق نية، ولا عن سوء فهم، ولم يتهموه وهم أهل بر وصلاح.. وإنما فعلوا ما فعلوه نتيجة لسوء أعمالهم وفساد دينهم.
ولقد سبق أن ذُكر اتهامهم سليمان بالكفر في سفر الملوك الأول صح3:11-10، ثم ذُكر في نفس المرجع (29 ،33)أن (يربعام) الذي بغى فيما بعد حارب ابن سليمان وضم إليه عشرة قبائل، وكان أكبر من اتهموا سليمان، حيث قام هو وصاحبه (أخياه)-الذي زعموه نبيا –باتهامه أنه عبد آلهة غير الله وأشرك وكفر. فرد الله سبحانه عليهم وقال إنهم كاذبون..لأنهم هم الذين كفروا وكانوا يريدون نشر الشرك وضم الناس إليهم.
والآن تعالوا نتحقق أأشركوا فعلا أم لا ؟
ورد في التوراة أنهم أشركوا بالله، حيث أقام الله أبيا ضد يربعام، فخرج بجنوده لمبارزة يربعام وقال: (..والآن أنتم تقولون إنكم تثبتون أمام مملكة الرب بيد بني داود، أنتم جمهور كثير ومعكم عجول ذهب قد عملها يربعام لكم آلهة …وأما نحن فالرب هو إلهنا ولم نتركه) (أخبار الأيام الثاني 8:13-10).
يظهر من هذا أنهم عبدوا العجل. وهروب هؤلاء إلى مصر ورجوعهم منها أيضًا دليل على ذلك..لأن مرض عبادة العجل تسرب إليهم من مصر من قبل أيضًا.. ويبدو أن المصريين كانوا يغرون الناس بالمال ليعبدوا آلهة المصريين وهكذا كانوا يوطدون تعظيم آلهتهم.
فيبين الله تعالى أن هؤلاء اتهموا سليمان بالشرك وأثاروا عليه شعبه الموحِّد، مع أن المتهمين أنفسهم كانوا مشركين حيث صنعوا أصناما وعبدوها وروّجوا لها. وقوله تعالى (يعلمون الناس السحر) يبين أنهم كانوا يخدعون الناس بكلام معسول ذي وجهين.. مما يعني أنهم كانوا مشركين في قراره أنفسهم، ولكنهم تظاهروا بالتوحيد لاكتساب تأييد الشعب، وقالوا نحن موحدون، ولكن سليمان مشرك، وذلك كقول المنافقين (إنما نحن مصلحون) (البقرة: 12). فينخدع ضعاف الإيمان بكلامهم قائلين: هؤلاء يدعون إلى شيء جميل وعلينا أن نقف إلى جانبهم.
ويمكن فهم عبارة (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) بطريقتين:
أولا –أنه عطف على (ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)؛ والمعنى أن ما حدث في زمن سليمان حدث مرة أخرى فيما بعد أيضًا. وكما تأسست جمعية سرية ضد سليمان كذلك تشكلت جمعية مشابهة لها ضد ملك بابل. أي أن الشبه بين الحادثتين كان ظاهريا فقط..لأن أصحاب الجمعية المضادة لسليمان كانوا كافرين، في حين أن أعداء ملك بابل كانوا مؤمنين.
منظور الجماعة الإسلامية الأحمدية عن الثورات
وينشأ هنا تساؤل: إن الجماعة الإسلامية الأحمدية كانت ولا تزال تتمسك بعدم الثورة على الحكومة، وهذه الآية تبين أن الثورة أمر سليم مستحب!
ويبدو هذا السؤال في ظاهره ذا وزن، ويخيل للمرء أن تعليم جماعتنا استثنائي، ولكن لو أمعنا النظر لرأينا أنه ليس في ذلك جديد؛ بل إن الإسلام يمنح الإنسان حق المقاومة للحكومة التي تضطهده، وتمنعه من الهجرة إلى بلد آخر.. ويسمح له أن يثور عليها ثورة سرية أو علنية. يصرح الإسلام بأنه إذا غضب عليكم الحاكم واضطهدكم فانتظروا واصبروا حتى يأتي فرج الله تعالى. وإذا اشتد الاضطهاد بحيث لم تعودوا تستطيعون الصبر فاهجروا تلك الأرض إلى أخرى. فإذا منعكم من الهجرة ولم ينفك عن الاضطهاد فلكم أن تقاوموه وأنتم في بلده (النساء: 98).
والواقع أن اليهود كانوا أسرى في بابل بعيدا عن وطنهم، وكان ملك بابل قد حظر عليهم العودة إلى وطنهم (الملوك الثاني 15:23-16)، ويعتبر هذا نوعا من التدخل في دينهم، لذلك أجاز الله لهم أن يثوروا على الحاكم سرا أو علنا.. مما يعني أن المؤمنين يصبرون على ما يستطيعون عليه صبرا، أما إذا رأوا أنهم لا يستطيعون الصبر صرّحوا بأننا لا نستطيع صبرا..فخذوا أموالنا وأرضنا وديارنا وخلّوا سبيلنا. ولكن إذا منعتهم الحكومة من ذلك أيضًا فلهم الحق في مقاومتها..لأنهم ضحوا بأموالهم وديارهم ولم يخلوا بالأمن، ولكن الحاكم هو الذي يخل بالأمن إذ يمنعهم من الهجرة، ويدعوهم لمقاومته. وهكذا كان حال اليهود عندئذ؛ فما كان الملوك يتركونهم ليهاجروا إلى وطنهم، ولا كانوا يسمحون لأخوتهم بتعمير مدينتهم أورشليم من جديد..إلى أن هيأ الله الظروف المواتية لذلك.. حيث قيل (وفي السنة الأولى لكورش ملك فارس عند تمام كلام الرب بفم إرميا نبّه الرب روح كورش ملك فارس، فأطلق نداء في كل مملكته وبالكتابة أيضًا قائلا: هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها إلي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا. مَن منكم من كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا، فيبني بيت الرب إله إسرائيل. هو الإله الذي في أورشليم) (عزرا 1: 1-3).
هذا هو كورش نفسه الذي ناصره اليهود، فسمح لهم بالعودة إلى أورشليم، وهو نفسه الذي جاء ذكره في سورة الكهف (84-99) باسم (ذي القرنين)، فأنشأ صداقة معهم، وهزم ملك بابل بمساندتهم بأمر الله تعالى. كانت الحكومة البابلية مستمرة من قرون، وكانت مملكة كورش ضئيلة أمامها، وأرادت بعض الحكومات بما فيها بابل القضاء على حكمه، ولكنهم عرف نيتهم فعقد اتفاقية سرية مع اليهود، وهزم البابليين.
وقد بيّن الله بذكر هذه الأحداث أن اليهود المعارضين للنبي ﷺ هم أيضًا يكيدون له كما الشياطين –رؤساء الشر –يكيدون لسليمان، ويتبعون نفس الطريق الذي اختاره هاروت وماروت بأمر من الله تعالى، ولكنهم لا يفكرون أن الذين تآمروا على سليمان كانوا أهل شر وسوء، في حين أن هاروت وماروت قاما بتلك النشاطات بأمر الله لإنقاذ بني إسرائيل من ربقة ملك بابل.. وكانا يقولان للناس: هلموا انضموا إلينا ولا ترفضوا ولا ترتدوا كافرين. تعالوا نحارب من داخل المدينة سرا.. عندما يهاجمها كورش بجيش من الخارج، ولا تخبروا بذلك نساءكم لأن فيهن ضعفا وجبنا ولا يستطعن كتمان السر. فهناك بون شاسع بين ما يقومون به وبين ما قام به هاروت وماروت من نشاط خفي.. فهل يمكن أن يدَّعوا بأن ما يفعلون بمحمد ﷺ يفعلونه بأمر الله ولإرضائه تعالى؟ هل يعد كافرا من يرفض الانضمام إليهم؟ وما داموا لا يمكنهم قول ذلك فإنهم يشبهون الثائرين على ملك سليمان، وليسوا كثائرين على ملك بابل.
ويبيّن قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) أن الثوار المشبَّهين بالملائكة لم يكونوا يغرون أحدا إلا بوحي من الله تعالى.. فهل يدعي اليهود أن الله يوحي إليهم أن يعادوا محمدا ﷺ ؟ وبرغم أنهم لم يتلقوا أي وحي كهذا.. فهم عندما يقال لهم:لا تكيدوا هذه المكائد.. يقولون: لقد سمح الله لنا بذلك.. وقد قمنا بمثل هذه النشاطات في بابل أيضًا. فيرد الله عليهم أن الأحوال والأسباب قد تغيرت الآن تماما.. لأنكم الآن تحاربون رسولي الذي تلقى الوحي مني.. ولستم إلا مثل أعداء سليمان. كما كان أعداؤه يتهمونه بالكفر فأنتم أيضًا تتهمون محمدا بالكفر؛ وكما أشاعوا ضده الإشاعات فأنتم أيضًا تشيعون الأقاويل ضد هذا النبي، وصرتم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
أمّا ما قام به رسولان من رسلي في بابل فقد قاما به بأمر مني، ضد قوم كتبنا عليهم الدمار والهلاك، وقمتم عندئذ بما قمتم به لمساندة رسلي وليس لمعارضتهم. وأما الآن فتظنون أنكم سوف تقضون على دعوة محمد ﷺ كما قضى رجلان صالحان على ملك بابل. لن تفلحوا في ذلك أبدا، لأنكم تشبهون أعداء سليمان.. ووقتها قمتم بنشاط سري ترتب عليها نفيكم من البلاد، والآن أيضًا سوف تلقون نفس المصير.
ثانيا- تكون جملة (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) جملة مستأنفة.. والمعنى أنه شتان بين ما فعل أعداء سليمان ضده، وبين ما قام به هاروت وماروت ببابل.. فلا يحق لهم أن يقولوا نحن نفعل كما فعل هاروت وماروت ببابل. والمعنى الثاني هو أنهم يشبهون في نشاطهم السري أعداء سليمان وأعداء ملك بابل. وأما شبههم بأعداء سليمان فحقيقي؛ وأما شبههم بأعداء ملك بابل فهو شبه ظاهري فقط وليس حقيقيا.
وقوله (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) يشير إلى حقيقة أن اليهود يحسبون أنهم كما تحرروا من ربقة ملك بابل بمساندة ملك الفرس.. فسوف يتحررون الآن أيضًا من حكم رسول الله محمد ﷺ بالتآمر عليه من دولة خارجية؛ وهذا لن يحدث أبدا. ذلك لأن نجاح هاروت وماروت يكمن في أنهما فعلا ما فعلا بأمر الله تعالى، ولكن هؤلاء يخالفون الله عن أمره، فلن ينفعهم. فاتهامهم النبي ﷺ بالكفر كاتهام أعداء سليمان إياه وتآمُرُهم عليه مع كسرى، ومقاومتهم له بمساندة خارجية، كما حدث في غزوة خيبر، كل ذلك لن يغنى عنهم شيئا، وإنما مصيرهم الهلاك ولن يضروا محمدا شيئا.
وكأن الله تعالى ببيان هذين الحادثين يوعدهم، ويدعوهم للمقارنة بين ما فعلوا في زمن سليمان وما فعلوا في بابل حتى يعرفوا مصيرهم، حيث أدت مؤامرتهم ضد سليمان إلى إضعاف قوة إسرائيل وانحطاطهم وهوانهم فأسرهم ملك بابل وأجلاهم عن وطنهم، حتى أن أكبر أعداء سليمان يربعام أيضًا لم يجد بدا من الهروب إلى مصر (الملوك الأول 40:11). ولكنهم لما قاموا بالنشاط السري بأمر من الله تعالى وتحت قيادة نبيين قضوا على عدوهم وعادوا إلى وطنهم من جديد.
فكأن في ذلك نبأً أنهم لتآمرهم مع الفرس سوف يُطْرَدون من المدينة ثم من خيبر أيضًا حتى تطهُر أرض العرب من نجسهم.. وعندئذ يتبين جليا أنهم كاذبون. وبالفعل أدّت مؤامرتهم هذه إلى هلاك كسرى، ثم إلى نفيهم من الجزيرة العربية، تماما كما حدث بالمتآمرين على سليمان عليه السلام.
وقوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق).. يوضح أن رؤساءهم يدركون جيدا أن من يعادون أنبياء الله تعالى ويأتون بهذه المنكرات لا يكون لهم أي نصيب من نِعم الآخرة؛ ولكنهم مع ذلك لا يرتدعون عن القيام بمثل هذه النشاطات، فذات مرة جاء حبران يهوديان إلى النبي ﷺ، ولما رجعا سأل أحدهما الآخر: ما رأيك فيه؟ قال: إني أراه صادقا. فقال الأول: وأنا كذلك. قال: فهل نؤمن به؟ قال: لن أصدقه ما حييت. فقال: وهذا بالضبط ما نويته. (السيرة النبوية لابن هشام، عداوة اليهود –شهادة من صفية)
ويظهر من هذا أن قلوب اليهود كانت تشهد بصدق النبي ﷺ مما رأوا من أدلة صدقه، ومما تحقق من الأنباء التوراتية، ولكنهم كانوا يكفرون به بأفواههم.
ويشير قوله تعالى: (ولبئس ما شروا به أنفسهم) إلى أنهم يحسبون بفعلهم هذا أنهم قد اشتروا أنفسهم.. أي أنقذوها من الدمار، ولكن الحقيقة عكس ذلك.. حيث إنهم بسبب ذلك سوف يهلكون، فيعاقبهم نبينا في الدنيا، ونعذبهم في الآخرة.
وقوله (لو كانوا يعلمون) يعني من يدريهم أن محمدا سوف ينال من القوة والسلطان ما لا قبل لهم به.. وينفيهم من الجزيرة العربية؟
هذا، وتبين الآية أيضًا أن الإسلام لا يرضى بالنشاطات الخفية والجمعيات السرية، وما حدث ببابل كان استثناء تمَّ بأمر من الله تعالى.
الجزء التالي جاء في الأصل الأردو تحت تفسير الآية القادمة (104)، ونقلناه هنا لربط الموضوع:
ويجدر بنا أن نوضح هنا إشكالين: الأول –أن الله تعالى استخدم صيغة الماضي فقال: “واتبعوا” في حين أن الأوفق استخدام صيغة المضارع “يتبعون “.
الواقع أن الأمر الذي أشير إليه هنا هو النشاط اليهودي السري الذي أثاروا به كسرى خسرو الثاني ضد النبي ﷺ. ولكن لمّا خلفه ابنه شيرويه توقف هذا النشاط، لذلك استخدمت صيغة الماضي، لأنه لو استخدمت صيغة المضارع “يتبعون ” لظن أن الملك الجديد أيضًا لم يزل سائرا سيرة أبيه، وهذا خلاف الواقع.
والإشكال الثاني أن الله تعالى استخدم صيغة المضارع “تتلو “مع أن الأنسب هو استخدام صيغة الماضي “تلا “. وقد أجاب المفسرون على ذلك بأن هناك محذوفا قبل الفعل “تتلو”..وتقدير العبارة: كانت تتلو (البحر المحيط). وأسلوب الحذف من السمات الخاصة باللغة العربية دون اللغات الأخرى. فبينما تلجأ اللغات إلى أدوات خاصة للتأكيد والتنبيه.. فإن العربية تؤدي معنى التوكيد بالحذف فقط. فحذفت (كانت ) لتأكيد أن أعداء سليمان قاموا بالنشاط ضده.. وأن أعداء محمد ﷺ أيضًا يسلكون طريقهم تماما، ولا يألون جهدا للقضاء على الإسلام.
وعلاوة على ذلك فهناك سبب آخر لاختيار هذا الأسلوب.. وهو أن من أساليب العرب أنهم يستخدمون صيغة المضارع للتعبير عن عادة قديمة، ومثال ذلك قول الله تعالى: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) (البقرة: 192). وهنا أيضًا جيء بصيغة المضارع للإشارة إلى النشاطات اليهودية المستمرة التي لم يزالوا يقومون بها منذ زمن سليمان ورسخت فيهم حتى كأنها صارت طبعا فيهم.