جاء في تفسير المصلح الموعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يرى بعض المفسرين أن الخليفة المذكور هنا هو آدم ؑ، سماه الله خليفة لأنه قُدِّر له أن يكون نبيًّا مُنفّذا لأحكام الله تعالى. وإني أرى هذا الرأي، ولكني لا اتفق مع من قال بأن الملائكة كانوا سكان الأرض قبل آدم .. لأنه لا سند لذلك. وكذلك لا أتفق مع القول بأن الجن من غير البشر هم السكان السابقون، فهو قول واهٍ وزعم لا دليل عليه. وَلَمْ تكن تسمية آدم خليفةً بسبب مجيئه بعد الملائكة أو الجن، بل هذا سبب باطل واهٍ، إذ إنَّ الخليفة يصلح لأن يطلق على كل مخلوق يخلف مخلوقاً جاء قبله .. والحال أنه لا يملك أحدٌ تحديد بداية الخلق. كما لا يصح عندي القول بأن الخليفة هم ذرية آدم من بعده، لأن القرآن عندما أراد ذكر خلافة الشعوب بعد آدم استخدم صيغة الجمع مثل قوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} (الأنعام:166)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} (فاطر:40)
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} (يونس:15)
{وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} (يونس:74)
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} (الأعراف:70)
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْض} (النمل:63)
بعد أن أشار القرآن إلى اصطفاء المصطفى ﷺ وبعثته إلى الناس بالقرآن الكريم الذي لا ريب فيه، وهدى للمتقين، من عند الله تعالى .. ذكر اصطفاء الله تعالى لآدم .. فدلَّ بذلك على أن نزول الوحي السماوي وبعْث الأنبياء ليس من البدع، بل إنه سنّة مطّردة منذ خلق الإنسان على هذه البسيطة، ولا يزال مستمراً دون انقطاع، وأن آدم هو الإنسان الأول، ومعه بدأ نزول الوحي السماوي، وأن الله تعالى لم يترك الإنسان مهملاً مضيعاً أبداً، بل ما زال قائماً على هدايته منذ البداية.
وبِذكر قصة آدم مع الملائكة يقدم القرآن درساً مفيداً للناس فيما يتعلق بالوحي والنبوة، وهما من أمور الغيب. فقد أشار الله تعالى بتساؤل الملائكة إلى حقيقة أن الناس عادة، قبل بعث نبي، لا يدركون الحاجة إلى الوحي وإرسال نبي إلى أن يبعثه الله، فيتم رسالته، ويظهر للناس مدى حاجتهم إليه، وذلك بسبب ما يحدث من تطورات تدفعهم إلى الاعتراف بأنه لولا ظهوره لظلت الدنيا محرومة من تطور نافع. إن تساؤل الملائكة يشير إلى أنه حتى أمثال الملائكة لا يستطيعون إدراك حقيقة ذلك التطور العظيم الذي يحدث في الدنيا بعد بعث نبي من الأنبياء، فما بالك بالأشرار والسفلة من الناس. فمن لوازم الحكمة ألا يخالف المرء أمرا قبل وقوعه؛ إذا لم يمكن له الإيمان به، فعلى الأقل أن لا يعارضه، بل ينتظر حتى يتم المبعوث مهمته، فإن يكُ صادقا تحقق صدقه بعمله، وأن يكُ كاذبا تبين كذبه بعمله. وقد ذكر القرآن هذا المعنى على لسان واحد من قوم فرعون فقال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} (غافر:29). وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: 2،3)
وذِكرُ الملائكة في هذا الوضع إشارة إلى دورهم في مهمة المبعوث السماوي. يخبرنا القرآن الكريم .. وسائر الأديان تؤيده في ذلك، أن تدبير أمر هذا العالم يتم بإذن الله تعالى بواسطة الملائكة .. فهم مأمورون بإتمام الأعمال المختلفة .. فهناك ملائكة لتنفيذ أوامر الموت، وملائكة موكلة بالكواكب وحركاتها، وملائكة لتدبير الأمطار والرياح. وفي الأمر الإلهي للملائكة بجعل آدم خليفة ثم السجود له .. إشارة إلى أن الملائكة مكلَّفون بتأييد آدم في مهمته كخليفة أو نبي، ولذلك فإن فلاح النبي في مهمته أمر حتمي؛ إذ تسانده الملائكة المدبرون لنظام هذا العالم. ونرى في حياة الأنبياء من الشواهد ما يدل على هذه الحقيقة. ففي نجاة نوح من الطوفان، وسلامة إبراهيم من النيران، واجتياز موسى البحر وهلاك فرعون؛ ونجاة عيسى من الصليب، وانتصار “رام شندر جي” رغم إحداق أعدائه به، وغلبة “كرشن جي” على أعدائه الجبابرة، وتغلب “زرداشت” على أعدائه الأشداء، وفوق كل ذلك كله وأعظم منه .. مبارزة الرسول ﷺ لجميع العرب وهو وحيد منفرد، وانتصاره عليهم جميعا بصورة خارقة .. في تلك الحوادث كلها معجزات بينات لا ينكرها إلا العميان المعاندون، ودلالة على صدق هذه الحقيقة، وتذكير للناس بأن الملائكة الذين أُمروا بمساندة آدم مأمورون أيضًا بمساندة محمد ﷺ في مهمته، وأنهم سوف يحدثون تطورات حاسمة يترتب عليها الانتصار النهائي لرسول الله ﷺ بالرغم من كل العداء.
وتشير الآية أيضاً إلى أن آدم خلق على هذه الأرض، وكانت مهمته في هذه الدنيا، وعلى هذه الأرض ذاتها .. وذلك بخلاف ما يزعم البعض من أن آدم أُدخل الجنة التي يدخلها الصالحون بعد موتهم. ومما يدعوا للتعجب أن الله عز وجل يقول {إني جاعل في الأرض خليفة}، ومع ذلك يصرّ البعض على دخول آدم في الجنة الموعودة في الآخرة. وقد قال بعضهم بأن الله خلق آدم أولا على الأرض ثم أدخله الجنة .. ولكن الآية لا تسيغ هذا القول، لأنها صريحة في جعل الحليفة في هذه الأرض. ومن البيّن أنه يستخلف في الأرض من أجل هدف وغاية، ولا يتحقق ذلك بدخول آدم في الجنة.
وآيات القرآن الأخرى تدحض هذا الزعم فمثلا: يقول تعالى عن الجنة الموعودة بأنها {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} (الطور:24) .. ولكن الجنة التي دخلها آدم دخلها معه الشيطان، وحرضه على معصية الله تعالى. ثم يصف الله الجنة بقوله {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر:49) .. لكن آدم أُخرج من الجنة. وكذلك يقول عن الجنة {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (فصلت:32)، ولكن آدم أُخرج من الجنة بسبب اقترابه من الشجرة. وجاء في وصف جنة الآخرة {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (الزمر:75)، ولكن آدم أمر بألا يقرب الشجرة.
تبين مما سبق أن جنة آدم ؑ كانت على هذه الأرض، لأنه كان خليفة لأهل هذه الأرض، فكان محتمًا بقاؤه فيها حتى الموت.
وقد اعترض بعض الناس على قوله {وإذ قال ربك للملائكة..}، فقالوا:
1. لقد استشار الله تعالى الملائكة، فهل يحتاج الله عز وجلّ إلى استشارة؟
2. ارتاب الملائكة في حكم الله تعالى بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها}.. فهل لهم حق الاعتراض على حكم الله تعالى؟
3. لقد تحقق قول الملائكة وأفسدت ذرية آدم في الأرض.
وقبل أن أجيب عن هذه الأسئلة ينبغي أن نفهم معنى كلمة “قال”. إن هذه الكلمة التي ترددت في الآية لا تعني أن الله عز وجل قد دعا الملائكة والناس إلى مجلس، ثم وجه الخطاب إلى الملائكة؛ وإنما المراد منها التعبير عن المُتَصَوَّر في النفس قبل الإبراز باللفظ، كما جاء في شرح الكلمات. وقد ورد هذا الأسلوب في القرآن الكريم، كما في قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة:9). وهي أيضاً تدل على لسان الحال كما جاء في القرآن الكريم: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:12).
فليس من الضروري أن يكون القول الوارد في الآية الكريمة قد تم بصورة ظاهرة، وإنما أريد بهذا الحوار تصوير لما جرى على لسان حال كل شيء من الاستجابة لحكم الله تعالى.
وإذن فإن ما تحكيه آيتنا من قول إما مناقشة بلسان الحال، أو أنه تصوير للوحي السماوي الذي أنزل على الملائكة، وهذا ما أرجِّحه. وكل ما قال الله تعالى للملائكة إعلان بقراره تعالى لا يمُتُّ إلى الاستشارة بصِلة .. لأن سياق الآية وألفاظها لم تذكر الاستشارة .. لا صراحةً ولا ضمنياً، فالآية تقول: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فليت شعري! من أين استخرج المعترضون معنى الاستشارة؟ إن الله تعالى أخبر ملائكته بالأمر كي ينشط كل واحد منهم في نطاق عمله لمناصرة آدم عليه السلام، ويدرك الأمر الموجه له ويتفهم نواحيه الغامضة. فإذا استفسر عن شيء منها فليس ذلك عن اعتراض، وإنما استزادة من العلم. ولا أدل على براءة الملائكة من تهمة الاعتراض من قولهم: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}.
ومن زاوية أخرى يمكننا أن نأخذ هذه العبارة كتساؤل شبيه بالاعتراض. ذلك أن آدم كما كان نائبا لله تعالى، كذلك كان هناك أناس شبيهون بالملائكة .. تجوز تسميتهم ملائكة. فيمكن أن يكون قد خطر ببال هؤلاء أنهم ما داموا يعبدون الله عز وجل بقدر ما أتوا من العقل .. فأي حاجة هناك لبعث إنسان بالشريعة؟ وفي ضوء هذا المعنى تعتبر هذه العبارة ردًّا على ما خطر ببال هؤلاء من اعتراض. فكلما يبعث الله نبيًّا فإن أصحاب الصلاح في الظاهر يفكرون بنفس هذا الأسلوب. فمن كان منهم ذا تقوى حقيقية يفطن لخطئه، ويؤمن بإمام زمانه، وأما اللذين تنقصهم التقوى الحقيقية الكاملة فتزل قدمهم، ويخرجون من صفوف الملائكة إلى صفوف الأبالسة.
هذا المشهد يتكرر في زمن كل نبي .. ففي زمن النبي ﷺ أيضاً نجد شخصاً اسمه زيد، وكان يدَّعي أنه يتبع ملة إبراهيم حنيفاً، ويدعو العرب قبل بعثة النبي إلى عدم الإشراك بالله تعالى. ومرّة اجتمع على الأكل مع النبي ﷺ، فرفض الأكل معه بحجة أنه لا يأكل مع المشركين. فأجابه النبي ﷺ بأنه لم يقع في الإشراك بالله قط. وبعد فترة عندما ادعى النبي ﷺ بأنه بعث رسولاً من الله تعالى لَمْ يوفق هذا الرجل إلى التصديق به، وإنما قال: لو كان الله باعثاً نبياً لبعثتي أنا الذي حاربت الشرك طيلة الحياة. (البخاري، كتاب المناقب، مناقب الأنصار؛ وسيرة ابن هشام)
فانظروا كيف أن هذا الرجل الذي كان قبل بعثة النبي ﷺ بمثابة ملَك من الملائكة بين العرب .. رفض أن يؤمن به ﷺ، واعتبر بعثته عبثا. وأمثال هؤلاء يوجدون في عصر كل نبي، ورغم أنهم يكونون فيما يظهر ظلالا للملائكة .. إلا أنهم يدخلون في الأبالسة بالاعتراض على بعث إمام زمانهم.
أما المسألة الأخيرة .. من حيث تحقق قول الملائكة وعدم تحقق قول الله تعالى .. فهي أيضاً ناشئة عن تفكير قاصر، فالله تبارك الله تعالى لَمْ يقل بنفي الفساد وسفك الدماء، بل إن مفهوم سفك الدماء والفساد متضمن في إعلان بعث {خليفة}. يقول الله صحيح أن بعث آدم كخليفة يعني أن أفعال الناس سوف تقاس بمقياس الشريعة وسوف تعد بعضها فسادا وسفكا للدماء، ولكنه مع ذلك سيحقق غاية عظيمة لا يمكن أن يحققها أحد من سائر المخلوقات. ويؤكد هذا قوله تعالى {إني أعلم ما لا تعلمون .. حيث لَمْ يخطئهم في دعواهم، بل قال: هناك شيء أعرفه ولا تعرفونه. وهكذا وجد الملائكة الجواب على سؤالهم كما تحقق ما أخبرهم الله به.
ورُب سائل عن قوله تعالى:{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} .. أيتّصل هذا القول بآدم، أم ببعض من بُعث إليهم، أم بذرية آدم المقبلة؟
والجواب عن ذلك أن هذه الجملة تتصل بهؤلاء الثلاثة جميعا. أما علاقتها بآدم فلأنه أول الأنبياء، وعلى يده جاءت الشريعة قيدًا على الإنسان. ومن البيّن أن من يتولى أمر تطبيق النظام قد يعمد أحياناً إلى سجن بعض الأفراد، وقتل المجرمين منهم .. توطيدا لدعائم النظام، وقد يفرض الضرائب عند الضرورة. وهذه التصرفات قد تبدو بادئ النظر نوعاً من الفساد عند من لا يعرف مصالح النظام، وعندئذ يتساءل متحيراً: كيف يجوز الاستيلاء على أموال الناس بالإكراه؟ وكيف يسجن الأحرار ويقتل الأحياء؟ ولكن لا يمكن أن يقوم بتثبيت قواعد الأمن من دون فرض الضرائب وسجن المجرمين وقتل القاتلين.
وأما علاقة ذلك القول بمن بُعث إليهم آدم وبذريته المقبلة، فذلك لأن حدود الشريعة هي التي تميز المسيء من المحسن، والمذنب من البريء. إن الحيوان يفترس ويقتل ويلدغ ولا يُعدّ مفسداً، لأنه محروم من العقل الذي يفرق بين الخير والشر، ولا يخضع لحدود الشريعة. وهكذا كان البشر قبل آدم، فإذا بلغ الإنسان من العقل مبلغًا يؤهله لاتباع الشريعة .. كان عندئذ التمييز بين المفسد والمصلح، وأصبح منذ ذلك الوقت مطالَباً على لسان آدم ألا يعتدي على حق غيره ولا يفسد في الأرض، وأصبح الحاكم المنفّذ للشريعة مسئولاً عن إعطاء كل ذي حق حقه. ومن خالف الشريعة فهو المفسد أو سافك الدماء .. الأمر الذي لَمْ يكن معروفا قبل الشريعة.
ومن الطرائف الغريبة أن الإنجيل أشار إلى هذا المعنى ولكن بصورة ناقصة في رسالة بولس إلى رومية. “.. لأن الناموس ينشئ غضباً، إِذْ حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍّ .. على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس.” (رومية، صح :4،5). ولقد استدلت المسيحية بهذا المعنى الناقص استدلالاً خاطئاً إِذْ ظنت أن الشريعة محض عقاب، وأن المسيح الناصري هو الذي نجى الإنسان من هذا العقاب. وهكذا تغافلوا عن أنَّ الخطيئة سم. وهي ليست سماً لأن الشريعة حسبتها كذلك، بل لأنها في حد ذاتها سم. ولذلك عدّها الله تعالى معصية. إن وصف السم بالسمية لا يزيد من مضرته، بل إنه يفتح أمام الإنسان أبواب اجتنابه والنجاة منه. إن الطفل الصغير محروم من الوعي والشعور الصائب، ولذلك كانت أفعاله حرة مطلقة من المسؤولية، فإذا فعل ما يؤذيه أو يؤذي غيره، فليس بمسؤول عن فعله، لا لأن ما فعله ليس بشرّ .. وإنما لأن الطفل لا يقدر على التمييز بين الخير والشر. وعندما يبلغ الطفل مبلغ الإدراك والفهم الواعي يُحكم على فعله بالصواب والخطأ، وعلينا عندئذ أن نُعلمه الأوامر والنواهي .. أي ماذا يفعل وماذا يترك، وعليه أن يعمل وفق ما نعمله .. فإن فعل أصاب، وإن خالف أخطأ.
وقصارى القول: إن سؤال الملائكة يعني: أن حالة البشر سوف تتغير بعد نزول الشريعة وتعيين خليفة، وعندئذ سيكون منهم مفسدون وسفاكو دماء طبقاً لهذه الشريعة، وما كانوا من قبل الشريعة يدانون على مثل هذه الأفعال .. فاستفسارهم هذا في محله ويحتاجون شرحه وبيانه. وَلَمْ تكن الحكمة الإلهية ترمي إلى إدانة الإنسان ووصمه بالإجرام، وإنما كان الفكر الإنساني قد بلغ عندئذ من التقدم والدنو من الكمال بحيث تترك أفعاله هذه أثرا سيئا في قلبه، فلذلك أراد الله تعالى أن ينزل على البشر وحيه، فيصطفي آدم من بينهم خليفة ليقود البشرية إلى مكانتها المرموقة، ويسعى إلى تلك المثل العليا التي أصبح الإنسان أهلا لها.
وهنا نقطة جديرة بالذكر .. فكلّ ما قاله عز وجل عند استخلاف آدم قول صحيح تماماً .. وتساؤل الملائكة أيضاً تساؤل صائب .. والاختلاف بينهما إنما هو من ناحية وجهة النظر فقط. فالله تعالى كان يرى من استخلاف آدم تجلياً عظيماً لظهور سيدنا ومولانا محمد ﷺ .. فآدم هو المرحلة الأولى لوضع البشرية على طريق الكمال .. الذي يصل إلى ذروته في شخص خاتم النبيين ﷺ، بينما كانت الملائكة تخشى على البشرية من أجل مظاهر الشر المصطبغة بصبغة أبي جهل وأمثاله.
إن تأسيس الخلافة سيكون مدعاة لإنزال العقاب بطائفة معدودة من المفسدين والقاتلين، ولكن هناك طائفة أخرى قُدّر لها أن تتفوق على الملائكة أنفسهم، وتنال محبة الله والقرب منه. وهذه الطائفة الناجحة هي الغاية من خلق هذا المجتمع الإنساني المنظم. ولوجود هذه الطبقة الممتازة من البشر .. لا يجرؤ أحد على الادعاء بفشل النظام البشري، بل إن كل واحد من أفراد هذه الفئة العليا لجدير بأن يُخلق هذا النظام من أجله. وأعلاهم شأنا وأحقهم بذلك.. هو محمد ﷺ، الذي خاطبه الله تعالى فقال له: “لولاك لما خلقتُ الأفلاك“.
هذا الحديث القدسي ورد في حق المصطفى ﷺ، وقد تلقّى أشخاص كمَّل إلهامات مماثلة. وهؤلاء الأبرار الكاملون لدليل على أن مشيئة الله هي الحكيمة، وأنه لم يكن لمخاوف الملائكة أي وزن.
وقول الملائكة: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} يُبطل الظن باعتراضهم على الله تبارك وتعالى، فهم الحامدون المقدِّسون، وما كان لحامد مقدس لله أن يعترض على أمر منه عز وجل .. إنما هم يتساءلون عن ذلك لفهم حقيقة الأمر لا غير.
ويمكن أن يكون لهذه العبارة معنى آخر، فالملائكة يعبرون بقولهم هذا عن الشك في كمال عبادتهم لله قائلين: إننا نحمدك ونسبحك ونقدس لك بما في وسعنا، ولعل ضعفًا قد حدث في عبادتنا هذه، فاقتضى ذلك خلق كائن آخر يكون ظلاً لك. ومن ناحية هذا المعنى لا يكون في قول الملائكة مظنة الاعتراض، وإنما هو مظهر لطيف رائع لخشية الله تعالى، وهو الأجدر بشأن المقربين عنده عز وجل.
وقوله تعالى: {قال إني أعلم ما لا تعلمون} جواب مجمل كافٍ لإقناع أمثال الملائكة المقربين .. لأنهم يعرفون عظمة الله عز وجل. فلما قال تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون من المصالح العظيمة في خلق آدم أيقنوا بأنه هو الحق. ثم أراد الله تعالى أن يبين ذلك للأجيال المقبلة من بني آدم، ولذلك أورد جواباً مفصّلاً كما سنرى في الآيات التالية.
وجدير ذكره أيضاً أن القرآن الكريم يتميز عن الكتب السماوية الأخرى بأنه يجمع بين التسبيح والتحميد والتقديس. إن التسبيح يتضمن التنـزيه عن العيوب، وأهل السمو لا يقنعون بصفات التنزيه، لأن الكمال يتطلب الصفات الإيجابية الحقيقية. إن نفي بعض العيوب لا يعطي الصورة الحقيقية، ولكن ذكر الصفات الثابتة الإيجابية هو الذي يجلي الحقيقية. فمثلا لو قلنا إن الله تبارك وتعالى ليس بمادة، وأنه لا يجوع ولا يعطش، ولا يأخذه نوم ولا يطرأ عليه موت، ولا يخضع للأهواء .. تبين للسامع من قولنا هذا أن الله تعالى مختلف عن سائر الموجودات بعض الاختلاف .. ولكن لا يستبين له من ذلك عظمة الله وكبرياؤه بحيث يقدره حق قدره.
لقد اهتمت الديانات البدائية بناحية التنزيه والتسبيح، لأن العقل الإنساني لم يكن قد بلغ عندئذ مبلغًا من كمال النشوء بحيث يدرك ناحية الحمد والتقديس. ولكن القرآن الكريم لم يُولِ الصفات الإلهية التنزيهية اهتماماً كبيراً، وإنما أعطى الناحية التقديسية أعظم الأهمية، وبها يقدم للناس صورة واضحة جلية للصفات الإلهية لم يسبق لها مثال في الوضوح والشمول والتمام، بحيث يعرف الإنسان عن ربه ما يملأ قلبه حبًا وإجلالاً لصاحب الحمد المطلق والقداسة التامة. وعلى سبيل المثال يقول القرآن الكريم عن الله تعالى أنه: {لا يَمُوت} (الفرقان:59)، {لَمْ يَلِدْ }، {وَلَمْ يُولَدْ } (الإخلاص:4)، {لا يُطعَم} (الأنعام:15)، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة:256).
إذا تأملنا هذه الصفات السلبية وجدناها لا تتحدث في الحقيقة عن عظمة الله، وإنما هي صفات تبطل معتقدات الشرك الشائعة في النصارى وأمثالهم من المشركين، الذين كانوا يصفون الله تعالى بصفات البشر. لقد صرّح القرآن في هذه الآيات أن الآلهة التي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، وتولد من بطون الأمهات، وتتزوج وتنجب، وتنام ويغلبها النعاس من التعب .. ليست من الله تعالى في شيء .. إنه متعال عن كل ذلك علواً كبيرا.
أما صفته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:12)، فهي أيضاً ليست سلبية محضة، وإنما تبين أن الله تعالى ذكر لنا في القرآن الكريم صفاته الإيجابية الذاتية بصورة تقربها إلى فهمنا، ولكن علينا ألا ننخدع بها ونحسبها تشابه صفات الإنسان، فإنها في الحقيقة مختلفة عنها تمام الاختلاف. إن الله تعالى متكلم، ولكنه لا يتكلم بالكيفية التي يتكلم بها البشر بحيث يحتاج إلى لسان وحلق وشفاه وما إلى ذلك من أدوات النطق البشري. وهو يسمع ويبصر، ولكنه {ليس كمثله شيء} في سمعه وبصره. وهكذا يعرفنا القرآن الكريم بالصفات الإلهية الذاتية مع بيان اختلافها عن الصفات البشرية.
إن قول الملائكة: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} إشارةٌ إلى ما يراه ذوو العرفان الكامل من عباد الله المقربين. إنهم لا يرون الله تعالى عن طريق صفاته التنزيهية السلبية، بل يتشرفون بعرفانه عن طريق صفاته الحقيقية الإيجابية. كما أنه إشارة أيضًا إلى أن القرآن الذي يؤكد على وجود هذه الصفات الإيجابية الحقيقية .. سيكون ذريعة إلى خلق المظاهر الملائكية التي تهتم بالحمد والتقديس مع اهتمامهم بالتسبيح، وأنها ستقرب الوجود الإلهي إلى عباد الله بصفاته المتصلة بتجلي قدرته تعالى، ولن يقتصر اهتمامها على صفاته التنزيهية السلبية التي تجعله، جلّ وعلا، كما لو كان وجوداً خفياً متوارياً منقطعاً عن عباده.
والحق أن الاتصال الكامل بالله عز وجل لا يمكن إلا بالتفكر في صفاته الإيجابية والانتفاع بها، ومن يتمسك بالتسبيح فقط فإنما يعترف بأن لله تعالى وجوداً أسمى؛ لكن الذي يسبح بحمده فإنه يراه إلها حياً فعالاً، ويُحظي به الآخرين أيضًا.
لقد علّم الله عز وجل أمة الإسلام بقول الملائكة هذا درساً عظيماً، فعلى المسلمين ألا يكتفوا بتنزيه الله تعالى بالصفات السلبية، بل عليهم أيضًا أن يذكروه بالصفات الإيجابية كي يستفيدوا منها ويحمدوه بها، ويكونوا بذلك الجواب العملي على تساؤل الملائكة، والبرهان الفعلي على أهمية خلق البشر بتفوقهم في التسبيح والحمد، ويصبحوا شهادة حاسمة على كمال حكمة الله عز وجل.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ