قال الخليفة الثاني حضرة الحاج مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه :
والآن أتناول سؤالاً: ما هي شجرة آدم؟ لقد لاحظت أن بعض الناس يفكرون دائمًا ما هي تلك الشجرة التي منع الله من الاقتراب منها؟ ولكنني أقول بأن الطريق الأسلم في هذا الموضوع ألا يسعى المرء للعثور على ما أخفاه القرآن الكريم. لقد صدر من آدم خطأ ولكن الله تعالى لم يُرد أن يُظهر خطأ عبده الحبيب على العالم فأخفاه. فلما أخفاه الله تعالى بنفسه فمن يقدر على أن يكتشف هذا السر. فما أخفاه الله تعالى لا يقدر أحد على إظهاره. ومَثل ذلك كمثل قول الله تعالى في سورة التحريم: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (1) … إذًا، الحديث الذي أسرّه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى زوجه ذُكر هنا في الضمائر فقط وقد اكتفى الله تعالى بالقول بأنه كان هناك حديثًا ذكره نبينا لإحدى أزواجه ولكنها ذكرته لغيرها، فألهم الله تعالى إلى نبيه أن ما أسررتَه لزوجك فقد أباحت به لغيرها، فذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا الأمر لتلك الزوجة فقالت: من أخبرك بذلك؟ قال: أخبرني العليم الخبير. هذه كلها ضمائر أشير بها إلى ذلك الحديث ولم يُذكر بصراحة. ولكن المفسرين خاضوا في البحوث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لزوجته كذا وكذا. فهناك مفسر يقدم حديثًا و غيره يُقدّم حديثًا آخر، مع أنه لم تكن هناك حاجة أصلاً للخوض في القضية. ما دام الله تعالى قد أخفاه ولم يُرد إظهاره فكيف يحق لمفسر أن يخوض في البحث عنه. وإذا بيّن أحد هذا الحديث فمن يضمن أنه سيكون صحيحًا لأن ما أخفاه الله لا يستطيع أحد أن يُظهره. وإذا أطلق أحد تخمينه فلن يكون كلامه حتميًا ويقينيًا بل يكون ظنًا محضًا.
التحريم: 4
والحال نفسه ينطبق على شجرة آدم، فلما لم يبين الله ما هي تلك الشجرة فأنّى لنا أن نعرفها. يمكن أن تسمّوا أيّ شيء شجرةً، ولكن يمكن أن تفهموا باختصار أن الله قال: لا تقربوها ولكن الشيطان خدع آدم – عليه السلام – فاقترب منها ثم عانى بسبب ذلك كثيرًا.
على أية حال، من الأفضل ألا يتحرّى المرء عما أخفاه الله تعالى، وألا يقول دون سبب معقول بأن المراد من الشجرة هو كذا وكذا. وإذا كان أحد لا يطمئن بهذا الجواب فليعلم أن الله تعالى أمر آدم: لا تقترب من الشيطان لأنه عدوك المبين، وإن انطلت عليك حيلته بكلامه المعسول فلسوف يخدعك حتمًا حينا من الأحيان. فعمل آدم – عليه السلام – بذلك ولكن الشيطان حين رأى أن حيلته لا تنطلي على آدم قال: أيّ شيء خير من الصلح؟ فالأفضل أن نتصالح ونسوي الخلافات الدائرة بيننا، كما يردد أهل أوروبا كلمة الأمن والسلام ظاهريًا ولكن يستعدون سرًا للحرب بكل ما في وسعهم. عندما اندلعت الحرب بين إيطاليا وتركيا أعلن رئيس الوزراء الإيطالي قبلها بثلاثة أيام بأن هناك صلحًا بيننا وبين الأتراك وعلاقاتنا قوية وجيدة بما لا نظير لها في القرن الماضي. ولم تمض على هذا الإعلان إلا بضعة أيام إلا وهجمت إيطاليا على تركيا. والحال نفسه ينطبق على بقية دول أوروبا إذ يصرخون بأعلى صوتهم أن الصلح خير ولا شيء أغلى من الأمن ولكن يكونون عاكفين على صنع أسلحة حربية سرًا. أي أنهم لا يهتفون بالصلح والأمن لأنهم يحبون الصلح والأمن بل يفعلون ذلك لأنهم لا يكونون مستعدين للحرب إلى ذلك الحين ويريدون أن يجعلوا الآخرين غافلين قدر الإمكان بدعوتهم للصلح والأمن ثم يهاجموهم على حين غرة منهم. هذا ما حدث في زمن آدم – عليه السلام – أيضًا، إذ أمره الله تعالى ألا يقترب من الشجرة الشيطانية بل يجب أن تكون في حرب معهم دائمًا لأنه كلما عُقد الصلح مع الشيطان سينهزم المؤمنون وينتصر الشيطان وتزداد المشاكل أكثر بسبب هذا الصلح.
فبدأ آدم – عليه السلام – الحرب مع الشيطان نتيجة هذا الأمر. فلما رأى الشيطان أن هدفه لا يكاد يتحقق بهذه الطريقة أثار ضجة للصلح وقال: هل يمكن أن يستقر الأمن بالحرب بل الأمن يتحقق نتيجة الصلح لذا من الأفضل أن نتصالح فيما بيننا. فصدر الخطأ من آدم – عليه السلام – وعقد الصلح مع الشيطان فكانت النتيجة أن دخل الشيطان أيضا الجنة التي كان آدم – عليه السلام – ورفقاؤه يسكنونها، وبدأ يعيث الفساد في القوم مستغلاً مكثه معهم وحقق نتيجة البقاء معهم هدفه الذي ما كان له أن يحققه بالبقاء في الخارج، وبذلك حدث فساد كبير. عندها قال الله: الآن آمرك أن تخرج مع أتباعك من هنا وانتشروا في الأرض. فالمعنى الوحيد الذي يمكن استنباطه من هنا هو أن الله تعالى أمر آدم – عليه السلام – أن يبتعد عن ذرية إبليس. ولكن إبليس دعاه إلى الصلح وقال بأن ذلك سيؤدي إلى تقدم كبير، فانخدع آدم وواجه معاناة شديدة نتيجة الصلح معه. وكانت النتيجة أن الله تعالى أمره أن يخرج مع أتباعه من هناك وينتشروا في الأرض، ولكن اعلموا أن الحرب ستبقى جارية بين حزبيكما. يمكن أن يُستنبط هذا المعنى أيضًا من هذه الآيات، ولكن من الأفضل ألا نضيع وقتنا في البحث عما أخفاه الله تعالى، ونتعلم الدرس الذي من أجله ذُكر هذا الحادث.
(خطاب بتاريخ 28/ 12/ 1938م في الجلسة السنوية في قاديان)