{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَاكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (آل عمران: 49 – 51)
{يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} أي الكتابة.
{أخلُقُ}؛ أي الاختراع: كما جاء: {تَخْلُقُونَ إِفْكًا} (العنكبوت: 18) {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: 30).
{أُحْيِي الْمَوْتَى} هناك إحياء قام به سحرة موسى، وإحياء يقوم به الله، وإحياء يقوم به الأنبياء. والمراد هنا فهو الإحياء من النوع الثالث وحده: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأَنْفال: 25)
{بِمَا تَاكُلُونَ} النبي يخبر ماذا يجب أكله وما الواجب الاحتفاظ به. وقد ذكّر بأحكام شريعة التوراة. {تشحيذ الأذهان، المجلد8، رقم9، الصفحة: 446)
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ أي أصنع من الطين شيئا مثل الطير … فيطير بإذن الله. (نور الدين، الطبعة الثالثة، الصفحة: 175)
{أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}، في هذه الآية هناك خمس كلمات تحتاج إلى الشرح، وهي: خلق، الطين، يكون طيرا، أبرئ الأكمه، أحيي الموتى.
“الخلق” يعني التقدير. وأكبر دليل على هذا المعنى هو في آية: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: 30). إذا استنبطنا معنى أن الله أنهى خلْق كل شيء في الأرض فهذا المعنى يخالف الواقع. لذلك ورد في التفسير الكبير أن معناه: التقدير.
والشهادة الثانية هي: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (الحشر: 25). الصورة تتراءى لكل شيء، وتأتي قبله مرحلة البُرء، كما أن النحات ينحت الحجر ويصنع منه شكل جميلا. ثم يتم التقدير من البُرء. فقد قال في: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 3) أن مرحلة الخلق تأتي قبل مرحلة التقدير، فما هي تلك المرحلة يا تُرى؟ إنها التقدير.
{لَكُمْ}؛ أي لصالحكم.
{الطِّينِ} لقد ذُكر الطين في القرآن مرتين. مرة في قول الشيطان: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأَعراف: 13). الطين يُطلق على خليط من التراب والماء. من خواص الوحل أنه يمكن أن يتحول إلى أيّ قالب تشاؤون، ولكن النار لا تتحول كذلك. فهنا يقول المسيح – عليه السلام – بأني أستطيع أن أقترح ولكن للذي يملك صفة الطين، أي الذي يقبل تعليمي، ويخلق في نفسه صفات الطين حتى يمكن تحويله إلى أيّ قالب، “يكون طيرا” أي طائرا إلى الله. لقد وردت كلمة “طير” في الحديث بحق المؤمن.
{فَأَنْفُخُ فِيهِ}؛ أي سأنفخ فيه روح كلام الله فيخرج من المادية ويصبح إنسانا طائرا في العلياء.
{خَلَقَ}؛ إذا كان معناه الخلق المادي فهذا يخالف معتقدات الإسلام لأن الله تعالى يقول: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 4)، ويقول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (الأَنعام: 102)، ويقول أيضا: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الأَنعام: 103)، و: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} (النحل: 21).
{أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} يبدو بإلقاء نظرة على أديان العالم، أن دين الهندوس يقول لكل من يعاني أنه ارتكب السيئات في حياته السابقة، والآن يواجه عقوبتها. ولكن القرآن الكريم يعارض هذا الاعتقاد فيقول عن الأموات: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} (المؤمنون: 101)، هذا ما يقوله المسيح أيضا، إذ قد جاءه أعمى من الولادة وشُفي بدعائه فسأله الحواريون: هل عمِي نتيجة أعماله في حياته السابقة أم نتيجة أعمال والديه؟ فقال – عليه السلام -: كِلا هذين الأمرين خطأ، بل لقد عمي ليظهر جلال الله. يتبين من ذلك أن أفكار التناسخ كانت موجودة عند بعض الناس في زمن المسيح – عليه السلام -. يقول القرآن الكريم أن المسيح أيضا دحض التناسخ وقال بأنه يبرئ الأكمه والأبرص بواسطة: {مِمَّا تَعْمَلُونَ} ولم يصبح أحدهم أكمه وأبرص بسبب سيئات كسبها في الحياة السابقة. لقد وردت في القرآن الكريم كلمة “الشفاء” مقابل المرض.
{أُحْيِي الْمَوْتَى} إحياء الموتى من ثلاثة أنواع. أحدهما كما قال إبراهيم كما جاء في سورة البقرة: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 259)، وقد جاء في آية أخرى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} (يونس: 57)، ولا يشارك أحد في فعل الله.
والنوع الثاني من إحياء الموتى هو ما فعله الكفار مقابل موسى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} (طه: 67). والنوع الآخر من الإحياء ما يقوم به الأنبياء، فقال الله تعالى عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأَنْفال: 25)
كان المسيح رسولا فلا بد أن يكون إحياؤه أيضا كإحياء الأنبياء. ما هو ذلك الإحياء يا تُرى؟ إنما هو تحوّلُ الطالحين إلى الصالحين. قال لي شخص عند سماعه هذا الكلام: هذا أمر بسيط: قلتُ: إذا كان المسيح أحيا ميتا حقيقيا فاخبِرني، فلم يُطِق جوابا.
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَاكُلُونَ} ليس معناه أنه كان يخبر الناس ما أكلوا وما شربوا. هذا ليس عمل الأنبياء بل هو عمل الأطباء. الأنبياء يخبرون بالأوامر المتعلقة بالأكل والشرب والاكتناز. فيقول عيسى – عليه السلام -: أنبّهكم بما هو الحلال لكم للأكل وكم من المال يجب أن تدفعوا زكاةً وكم منه يجوز إبقاؤه عندكم.
ذهبتُ ذات مرة إلى مكان وبدأ الناس يمدحون شخصا أنه يُخبر بما أكله المرء ليلا. وكان السرّ في الموضوع أنه كان طبيبا وكان قرب عيادته محل بيع الخضروات فكان يرى ما يشتريه الناس ويعلم ما طُبخ في بيوتهم. (ضميمة جريدة بدر، قاديان، العدد: 17/ 6/1909م)
قبل استنباط المعنى من هذه الآيات يجب الانتباه إلى أنه قد قيل في بداية سورة آل عمران نفسها أن الآيات نوعان؛ المحكمات والمتشابهات. المحكمات هن أم الكتاب أي الأصل. فيجب أن تُستنتَج من المتشابهات معانٍ لا تخالف المحكمات. وهذا ينطق على كلام كل متكلّم. فمثلا إذا قال أحد لخادم أننا نريد أن نسافر اليوم بالقطار إلى مكان كذا وكذا فأحضِر لنا تذكرة. والمعلوم أن هناك عدة أنواع للتذاكر ويمكن الحصول عليها من عدة أماكن، ولكن إذا جعل الخادم معنى المتشابه تابعا للمحكم فيحضر تذكرة القطار فحسب. كذلك ما دام قد قيل في آيات محكمات أخرى أن الخلق والإحياء وعلم الغيب خاص بالله وحده، ثم إذا نُسبت هذه الأشياء إلى عيسى مع أنه بشر فلن يؤخذ منها معنى يؤخذ بحق الله. ونحن أيضا لا نأخذ معنى مجازيا لأنه تكون لكلمة واحدة عدة معان في اللغة لذا سيؤخذ المعنى الذي يناسب عيسى – عليه السلام -. ثانيا: هذه السورة تفند معتقدات المسيحيين فلن يؤخذ منها معنى يؤيد معتقداتهم ويُثبت ألوهية عيسى – عليه السلام -. ثالثا: لقد أُمر بالدعاء لاكتشاف معنى المتشابهات. فقد كُشف لي بعد عدة أدعية أن الخلق صفة خاصة بالله فيقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (العنْكبوت: 20)، وقال في سورة البروج: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} (البروج: 14). وقال أيضا: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ} (الأَعراف: 55)، قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزمر: 63). ثم قال: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (يونس: 35). ثم بيّن في قوله تعالى: {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الرعد: 17)، أن هناك فرقا بين خَلق الله وخلق المخلوق. فبناء على ذلك يدين الله تعالى المشركين فيقول: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}؛ كلا، لا شريك له؟ فكما هو وحيد فريد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 12)، كذلك هي أفعاله أيضا.
والآن نرى هل للخلق معنى آخر أيضا؟ فنجد من القرآن الكريم نفسه شهادة على أن لها معنى التقدير أيضا، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 15) .. لقد استنبطتُ معنى التقدير لأنه لا خالق سوى الله قط. وقال في آية أخرى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 3). والخلقُ في: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: 30) أيضا يعني التقدير، لأن الخلق مستمر إلى يوم القيامة.
والكلمة الأخرى هي: “الطين”. الطين شهادة في حق آدم من قِبل عدوه إذ قال: {خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} المزية في الطين هي أنه يتحوّل إلى أيّ قالب أُريدَ تحويله. إن كلمة “الطير” تُطلق على إنسان يطير عاليا في السماء. فقد قال في حق الشهداء أنهم سيكونون في الجنة كطيور خضراء، وقد أطلق “الطير” على المجاهدين أيضا على أنهم يصلون إلى موقع الحرب طائرين.
{أَنْفُخُ فِيهِ}؛ معناه التربية بواسطة كلام الله، فيقول الله تعالى في القرآن الكريم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص: 72 – 73) …. فقعوا له ساجدين، أي أطيعوه. {بِإِذْنِ اللَّهِ} معناه: بفضل الله. لا يكون أيّ عمل من أعمال الرسل بغير إذن الله. يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه} (النساء: 65). لا يُطاع نبي إلا بفضل الله. فالمعنى الآن واضح تماما. يقول عيسى – عليه السلام – ما مفاده: أطيعوني وكونوا مثل الوحل الذي يمكن تحويله إلى أيّ شكل وقالب، عندئذ سأربِّيكم بفضل الله بواسطة كلامه، فسيصبح عملكم مطابقا لذلك وتصبحون أناسا طائرين في علياء السماء وفي سماء الروحانية.
{أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}؛ أي أُشفي الأكمة والأبرص ولادة. لقد ورد في تاج العروس: أبرأه: جعله بريئا. فقد جاء في فصل الباء باب الهمزة، الصفحة: 4 ما يلي: وأبرأك الله منه أي جعلك بريئا. توجد في الأديان كلها فكرة أن الإنسان أعمى ومبروص ومأخوذ في مغبة أعماله وأفعاله السابقة. فقال عيسى – عليه السلام -: أبرئ الأكمه والأبرص. كانت في القوم قيود مفروضة عليهم فما كانوا يقيمون معهم علاقات صداقة كما كانوا يعقدونها مع الإخوة الآخرين، وما إلى ذلك، فرفع تلك القيود.
“أبرَصَ”: لقد جاء في تاج العروس الصفحة 373، فصل الباء من الصاد: وهو بياض يظهر في ظاهر البدن. وفي تاج العروس الصفحة: 409، فصل الكاف، من باب الهاء: “أكمه”: صار أعشى وهو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وبه فسّر البخاري”. أي أشفي الأكمه -فالواضح من ذلك أن المسيح ابن مريم كان يشفي الأبرص والأكمه بنفسه ودوائه، كما يفعله أفراد الأمة المحمدية أيضا- ولكن كيف سيكون هؤلاء البُرْص والأكمهين؟ فللتأمل في هذا الموضوع يجب النظر في آيات قرآنية أخرى يتبين منها جليا أن الأكمه والأبرص الذين يشفيهم الأنبياء يكونون بُرْصا وأكمهين روحانيين. فمثلا يقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (الإسراء: 73). المراد من الأعمى هنا هم عميان روحانيون باتفاق الجميع. كذلك قال في الجزء الأول من القرآن الكريم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} فالواضح أن الصم والبكم والعميان الذين يواجههم الأنبياء هم صمٌ وبكمٌ وعميان روحانييون. وهناك آية أخرى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 20) … هو أعمى: أي من ينكر كلام الله. فقال الله تعالى في هذه الآية أن المسيح – عليه السلام – قال بأني أرشد هؤلاء العميان إلى الطريق الحق بواسطة تربيتي لهم وأشفي جذامهم الروحاني.
{وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} لقد كانت مسألة إحياء الموتى واضحة تمام الوضوح ولكن بعض الناس جعلوها معقّدة دون مبرر. لقد أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن الأموات الحقيقيين لا يرجعون إلى الدنيا مطلقا، وأنه ليس من سنة الله أن يحيي الأموات مثلهم في هذه الدنيا. الإحياء هو فعل الله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} (الحج: 7). وقال أيضا: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} (الجاثية: 27). لقد أقرّ إبراهيم – عليه السلام -: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 259)، فتبين من ذلك على وجه القطعية أن الإحياء صفة الله وحده. ثم قال – سبحانه وتعالى – عن الأموات: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} (الزمر: 43)، و: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 101) وبذلك بيّن سنّته أن الروح تمتنع عن العودة إلى الدنيا ثانية إلى يوم القيامة. فإذا ادّعى عيسى – عليه السلام -: {أُحْيِي الْمَوْتَى} فلا يمكن أن يكون معنى هذه الآية المتشابهة على النقيض من الآيات المحكمات. عندما نتدبر القرآن الكريم نعلم أن الإحياء ثلاثة أنواع؛ إحياء الله كما سبق ذكره. (2) إحياء الكفار، أي يمكن للكفار أيضا أن يحيوا كما جاء عن سحرة موسى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 67). (3) إحياء الأنبياء كما قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأَنْفال: 25)، فلما كان المسيح – عليه السلام – رسولا لذا سيكون المراد من إحيائه هو إحياء الأنبياء فقط. يتبين من الآية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (الأَنعام: 123) ماذا يكون المراد من الإحياء في كلام الله، وما هو المراد من تلك الحياة؟ المراد هو أن الذي يكون غافلا عن الدين ومحروما من الحياة الروحانية يطلَق عليه ميتا في مصطلح كلام الله. وإذا كان عارفا بالدين ووُجدت فيه الروحانية سمِّي حيا، فهكذا كان عيسى – عليه السلام – يحيي الأموات الروحانيين.
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَاكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} يجب الانتباه عند استنباط المعنى منها أيضا هل ينبّه الأنبياء الناس عما يجب أن يأكلوه ويشربوه أم يخبرون مثل المنجمين أنه يوجد في بيوتكم كذا وكذا وقد أكلتم كذا وكذا، أم يحكمون ما هو الحلال والحرام فيما يتعلق بالمأكولات والمشروبات والأموال. فلما كان الأمر الأخير ثابتا كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته ألا يأكلوا الميت ولا الدم المسفوح ولا الخنزير، ولا ما أُهِلّ به بغير الله، كذلك وضح عيسى – عليه السلام – أمر الله أن أشياء كذا وكذا يمكن أكلها، وأشياء كذا وكذا ليست ممسوحة، ويُسمح لكم بجمع المال بهذا القدر ويجب أن تنفقوا بهذا القدر في سبيل الله. وبهذا الشرح تبين معنى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أيضا. لقد حُرِّم على اليهود بعض الأشياء وبعض النعم بسبب سوء أعمالهم، فقال عيسى – عليه السلام -: أطيعوني فسوف يعطيكم الله تلك النعم مجددا. (تشحيذ الأذهان، المجلد7، الرقم9، الصفحة: 416 – 421)
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ} لقد فكّرتُ في هذه الآية طويلا. لقد جاء في القرآن الكريم: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (النحل: 117)، فأنى كان ممكنا للمسيح أن يحرّم شيئا أو يحّله لأن هذا فعل الله وحده. بعد تفكير طويل توصلت إلى نتيجة أنه كانت هناك مرحلتان. الأولى: إن إبراهيم (حرّم مكة) ويستنبط الجميع معنى الحرمة أنه بيّن حرمتها. فكان معناه أن عيسى كان يبين الحلال والحرام. والمعنى الثاني هو أن كل نبي يريد أن يبلغ قومه أعلى المدارج. لقد ضُربت الذلة والمسكنة على اليهود وحّرمت عليهم الطيبات والإنعامات كالغنائم والسلطنة بسبب سوء أعمالهم. والآن قال عيسى – عليه السلام – إن أطعتموني فسوف تَحلُّ عليكم جميع الإنعامات التي حُرِمتم منها. (ضميمة جريدة بدر قاديان، العدد: 17/ 6/1909م)
لا موت إلا موتةٌ واحدةٌ ولا مُحيي للأموات إلا الله ومن يموت لا يمكن أن تعود لهُ الحياة إلا يوم القيامة