لقد هدى اللهُ الإنسانَ طريقه إما شاكراً وإما كَفُوراً ولم يفرض عليه شيئاً ولن يغير ما به حتى يغير هو ما بنفْسِه فيرزقه الله تعالى عندئذ بركات عظيمة ترتقي به إلى قمم السعادة والطمأنينة، أو قد يخلد إلى الأرض فيتركه اللهُ تعالى يتردّى كل يوم في وحل الذنوب والآثام ثم يصبح في نهاية المطاف إبليساً من الأبالسة وظلاً للشيطان.
وهكذا بعد أن بدَرَ من إبليس ما يُدينه من أفعال أدَّت إلى غضب الله ﷻ، أخذ يتوسل طالباً فرصة أخرى فأنظَره الله تعالى ولكن فقط إلى حين يُبعث الناس من غفلتهم الروحية بتغييرهم أنفسهم، فيصبحون أهل الله تعالى وخاصته، أي لن يكون للشيطان عليهم أي سلطان غير المراقبة والترقب من مكان خفي واستغلال الوقت في الوسوسة وبث الشبهات.
لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم وَسَخَّر له السَّمَاوَاتِ والأرض تمطر عَلَيهِ الماء والوحي اللازمان للحياة المادية والروحية، وتنبت له الأرض من خيراتها الكثيرة. وقد حذّر اللهُ الإنسان من وسوسة الشيطان وبيّنََ له بأنه عدو، والتبيين لا يكون إلا لما كان مشتبه على الإنسان وليس بما كان واضحاً في شرِّه وكُفره حيث لن يأتي هذا الشيطان للوسوسة بصورته الحقيقية القبيحة بل سيأتي بصورة فاعل الخير الناصح الأمين الذي لا همَّ له إلا نشر الحب والتراحم وعرض الحقائق. وما هو سبيله لذلك؟ سبيله الوحيد للانتصار على الحق هو بتشويه الحق ﷻ والدعوة للمعصية بعد تشكيك المؤمنين بنيّة الله ﷻ فتخرب الجَنّة من الداخل بدل أن تضربها صاعقة من الخارج، ولو كان بيد الشيطان سلطة خارجية غير الوسوسة لما تردد في اللجوء لها، ولكن لقلة حيلته وفقدانه للسلطان صار يسعى بما امتلكه من قدرة الوسوسة الجبانة لنشر الشبهات والمضيّ في الكذب لزعزعة القلوب وتخريب جنة المؤمنين من الداخل. والحقيقة هي أن مشكلة إبليس هي مرض الْكِبْر الذي دفعه لعصيان الأمر الإلهي بالسجود لآدم أي بالخضوع لمن اختارهم الله ﷻ فأعلنَ العصيان رغم وجوده في حضرة الله تعالى السابق بالكرم والإحسان، فبدأ يوسوس في قلوبِ مَن حوله لإثارة الشك والإخلال بالنظام الروحاني وجمْع من هم على شاكلته بهدف إسقاط المؤمنين وبذلك يبرهن لهم على تفوقه وذكاءه المزعوم، ولكن الله تعالى لم يستمر في الإغداق على هذا المتكبر بالكرم والجود فلكل مقام مقال ولم يعد لوجود إبليس داع في جنة آدم ومَن معه مِن المؤمنين، فطرده الله تعالى من حضرته ومن منصبه الذي كان منوطاً به وهو الطاعة لخليفته في الأرض حيث لا مكان في جماعة المؤمنين للمتكبرين:
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾
وبدل أن يستفيق إبليس من غفلته وشر نفسه الأمّارة وقف أمام الله تعالى متحدياً متوعداً بتخريب جماعة المؤمنين بواسطة وضع العراقيل في طريقهم المستقيم وإغراقهم من جميع الجهات بالشبهات ليثبت أن اختيار الله تعالى لهم لم يكن موفقاً والعياذ بالله، فقال:
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
فأخرج نَفْسَهُ بنفْسهِ من قرب الله تعالى وصارَ ملعوناً ومن معه من المنافقين، فَرَدَّ اللهُ عليه بأن خروجه لن يقدم ولن يؤخر في تدبير رب العالمين بل إن خروجه هذا سوف يكون سبباً لذلّه وإهانته ولن ينتصر بل سينحدر حتى يندحر:
﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ۖ لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
فبدأ إبليس عمله مباشرة بعد قرار الطرد وشَرَعَ في الوسوسة لآدم ومن معه من المؤمنين ليُظهر لهما بلهجة النصح والاهتمام ما يعلمه من حقائق خطيرة وهي أن يتّبعون خليفة الله بلا وعي ولا إدراك فيضيِّعون أعمارهم في طاعة من كذبَ عليهم والعياذ بالله وأنه لا يقول لهم ذلك كرهاً وحقداً بل هو لهم من الناصحين المحبِّين:
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾
وقد يقع المؤمن في شَرَك إبليس إحساناً بالظن وطمعاً في هدايته وقد ينسى تحذير الله تعالى من الاختلاط بإبليس وشجرته الخبيثة لوهلة مما يجرّه إلى الوقوع في المحظور ثم إلى الندم، فيقول تعالى لنا محذراً بحرص عظيم أن لا نقع في ما وقع فيه سلفنا من قبل ففُتنوا بنصح الشيطان مما أدى إلى تركهم الطمأنينة في رحاب الله تعالى وجنّته ثم التورط مع إبليس وملّته، فقال جَلَّ شأنُه:
﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
لذلك، فلنعتبر أيها الأحبة من درس سورة الأعراف ولنبتعد عن إبليس وَذُرِّيَّتِهِ ولنتمسك بحبل الله تعالى بطاعة خليفته والعضّ عليها بالنواجذ كما أمرنا الصادق الأمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وليس قصص القرآن الكريم إلا للعبرة والدرس وهي قصص تتكرر باستمرار، ومن يواصل التدبر في سورة الأعراف بعد الآيات أعلاه سيكتشف كيف حذّرنا الله ﷻ من هذه الفتن وبأن السبيل يكون باتّباع الرسل لا باتّباع الأبالسة المطرودين الخارجين وقد قصّ الله تعالى سريعاً حال كل نبي مع قومه وان لكل نبي أعداء من المكذبين المفترين وأن الآخرة موعدنا أجمعين ولن ينفع إلا من أتى الله بقلب سليم واتَّبَع المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
بوركتم اساتذتنا الاعزاء ?