قد يُطرح السؤال التالي بين فترة وأخرى: ما معنى قول الله تعالى بأنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؟ جميعنا يعلم بأن تبديل قلب إنسان مثلاً بقلبٍ ثان لا يغير من إيمانه شيئاً، فكيف يصح القول أنَّ العقل يكون في القلب؟ وللجواب على هذا السؤال المهم نقول بأن التفكير والعقل نوعان؛ مادّيٌ أي ما يتعلق بالمادّة وتحليلها، وآخر فطري عاطفي وهو الذي يتعلق بفطرة الإنسان ومشاعره أي الروح المودعة في قلبه أي محّلّ الفطرة. فالدماغ يحلّل ويفكّر ويُصدر الأوامر إلى باقي أجزاء الجسم فتتمّ عملية العقْل أي مَسْك وربط الأشياء بسلسلة منطقية للتمييز بين الصواب والخطأ، حيث العقْل لغةً من العقال أي الرابط. جاء في معاجم اللغة أنَّ العقل:
“مَأْخُوذٌ مِنْ عَقَلْتُ الْبَعِيرَ إِذَا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ … وَعَقَلَ الْبَعِيرَ يَعْقِلُهُ عَقْلًا وَعَقَّلَهُ وَاعْتَقَلَهُ: ثَنَى وَظِيفَهُ مَعَ ذِرَاعِهِ وَشَدَّهُمَا جَمِيعًا فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ، وَذَلِكَ الْحَبْلُ هُوَ الْعِقَالُ، وَالْجَمْعُ عُقُلٌ. وَعَقَّلْتُ الْإِبِلَ مِنَ الْعَقْلِ، شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ … وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقُرْآنُ كَالْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ» أَيِ: الْمَشْدُودَةِ بِالْعِقَالِ، وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ لِلتَّكْثِير.” (لسان العرب، جمال الدين ابن منظور، حرف العين، عقل، ج 10، ص 233)
أما القلب فيستقبل المؤثرات والمشاعر فيحلّلها أيضاً ويقارنها بما هو مستودع في داخله، وكذلك تتولّد الروح في القلب وتسكن فيه وتتحكم منه بالمشاعر في داخله فيعقلها (يمسكها ويربطها) ويرسلها إلى باقي أجزاء الجسم ومنها الدماغ نفسه لكي يعيد ترتيب ما يحتاج بحثه إلى تحليل مادّي وهكذا دواليك، فتكون وظيفة القلب هي الشعور والعاطفة التي يتمتع بها الإنسان بوضوح، والمقصود بالقلب محّلّ الفطرة والروح، وهذا لا يتأثر باستبدال الجزء العضلي نفسه لأن الفطرة روح وليست مجرد عضلة. لذلك فإن محّلّ الوحي والحُب والكُره والمشاعر المختلفة النابعة من الفطرة هو القلب، فيعقلُ الْإِنسَانُ أي يمسك ويربط مشاعره وعواطفه بواسطة فطرته ويتعرف على صوت خالقه، أما الدماغ فيقوم بتحليل ما يشعر به القلب ويُصدر للجسم ما يجب أن يعمله حسب الحاجة. فالفِكر والتحليل يوجد في الدماغ الذي في الرأس، أما الفطرة والمشاعر فهي في القلب الذي في الصدر وبها لا يحتاج الإنسان إلى تحليل للتعرّف على خالقه فيكفي أن يشعر به كما يشعر الجنينُ بأمّه من مجرد الصوت واللمسة الخاصة بها، وهكذا قال تعالى بعد القلوب أم لهم آذان يسمعون بها، تماماً كما يشعر الحيوان الصغير بوالدته، والشجيرة للمسة راعيها دون الحاجة بها إلى التفكير. ومع أن الدماغ يعمل بهذا النحو والقلب بنحو آخر ألا إن كلاً منهما مرتبط بالاخر حيث تتاثر القوى الذهنية بالقلب فاسداً كان أو صالح فيخرج التحليل خاطئاً بالنتيجة والعكس صحيح. فمن الخطأ عزو كل نتيجة ذهنية إلى العقل فالعقل كما ذكرنا عمل يمتاز به القلب (محل الشعور) والدماغ (محل العمليات الذهنية)، وبذلك يبدأ الأمر كله بتزكية القلب وطهارته لأنه الفطرة والمستودع للروح والوحي، وصلاحه يعني صلاح العقل في سبيل التعرف على الخالق تبارك وتعالى. ولهذا يشرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام هذا الموضوع بكلّ روعة وإيجاز كالتالي:
“فليتضح أنه لمّا كان الإنسان قد خُلق ليعرف خالقه ويبلغ درجة اليقين من أجل الإيمان بذاته وصفاته، فقد فطر اللهُ تعالى ذهن الإنسان ووهب له قوى عقلية بحيث لو ألقى نظرة على صنع الله تعالى مستخدماً تلك القوى لوصل إلى كنه حكمة الله عز اسمه الكاملة، وأدرَك ما يوجد من التركيب البليغ والمحكم في كل ذرّة من نظام العالم ولعلِم ببصيرة تامّة أنَّ هذا الكون الواسع المكوَّن من السماوات والأرض لا يمكن أن يوجَد دون خالق، بل لا بد أن يكون له خالق. ومن ناحية ثانية فقد أعطِي حواسَّ وقوى روحانية لكي تسد الخلل أو النقص الذي يمكن أن تتركه القوى العقلية في معرفة الله تعالى، لأنه من البديهي أنَّ معرفة الله تعالى بصورة كاملة بواسطة القوى العقلية وحدها مستحيلة. والسبب في ذلك أنَّ عمل العقل الذي أعطِيه الإنسان مقصور على أن يحكم أنه ينبغي أن يكون لهذا العالَمِ جامعِ الحقائق والحِكم خالقٌ، وذلك بالنظر في السماوات والأرض وما فيهما وترتيبهما البليغ والمحكم. ولكن ليس بوسعه أن يحكم أنَّ ذلك الخالق موجودٌ في الحقيقة. والواضح أيضاً أنَّ الإحساس بضرورة الصانع أو الخالق لا يُعدُّ معرفة كاملة إلا إذا بلغت مبلغ اليقين بأن ذلك الصانع موجودٌ في الحقيقة، لأن القول إنه ينبغي وجود خالق لهذه الأشياء لا يساوي قَطّ القول بأن الخالقَ الذي اعتُرف بضرورته موجود فعلاً. لذا كان الباحثون عن الحق -لإتمام سلوكهم ولأداء مقتضى الفطرة المترسخ في طبائعهم من أجل المعرفة الكاملة- بحاجة إلى أن يعطَوا القوى الروحانية أيضاً علاوةً على القوى العقلية لكي يقدروا -إذا استخدموا القوى الروحانية كما ينبغي ولم يحجبها حجاب- على الكشف عن وجه الحبيب الحقيقي بوضوح لَمْ تقدر على كشفه القوى العقلية. إذن، فإن الإله الكريم الرحيم كما جعل فطرة الإنسان تجوع وتتعطش من أجل معرفته الكاملة، كذلك فقََدْ أودع فطرة الإنسان نوعينِ من القوى بُغية إيصاله إلى تلك المعرفة الكاملة: إحداهما القوى العقلية التي مصدرها الدماغ، والثانية هي القوى الروحانية التي مصدرها القلب والتي يعتمد نقاؤها على نقاء القلب. والأمور التي لا يمكن للقوى العقلية أن تكشفها بصورة كاملة فإن القوى الروحانية تبلغ كنهها. والقوى الروحانية إنما تملك القوة الانفعالية فحسب، أي خلق الصفاء والنقاء حتى تنعكس فيها فيوضُ مبدأ الفيض. لذا يُشترَط لها بالضرورة أن تكون مستعدة لجذب الفيض حتى تنال فيض معرفة الله الكاملة، وألا يحول دون ذلك حائل أو عائق، وألا تقتصر معرفتها على أنه يجب أن يكون لهذا العالم المليء بالحِكم صانع، بل تكون محظوظة بالمكالمة والمخاطبة الكاملة مع هذا الصانع وتشاهد آياته العظيمة مباشرة وترى وجهه الكريم وترى بعين اليقين أنَّ هذا الخالق موجودٌ في الحقيقة.” (حقيقة الوحي)
فالقلب والدماغ كلاهما مطلوب للوصول إلى الله تعالى. ويبقى الخطاب القرآني موجَّهٌ بالدرجة الأولى إلى القلب لأنه السريرة والداخل محل الفطرة والوحي. ولذلك يقال إذا أضمر أحدٌ أمراً بأنه أسرّه في قلبه، والقلب هو السريرة. والهدف من ذلك كله هو تزكية النفس والسمو بترقياتها الروحانية التي ذكرها المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في كتابه “فلسفة تعاليم الاسلام”.
وكذا قول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“الحقّ أنَّ حُبّ الله ووصاله نعمة لو تيسّرت لإنسان تخلص من هموم الدنيا كلّها، وَلَمْ تبقَ في قلبه حسرة. لا شكّ أنه يواجه همومًا عابرة، فمثلاً إذا أصيب المرء بشوكة تألّم، ولكنه ألمٌ عابر ولا يسميه أحدٌ مرضًا. كذلك تواجه النَّاسَ آلامٌ ومشاكل عابرة ولكنها لا تعيق طريقهم، وكلّ واحدٍ يحظى بالسكينة والاطمئنان بحسب درجة إيمانه. ونظرًا لأهمية طمأنينة القلب قال الرسول ﷺ: «ألا إنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب». (البخاري: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه).
يقول البعض في هذا العصر، وخاصة العلماء والأطباء المتخصصون بالتشريح، إنَّ العضو الذي يقوم بضبط أعمال الإنسان وأفعاله وإراداته ورغباته وينظّمها هو الدماغ لا القلب، وقد بدأ بعض المسلمين يفسرون آيات القرآن الكريم بما يوهم أنَّ المرادَ من القلب في القرآن ليس بالقلب المعروف، وإنما معناه ذلك المقام أو العضو الذي يتحكم في جسده. ولكني أرى أنهم إنما لجأوا إلى هذا التأويل خوفًا من هؤلاء العلماء، وإلا فإن التدبر في القرآن الكريم يكشف أنه يعني بلفظ القلب نفس العضو الذي يوجد في صدر الإنسان، والحق أنَّ تأويل القلب بمعنى الدماغ مكابرةٌ دونما دليل.
على أية حال، إنَّ هذا الحديث النبوي يبين أنَّ تطهير الأعمال الإنسانية منوط بتطهير القلب، إذ لا تستطيع أن تتطهر بغسل يديك وتنظيف فمك ورأسك، ذلك لأن منبع الطهارة هو القلب، فإذا طهّرتَ قلبك أتيتَ اللهَ بقلبٍ مطمئن. إنَّ تطهير القلب هو أهمّ شيء عند خالقنا ومالكنا الذي خَلَقَ الخلْق ليتطهروا، لأن غراس التقوى إنما تنمو وتزدهر في أرضٍ طاهرة مطهَّرة، ولا يمكن لقلبٍ نجس أن يكون مهبَط تجلّيات صفاته ﷻ، ولا يمكن ليدٍ نجسة أن تمسّ أعتابَ عرشه ﷻ.” (التفسير الكبير، الشعراء)
فالدماغ محّلُّ التحليل والمنطق مثل معالج الحاسوب بينما القلب هو محل الوحي والفطرة، وهذا هو الفرق الواضح مع الحاسوب الذي يمتلك العقل ويفتقد إلى القلب فلا يمكنه تلقي الوحي الإلهي حسب فطرته الصالحة ومشاعره النبيلة. فالقلب لا يتمتع به إلا خلق الله تعالى المباشر فقط وبه يعرف المخلوق خالقه وبه يعقل أوامره طوعاً أو كرها حيث يقول تعالى:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
فالعمى الروحي لا يصيب العقل لأنه يبقى يعمل بنشاط ونجاح تام وقد يُعطى أيضاً جائزة التقدير العلمي كما يحدث مع العلماء الملاحدة، ولكن العمى الروحي يصيب القلب فقط فيضيع الإنسان بعد أن يؤدي اسوداد قلبه وفساد فطرته إلى عدم معرفة خالقه والامتثال لتعاليمه رغم سلامة دماغه الذي اصطُلِحَ على تسميته بالعَقْل.
مع ذلك فإن اللهَ تعالى لا يخاطب القلب فقط بل لا بُدَّ للدماغ أيضاً أن يحلّل المشاعر الصادرة من القلب وما تراه وتسمعه وتلمسه أجزاء الجسم الأخرى لكي يزداد يقينه ويمكنه أن ينقل الرسالة إلى محيطه بالصورة والطريقة الصحيحة، وفي هذا أيضاً فرقٌ بين الإنسان والحيوان، حيث يمكن للإنسان وحده نقل تعاليم الله تعالى عبر قلبه ودماغه منه إلى البشر الآخرين من حوله لتشيع التعاليم الإلهية وتصل للجميع. ويمكن معرفة ذلك حين يحزن الإنسان بشدة فيشعر حين يتألم بألم في قلبه الذي في صدره لا في دماغه غالباً وقد يصاب بسكتة قلبية، وكذلك حين يفرح يشعر بارتياح في قلبه لا في دماغه، والعكس صحيح حين يحاول حَلَّ مسألة حسابية معقدة فلا يشعر غالباً بقلبه بل بألم الرأس لأنه يحلل بدماغه، وقد يجتمع القلب والعقل عندما يحلل الدماغ ويفشل فيشعر القلب معه بالإحباط والخوف من العواقب. وهكذا جبلَ الله تعالى الإنسان ليصبح المحل المثالي للرسالة والتكليف.
ونختتم بشرح المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حول الفرق بين الشعور القلبي الذي يتولّد في داخل الإنسان أي قلبه ومنه جاء مسمى القلب أي الداخل وبين العلم الذي يأتي من الخارج فيتلقاه العقل ويعملان معاً، حيث يقول حضرته:
“يتّضح من دراسة القرآن الكريم أنه قد تناول هذا الموضوع في أماكن شتى بأساليب مختلفة. فحينًا قال إنَّ المعارضين لا يشعرون، وحينًا قال إنهم لا يعلمون. علمًا أنَّ الشعور هو ذلك الإحساس الذي يتولد من داخل الإنسان، والعلم هو ذلك الإحساس الذي يتولد فيه من تأثير خارجي، سواء بالرؤية أو باللمس أو التذوق. مثلاً إنك تمشي فترى غابة، فتزداد معلوماتك برؤيتها، أو تذوق شيئًا فتعرف طعمه، فهذا هو العلم إذا أتاك من الخارج ولم يتولد في داخلك. وعلى النقيض بينما تكون جالسًا يتولّد فيك فجأةً الإحساسُ بما تحتاج إليه أنت أو قومك أو أولادك أو أسرتك، وهذا الإحساس التلقائي هو الشعور. وكأن الإنسان عندما يُحس بما جبله الله تعالى عليه من القوى فيختار له طريقًا بناء على هذا الإحساس، فيسمى هذا شعورًا. وإذا بذل جهده للتدبر في شيء ليرى ما إذا كان نافعًا له أم لا فهذا يسمى تفكرًا. وقد حثّنا القُرآنُ على التفكّر مرارًا لأن القوة الفكرية تساعدنا على أخذ النتائج من علمنا الخارجي. وجزء من هذه القوة يسمى عقلاً، إذ إنَّ العقل هي تلك القوة التي تساعدنا على العمل بحسب العلم والفكر والشعور، لأن العقل يعني أن يُفكر الإنسان ويقرر ما إذا كان الشيء ضارًا به أم مفيدًا، فإذا قرر بأنه ضار، وإذا منعه هذا الإحساس من ذلك الشيء الضار فهذا يسمى عقلاً. أي أنَّ ما يمنعه من الشر هو العقل. وقد أشار إليه القرآن الكريم بلفظ التفقه، لأن التفقه هو الوصول إلى كُنه الشيء ودقائقه. فيقول الله تعالى لنا: تمرون وترون أشياء كثيرة غافلين دون أن تحاولوا معرفة مغزاها ونتيجتها كالديك أو الكلب أو القطة. ذلك أنَّ هذه الحيوانات شريكة مع الإنسان في عملية الرؤية في الظاهر، ولكن ما الفرق بين رؤيتها ورؤية الإنسان؟ إنما الفرق أنَّ الإنسان يصل إلى نتيجة إذا رأى شيئًا، ولكن هذه الحيوانات لا تصل برؤيته إلى أية نتيجة. فمثلاً إذا رأى الكلب أو القط شجرة ما فإنما يرى جذعاً طويلاً، ولكن الإنسان لا يرَى في الشجرة جذعًا فقط، بل يرى ثمرها أيضاً، ويدرك أنها تثمر في فصل كذا ولا تثمر في فصل كذا، وأنَّ ثمرتها تنفع كغذاء أو دواء، أو ينحصر نفعها في ظلّها فقط. وإذا وجد خشبها صلبًا قطَعها وصنع منها أبوابًا مثلاً، وإذا وجد خشبها قويًا قادرًا على حمل الأثقال صنع منه أعمدة لحمل السقف، وإذا وجد خشبها قادرًا على مقاومة الماء استعمله حيث يكثر المطر، وإذا وجد خشبها يصلح للحرق فقط استعمله حطبًا أو حوّله فحمًا. فالشجرة التي يراها الإنسان والحيوان واحدة، ولكن الإنسان يستعملها في شتى حاجاته، أما الحيوان من كلبٍ أو قطٍّ أو ماعز أو ابن آوى فلا يعرف من تلك الشجرة إلا أنها تهيّئ الظل فقط.
ثم إنَّ القرآنَ الكريم قد نبّهنا إلى أمرٍ آخر وهو الاستنباط. والاستنباط أن تتدبّر في أحداث مختلفة وتتوصل منها إلى نتيجة، وكأنك تولّد شيئًا جديدًا بقوتك الفكرية. مثلا إذا رأيتَ زيدًا وبكرًا وعَمرًا في مكان، ثم علِمتَ أنهم ينتمون إلى جماعة واحدة، وأنهم جاءوا من أماكن مختلفة وطرق شتى واجتمعوا هناك، فستستنتج من هذه الأمور كلّها أنهم اجتمعوا بحسب خطّة معينة، أو إذا رأيتَ ما يفعله عدوك تفكر فورًا كيف تتصدى له وتلحق به الضرر. ولكن الحيوان من ماعزٍ وقطٍّ وغيرهما لن يتوصل إلى هذه النتيجة، وإنما يرى أن بعض الأشخاص قد جاؤوا فقط.
فالقرآن الكريم قد حثّنا مرارًا على الاستعانة بالشعور والعلم والفكر والعقل والتفقه والاستنباط، وقد ندّد بأعداء الْحَقِّ مرة تلو المرة فقال: أفلا تشعرون؟ أفلا تعلمون؟ أفلا تتفكرون؟ أفلا تعقلون؟ ودعاهم إلى التفقه والاستنباط. وقد بين القرآن الكريم أنَّ الفرق بين النبي ﷺ وأعدائه أنه يفكّر ولكنهم لا يفكّرون حيث قال اللهُ تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:109) .. أي يا مُحَمَّد، قُلْ لهؤلاء المعارضين إنَّ ثمة فرقًا بيني وبينكم. لا شكّ أنكم تتمسكون بعقيدة وأنا أيضاً أتمسّكُ بعقيدة، ويحقُّ لأي إنسان منهم أن يقول: إذا كان مُّحَمَّدٌ يعتبر نفسه صادقًا في ما يعتقد فيحقُّ لنا أيضاً أن نعتبر أنفسنا صادقين في ما نعتقد. لماذا نعتبر ما يقوله مُّحَمَّدٌ حقًّا وما يقول معارضوه باطلاً؟ يجب أن يكون هنا سببٌ واضح يجعلنا نصدق قوله؟
هناك عدة أجوبة على هذا السؤال، وقد ذَكَرَ القُرآنُ الكريم هنا واحدًا منها فقال: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .. أي قُلْ يا مُّحَمَّد لأهل مكّة إنَّ أكبر دليل على كذبكم وعلى صدقي أنني أنا وأتباعي نقبل أي شيء بالدليل، وأما أنتم فتصدقون أي شيء بلا دليل، وتصديقكم الشيء دونما دليل يشكل برهانًا على أنكم لا تُعملون الفكر، وتصديقنا الشيء بدليلٍ برهانٌ على أننا لا نؤمن إلا بعد تفكير وتدبر. والبديهي أنَّ الذي لا يُصدق الشيء إلا بعد إعمال الفكر يكون أقرب إلى الْحَقِّ ممن يصدقه دونما تفكير، وإن كان ما يصدّقه حقًا وصدقًا، ذلك لأن الله تعالى سيقول له، وإن كان هو على الحق: كيف عرفتَ أنَّ هذا حقٌّ؟ فإنك قد آمنتَ به بدون تدبر ولا تفكير. وعلى النقيض هناك شخصٌ أعملَ الفكر وتوصل إلى نتيجة ولكنها نتيجة خاطئة فإنه رغم كونه على الخطأ يستحق الثواب عند الله تعالى لأنه بذل الجهد الصادق للوصول إلى النتيجة الصحيحة. ومن أجل ذلك قال الرسول ﷺ أنَّ مَن اجتهدَ فأخطأ في اجتهاده فله أجرٌ (البخاري: باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ)، لأنه أعملَ الفكر وبذل كُلّ ما في وسعه للوصول إلى القرار السليم ولكنه أخطأ، فيقول اللهُ تعالى إنه قد أدى واجبه، واستحقَّ الثواب لا العقاب. كذلك قال النبي ﷺ إنَّ الذي لا تقوم عليه الحجّة لن يدخل النار إذ لَمْ تُتَحْ له الفرصة للتدبر وإعمال الفكر. كذلك قال النبي ﷺ لن يدخل المجنون النار لأنه معذور لعدم قدرته على التفكير. وأيضًا قال النبي ﷺ إنَّ المولود الذي يموت في صغره، أو الشيخ الفاني الذي فَقَدَ عقله، أو مَن يسكن في الجبال وَلَمْ تصله دعوتي، لن يدخل النار إِذْ لَمْ تتح له الفرصة للتفكر والتدبر. فثبت أنه لا يستوجب العقاب إلا الذي وجد فرصة لإعمال الفكر ومع ذلك لَمْ يفكّر؛ وأنه لا يستحق الثواب إلا الذي يقبل الْحَقَّ بعد التفكير والفحص. إذا اتبع المرء دينًا أو مذهبًا تقليدًا للآباء فحسب فلن يحظى بمرضاة الله تعالى.
وهذا هو القانون الذي نراه مطبَّقًا في الظاهر أيضاً، حيث نجد النبيَّ ﷺ ينصح قومه بالتدبّر في كُلّ شيء. كما ينصح أصحابه أيضاً أن يعملوا الفكر ويفهموا الأمر ثم يصدقوه، وكانت النتيجة أن الصحابة سبقوا قومهم في العلم أيضاً؛ فكان أحدهم، رغم كونه أُميًا لا يعرف القراءة والكتابة، يسوق الأدلة والبراهين أمام المعارضين فيُعجِزهم فكانوا يحاولون إجباره على قبول رأيهم بقوة العصا، لإدراكهم أنهم لا قِبل لهم به في مجال البراهين. فمثلاً إذا قال أحد المشركين من مكّة إنَّ الدليل على صحّة عقيدة الشرك أنَّ آبائي يعملون هكذا فهل هم مخطئون؟ وهل تظن أن لا رأي لهم ولا عقل؟ فإذا قيل له: نعم إنَّ آباءكم جاهلون، فكان من الطبيعي أن يثور شبابهم غضبًا ويهبّوا للمعارضة قائلين: كيف يجرؤ على هذا القول؟ ولكن الدليل الذي كان النبي ﷺ يقدمه لهم هو: عليهم أن يفكّروا فيما إذا كانت أصنامهم تملك قوّة أو حيلة، فإذا كانت لا تقدر على شيء فلماذا يعبدونها؟ حيث ورد في القرآن الكريم أنَّ هذه الأصنام لو يسلبها الذباب شيئًا فلن تقدر على استرداده منه (الحج:74). وإذا كانت أصنامهم ضعيفة وعديمة الحيلة لهذه الدرجة فاعتبارها آلهة أمرٌ غير معقول حتماً. ومن الواضح أنَّ الذي يصدّق بشيء بناء على الدليل لا يمكن أن يقاومه من هو معتاد على قبول الشيء بلا تفكير ولا دليل، فسينهزم أمامه في نهاية المطاف. ومن أجل ذلك قال القُرآنُ مرارًا وتكرارًا: أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، أفلا تشعرون. وكان النبي ﷺ كلما أعجبه عملُ إنسان دعا له بأن يوفقه الله تعالى للتدبّر وإعمال الفكر. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: دخل النبي ﷺ المرحاض مرة فوضعتُ له الماء ليتوضأ به، فسُرّ النبي ﷺ ودعا له: “اللهم فَقِّهْه في الدين.” (البخاري: كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء)
فإن من المُهم جدًا أن يفكّر الْإِنسَانُ ثم يصل إلى النتيجة، أما إذا اتّبعَ أمرًا دونما تفكير وفحص فهذا ينال من مكانته العالية. وكان من تأثير هذا التعليم الإسلامي أنَّ المسلمين حيثما ذهبوا أذهلوا الناس بأعمالهم، حيث كان طفلهم أيضاً ذا علمٍ غزير وكان يتكلم بالدليل. والحقّ أنَّ اعتيادهم على التفكير هو الذي جعلهم أقوياء الإيمان لا يتزعزعون عما يعتقدون، لأنهم لَمْ يؤمنوا بشيء إلا بعد الفحص والتفكير، مستوعبين كل ما فيه من معنى ومغزى. وهذا هو السبب في أنَّ الناس كانوا يستغربون كيف أنَّ المسلم يضحي بحياته ببسالة نادرة. يقول أحد الصحابة إنما أسلمتُ لأني رأيت مسلماً يضحّي بحياته بشجاعة مذهلة. وبيان ذلك أنَّ الأعداء حاصروا مجموعة من المسلمين على قمة جبل خدعةً، ثم وعدوهم بأنهم لو نـزلوا إليهم من الجبل فلن يتعرضوا لهم بأذى، ولكنهم لما نـزلوا إليهم شنوا عليهم الهجوم وقتلوا معظمهم. ويقول هذا الصحابي: كنتُ من قبيلة أخرى، وكنا نسمع عن المسلمين كلامًا سيئًا بأنهم قوم لا دين لهم وأنهم يعادون عامة العرب، ولذلك كنت انضممت إلى هؤلاء المهاجمين الذين قتلوا المسلمين خدعة. فرأيت أن مسلمًا طُعن في صدره حتى انشقّ صدره، فَلَمْ يلبث أن هتف قائلا: “فُزْتُ وربِّ الكعبة”، ثم سقط صريعًا واستُشهد. فأذهلتني كلماته جدًا، وقلتُ في نفسي: هل هذا مجنون؟ فإن العدو طعنه وهو بعيدٌ عن أهله ووطنه حوالي مئة وخمسين ميلاً، فبدلاً من أن يقول: واأماه وياأبتاه ويازوجاه، يقول: فزتُ ورَبَّ الكعبة؟ مع أنه لَمْ يفز، بل مات. فكيف تفوَّهَ بهذه الكلمات؟ فلا شكّ أنه مجنون ولا يعرف الفرق بين الفوز والفشل. ثم بعد القتال سألتُ أحدًا من الكافرين: ألا ترى أنَّ هذا الشخص كان مجنوناً؟ فإنه لمّا طُعن في صدره صاح: فزتُ وربِّ الكعبة! بدلاً من أن يتأوه ويتوجع. فأجابني صاحبي: إنَّ هذا هو دأب المسلمين جميعًا، فإنهم يرون الموت فوزًا! فكان لقوله وقعٌ كبير في نفسي وقلتُ: إذًا لا بد أنهم على الْحَقِّ، إِذْ لا يضحّي أيُّ إنسانٍ بحياته على هذا المنوال. فذهبتُ إلى المدينة خُفيةً، وسمعت حديث النبي ﷺ، فانشرحَ صدري للإسلام وعلمتُ أنه هو الحق. وعندها علِمتُ لماذا يضحّي المسلمُ بحياته هكذا. إنما يضحّي بحياته لأنه يرى النور، ومن شاهدَ النورَ فكيف يقاومه من لا يرى النور بل يهيم في الظلام؟ (البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع).
باختصار، إنَّ الرسول ﷺ والقرآن الكريم قد حثّا المسلمين مرارًا وتكرارًا على التفكير والتدبر. والحق أننا لا يمكن أن نفوق الأمم الأخرى بدون أن نعتاد على الفحص والتدبر، لأننا لو اكتفينا بقولنا للناس: كونوا مسلمين واقرؤوا القرآن، فسيقول الهندوس: كونوا هندوسًا واقرؤوا “الفيدا”، وسيقول السيخ: كونوا سيخًا واقرؤوا”غرنث”، وسيقول المسيحيون: كونوا مسيحيين واقرؤوا “الإنجيل”. فلا يُرى بيننا وبين هذه الأمم أي فرق ولا فضل. هناك طريق وحيد لأن نتميز عن غيرنا وهو: أن نؤمن بعد الفحص والإمعان دائماً. وإذا اعتاد النَّاسُ على تصديق أيَّ شيء بعد التدبر والتفكير فإن المؤمن بالكتاب الحق سيزداد إيمانًا على إيمان، والمؤمن بالتعليم الباطل سيزداد كراهةً لما يؤمن به. مثلاً عندما نتدبّرُ القرآنَ الكريم ونُعملُ الفكر في تعليمه فسوف نعرف المزيد من دلائل صدقه، فنـزداد إيمانًا على إيماننا، ولكن المسيحي كلّما أعملَ الفكر في دينه ضعف إيمانه به أكثر فأكثر. بالمثل كلّما فكّرَ اليهوديُ في التوراة ساء ظنه بها أكثر فأكثر. وكذلك كلّما أمعنَ الهندوسي في كتابه “الفيدا” ازداد نفورًا منه. إذًا فإن التدبر والفحص سيزيد المسلمين إيمانًا على إيمان، بينما يؤدي إلى زعزعة إيمان الهندوس والمسيحيين واليهود بدينهم أكثر فأكثر.
إذًا فالتفكّر والتدبّر يقوّي الدين والإيمان. ويمكن أن تلاحظ منافع مادية للتدبّر والتفكر أيضاً، فإن المسلمين لما بدأوا إعمال الفكر والتدبّر حقّقوا رُقيًا مدهشًا. لا شكّ أنَّ اللغة العربية كانت موجودة قبل الإسلام إِذْ كانت اللغة الأم للعرب، وكان علم التاريخ أيضاً موجودًا قبل الإسلام، ومع ذلك لَمْ ترَ بين العرب أي نهضة في هذه المجالات، أما بعد الإسلام فحدث فيهم انقلابٌ مدهش، حيث قاموا بتدوين اللغة العربية، ووضعوا القواميس وقواعد الصرف والنحو وأُسس الفقه والتاريخ. كيف حدث هذا الانقلاب يا ترى؟ إنما سببه أنَّ المسلمين كانوا مأمورين بالتفكر والتدبّر، فأعملوا الفكر فسبقوا الأمم في كُلّ مجال، وكان بينهم كبارُ الصرفيين والنُحاة والقُضاة والمؤرخين والقادة، ولكنهم لمّا تركوا التدبّر والتحرّي والفحص وأخذ الأوروبيون في التدبّر والتفكّر سقط المسلمون وسبقهم الأوروبيون بشوط كبير جدًا. حينما كان المسلمون أُمة حية كان دأبهم التدبّر في كُلّ شيء، فاستنارت عقولهم بشكل مدهش، فكانوا يُحلّّون المعضلات دونما صعوبة.” (التفسير الكبير، الشعراء)
ويفصّل المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في موضوع الوحي بأنه كما ينزل على القلب محل الفكر والشعور ومنبعه وعلى الدماغ محل المنطق والتحليل أي من الداخل والخارج معاً فإنه ينزل كذلك على اللسان والآذن وغيرها من أجزاء الإنسان:
“هذه هي الحقيقة التي قد أشار اللهُ تعالى هنا بقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} .. أي بما أنَّ هذا الوحي ينـزل على قلبك فيغمرك باستقامة خارقة، حتى تقول لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك نشر وحدانية الله تعالى فلن أتخلّى عن ذلك، لأن وحي الله تعالى ينـزل على قلبي ولو لَمْ ينـزل على قلبي فربما رضيت بما تقولون، ولكن لا مجال للاستجابة لما تطلبون، لأن الله تعالى أنـزل وحيه على قلبي، وثبّتَ عقيدة التوحيد في فؤادي كمسمار حديدي.
إذًا، فإن الذين استنتجوا من هذه الآية أنَّ كُلّ ما يخطر ببال الإنسان من فكرة وخيال هو الوحي منخدعون في الواقع، لأن الله تعالى قد بين هنا أنَّ الوحي ينـزل على اللسان والأذن وعلى القلب أيضاً من أجل التوثيق والتأييد. أما “بهاء الله” فيعترف من ناحية أنه لا يتلقى وحيًا لفظيًا، ومن ناحية أخرى يعتبر ما يخطر بباله من خواطر وأفكار “وحيًا”. ونفس الحال بالنسبة لِـ “غاندي” حيث يسمي هو الآخر أفكاره “إلهامًا” في بعض الأحيان. ولكن الوحي الذي يتحدث عنه القرآن الكريم ينـزل بكلمات محددة متكررة مرّة تلو المرّة، وتجري على القلب أيضاً بالإضافة إلى نـزولها على اللسان والأذن، وتتكرّر جملة واحدة منه مدة نصف ساعة في بعض الأحيان.
ولو أنَّ القرآن الكريم اكتفى بقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} لجاز أن ينخدع أحدٌ ويقول أنَّ القرآن يعتبر كُلّ ما يختلج في قلب المرء من خواطر وأفكار وحيًا. وَلَكِنَّ القرآن الكريم قد صرّح في آيات أخرى أنَّ الوحي النازل على الرسول ﷺ ينـزل على لسانه وأذنه أيضاً ويكون بكلمات معيَّنةٍ. قال الله ﷻ: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} (القيامة:17-18). فهذه الآية تبيّنُ بوضوح أنَّ الوحي كان ينـزل على الرسول ﷺ بسرعة كبيرة، فكان يحاول أن يردّده بلسانه بسرعة ليضبط كلماته ويحفظها في ذاكرته حفظًا تامًّا، فطَمْأَنَه الله ﷻ وقال: لا حاجة لهذا لأن الوحي النازل عليك وحي تشريعي، والوحي التشريعي لا يُنسَى لأنه إذا نُسي أصبح الوحي المتلوّ ناقصًا؛ فاعلم أنَّ علينا جمع هذا الوحي وقراءته على الدنيا أيضاً، فاقرأْه بهدوء وراء قراءتنا إياه عليك.
فهذه الآية نصٌّ صريح على أنَّ القرآن الكريم لَمْ يكن ينـزل على قلب النبي ﷺ المطهر فقط، بل كان الله ﷻ يُقرِئه إياه أيضاً على الدوام، ومن المحال أن يُقرِئه الله ﷻ وحيه ما لم ْيكن بكلمات معينة.
ثم إنَّ القرآن الكريم قد صرح في مكان آخر أنَّ هذا الوحي كلام الله ﷻ وذلك دفعًا للوسوسة القائلة بأن محمدا ﷺ قد اعتبر ما اختلج في قلبه من أفكار وحيًا إلهيا. فإن لفظ “كلام الله” إشارة إلى أنَّ ما في هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته كله كلام الله ﷻ، وليس فيه كلمة واحدة هي من افتراء البشر، دعك عن أن يكون مما اختلج في قلبه من خواطر وأفكار. قال الله ﷻ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6) .. أي لو أنَّ أحدًا من المشركين الذين يحاربونك طلب منك الجوار والأمان فعليك أن تجيره ليسمع الكتاب الذي نـزل عليك والذي هو كله كلام الله ﷻ، فإذا سمع كلام الله أراد العودة إلى قومه فعليك أن توصله إلى المكان الذي يأمن فيه من أي خطر.
كذلك قال الله ﷻ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق:2-3). فهذه الآية أيضاً تصرّح أنَّ آيات القرآن الكريم كانت تنـزل على النبي ﷺ بكلمات محدّدة معينة، فكان يقرأها بسهولة.
ثم إنَّ القرآن الكريم يقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ويقول أيضاً: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، ويقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، ويقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وكل هذه الآيات تدل على أنَّ وحي القُرآن الكَرِيم كان ينـزل بكلمات معيَّنةٍ.
كذلك ورَدَ في الحديث أنَّ النبي ﷺ قال إنَّ الوحي ينـزل عليه أحيانًا “كصَلصَلةِ الجرس”. والبديهي أنَّ صوت الجرس يُسمَع بالأذن. وقال النبي ﷺ أيضاً: “وأحيانًا يتمثّل لي الملَك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول.” (البخاري: كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي). فقد ثبت من ذلك كلّه أنَّ وحي الله تعالى ينـزل على اللسان والأذن والعين أيضاً، كما أنه ينـزل على القلب أيضاً مما يجعل صاحبه أولٌ المؤمنين به. وبما أنَّ القلب منبعُ جميع العقائد والأفكار فبنـزول الوحي على القلب يصلُح كُلّ شيء تلقائيًا.” (نفس المصدر)
باختصار، فإن الخطاب القُرآني موجَّهٌ إلى القلب والدماغ معاً ولكن بدرجة أولى للقلب لأنه محّلّ الفطرة، أما العقل فهو تعبير لغوي يُراد به الربط أي المعرفة والتمييز بربط العلامات والدلائل بعضها ببعض، والعقل صفة للقلب والدماغ معاً، وبالتالي فالقلب يعقل أي تربط الفطرة المتولدة فيه كُلّ ما تشعر وتتأثر به لمعرفة وتمييز الجهة المؤثرة، وكذلك الدماغ يعقل أي يربط ما يصله من القلب وأجزاء الجسم الأخرى ليحلّلها ويربط المعلومات والدلائل ببعضها البعض لمعرفة وتمييز الخطأ والصواب والمطلوب عمله. الدليل على ذلك في الآية نفسها {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} حيث لا تعني بداهةً أنَّ الذين قلوبهم لا تعقل فإنهم مجانين أي لا يفهمون ولا يفقهون شيئاً على الإطلاق مثل المعتوه المجنون بل العكس من ذلك حيث إنَّ كثيراً من أعداء الدين الذين قصدهم القُرآن الكَرِيم بهذا الخطاب نفسه كانوا زعماء وعلماء قومهم، ومنهم مَن كان يقال له أبو الحكم لعلمه الغزير وحكمته وقوّة حفظه، فثبتَ من هذا أنَّ معنى الآية هو القلوب أي الفطرة التي تعقل (تربط) ما تشعر به وتصل من خلاله إلى الْحَقّ. وهكذا لا يُعرف الله تعالى بالعقل وحده ولا بالقلب وحده بل بالإثنين معاً والأصل هو القلب لأنه منبع الفطرة ومحلّ الروح والوحي.
ونجد أيضاً العلم الحديث يؤكد على عقل القلب وأن فيه ذاكرة مخزنة وأعصاب تشابه التي في الدماغ بل وترسل إشارات إلى الجسم أكثر من الدماغ نفسه ولذلك يسمَّي العِلْمُ القلبَ بأنه الدماغ الثاني للإنسان. (المقال الطبي).
فلا يوجد عقل (تمييز وربط) في الدماغ وحده ولا عقل في القلب وحده بل العقل أي التمييز والربط يتمّ في القلب وكذلك في الدماغ أو ما اصطُلِحَ عليه في هذا العصر بـ العقل. أما الوحي فتستقبله الفطرة أي القلب أولاً فتعقله ومن ثم يستقبله الدماغ فيعقله، وإذا صلحت الفطرة صلح العقل وصحّ الدماغ وكان الإنسان من العقلاء.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ