ما هي حقيقة ناقة صالح عليه السلام؟

الحقيقة أن الكثير قد قيل حول ناقة سيدنا صالح عَلَيهِ السَلام حتى وصلت الاّراء إلى درجة لا تعقل وكل ذلك بسبب سوء الفهم، فيما التفسير الصحيح المنسجم مع القُرآن الكَرِيم ككل ومع سنن الله تعالى والعقل ويقدم الدروس والعبر في نسق مترابط هو أن هذه الناقة كانت وسيلة المواصلات التي كان يستعملها سيدنا صالح عَلَيهِ السَلام في جولاته التبليغية الدعوية، فاغتاظ قومه من هذا التبليغ والدعوة فبدؤوا يحاربوه ويضعون العراقيل في طريقه، فبيّن لهم عَلَيهِ السَلام بأن الله تعالى قد آتاه البيِّنات التي يرونها بأعينهم ولا يمكن إنكارها فهي دليل صدقه، فإذا لم يصدِّقوه فليتركوه ولا يعيقوا حركته ويمنعوه من الدعوة. وكان يقول لهم بأن هذه الناقة التي يستخدمها للتبليغ هي غير مؤذية لكم {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا } (الأَعراف وهود)، أي إن هذه الناقة لا تأكل إلا من الأراضي المشاع، ولا تعتدي على أملاككم الخاصة، فذروها تأكل ولا تقتلوها. فكان عَلَيهِ السَلام يرجوهم أن لا يمسوها بسوء، لأنه ليس هنالك أي مبرر لقتلها. وقتلُها لا يعني إلا محاولة قتل الدعوة، وذلك بقتل وسيلة المواصلات الوحيدة للنبي. وبعد أن حاولوا أن يمنعوه ويؤذوه وخططوا لعقر الناقة كسبيل لإيقاف الدعوة حذّرهم عَلَيهِ السَلام وقال لهم: إن قتلتم الناقة فسيأتيكم الهلاك، لأن قتلها يعني أنكم قد اتخذتم قراراً نهائياً بإعلان الحرب على رسالة الله. وكانت الناقة آية واختباراً وعلامة على عدم محاربة الدين وقمع الأفكار والأذى فيكون عقرها علامة على هلاكهم. وقد حدث ذلك بالفعل كما ورد في القُرآن الكَرِيم.

ناقصة صالح من التفسير الكبير

ولنقرأ بعضاً مما قاله المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حول هذه القصة في تفسير قوله تعالى:

﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ . فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ . فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ . وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ سورة هود 65-68

حيث يقول حضرته رَضِيَ الله عنه:

كانت ولا تزال ناقة صالح عليه السلام مرتعًا يجول فيه خيال الناس. وقد جمع حولها المفسرون من الأساطير والخرافات أصنافًا وألوانًا حتى قال بعضهم بأن الكفار عندما طالبوه بآية صدقه خلق على الفور ناقة من بطن الجبل، وكانت حاملاً، فولدت فور خروجها من الجبل (ابن كثير). لقد جمعوا في تفاسيرهم ما سمعوه من خرافات دون أن ينتبهوا إلى تأثيرها الخطير في قلوب السذّج من الناس.

الحقيقة أن القرآن الكريم لا يقول بخلق الناقة هكذا كمعجزة، بل يصرّح {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ . مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ . وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} سورة الشعراء 154-157. والمراد من قولهم {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي من المخدوعين. والمراد من قوله {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أن لها الحق في ورود الماء في يومها المحدد، كما لكم الحق أن تستقوا في يومكم المحدد أيضًا.

ما هو الإعجاز في الناقة؟

تبيّن هذه الآيات أن الناقة لم تُخلق كمعجزة، وإنما هي حُرمتها التي جُعلت معجزةً، حيث أنذر صالح بالعذاب كلّ مَن يتعرض لها بالسوء. لو كان خلقها آيةً -كما يزعمون- لقال: لقد سبق أن خلقت الناقة من الجبل كمعجزةٍ استجابة لمطلبكم، ولكنه ينذر بالعذاب من يهدد حريتها في الشرب.

أما السؤال: كيف صارت الناقة آيةً، فالجواب الأول عليه هو ما كان يذكره أستاذي المعظم المولوي نور الدين رضي الله عنه حيث قال: كان من عادة ملوك العرب وغيرهم أن يطلقوا بعض الماشية هكذا حرةً تأكل وترتع في حرث الناس حيث تشاء، وذلك كعلامة على قوتهم وسلطانهم، معلنين بين القوم أن من تعرض لها بسوء أهلكناه. ووفق هذه العادة الشائعة سرّح صالح عليه السلام ناقته بأمر من عند الله تعالى، جاعلاً حريتها علامةً على سلطته السماوية، معلنًا لهم أن لا يمسّوها بسوء، وإلا فسيكون هذا بمثابة خروجهم على حكومة السماء، وسوف يحل بهم العذاب.

هل أفسدت الناقة أملاك الآخرين؟

ولو قال قائل: إنه لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يفعل كما يفعل ملوك الدنيا الطغاة، فيطلق فحلاً يأكل في حرث القوم ويفسده، ثم يهدّد هو بالويل والدمار لمن يمنعه من فساد زرعه! فجوابه هو أنه لا شك في أن هذا لا يليق بالنبي، ولكن صالحًا لم يكن يقلّد هؤلاء الطغاة إذ لم يقل بأن ناقتي سوف ترعى في أي أرض وفي أي حرث، بل قال: {فذَروها تأكلْ في أرض الله} .. أي سترعى في الأرض التي لا يملكها أحد، لأن {أرض الله} هي ما لا يكدح أحد في زراعتها، وإنما هي خالية من الزرع، تنبت العشب والكلأ بما ينزل عليها من ماء السماء.

أما أنا فأرى شخصيًا أن صالحًا عليه السلام قد أراد بقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ} أن ذروني أتحرك عليها بحرية في أسفاري التبليغية ولا تمنعوني من أن أنتقل عليها من مكان إلى آخر لأداء واجباتي الدينية. ومثل هذا المجاز كثير في جميع اللغات حيث يراد بمنع المركب منعَ الراكب، لأنهم إذا أرادوا إيقاف راكب أوقفوا مطيته. فيبدو أن القوم كانوا يحولون دون رحلاته التبليغية ولا يدَعونه يتحرك بحرية هنا وهناك، فنهاهم الله عن ذلك قائلاً: دعوا ناقته تذهب به حيث يشاء لتبليغ رسالة ربه. ولكنهم قتلوا الناقة، أو بتعبير آخر، أخبروه عمليًا أنهم لن يسمحوا له بالتبليغ في بلدهم بهذه الحرية. فأخذهم العذاب الذي دمّرهم تدميرًا.

وقد يكون للآية مفهوم آخر، وهو أن صالحًا عليه السلام كان قد أدرك أن احتكاكه بالقوم يؤدّي إلى المزيد من الفتنة والفساد فأراد أن يتحاشى الاصطدام بهم. وبما أن العيون والمراعي هي ملتقى القوم عمومًا، امتنع -بأمر من الله- عن أخذ ماشيته إلى المراعي العامة، وصار يرعاها في أرض نائية لا يملكها أحد. كما توقف عن إيراد ناقته الماء في الموعد المعتاد عمومًا، بل اتخذ لذلك موعدًا آخر حيث لا يكون فيه الرعاة الآخرون. ثم أعلن للقوم: ها قد اتخذت أنا وأتباعي كل تدبير ممكن لتفادي الفتنة، متكبدين المشقة والعناء، إذ تركنا المواعيد والمراعي التي قد تؤدي إلى الاحتكاك والاصطدام بكم. فإذا أثرتُم الفتنة والفساد بعد ذلك فسيكون معناه أنكم لا تريدون أن نعيش ونحيا، وعندئذ سوف يحل بكم العذاب من عند الله تعالى.

وادي فج الناقة

وهذا المعنى يتأكد بالأحداث التاريخية أيضًا حيث تذكر التواريخ القديمة واديًا باسم “فج الناقة” (العرب قبل الإسلام ص64). كما ورد هذا الاسم في كتاب الجغرافيا لبطليموس الذي كان قبل الميلاد بمائة وخمسين سنة. والمؤرخون اليونان القدامى يطلقون عليها ( Badanata)، وهو تحريف لِـ”فج الناقة” (أرض القرآن جـ1، ص196). إذن فوجود وادٍ قديم بهذا الاسم يعطي انطباعًا أن صالحًا عليه السلام كان قد اتخذ لناقته مرعى منفصلاً بعيدًا عن قومه حتى لا تحتك ناقته بالمواشي الأخرى، ولا يشتبك راعيها بغيره من الرعاة، ولا تحصل فتنة ولا فساد، ولكن معارضيه لم يرضوا بذلك أيضًا، بل وصلوا هناك وقتلوها، فأخذهم العذاب لهتكهم حرمة قرار السماء.

قتل الناقة ونزول العذاب

ولا يعجبنّ أحدٌ ويقول: كيف يجوز إبادة أمة بأسرها على قتل ناقة واحدة؟! ذلك أن قتلهم الناقة كان بمثابة تمرّدهم على الله تعالى وأنهم لن يدَعوا رسوله صالحًا براحة في أي مكان، وسوف يمنعونه من تبليغ رسالات الله بالقضاء على كل وسيلة يتخذها للقيام بمهامه التبليغية. وهذا كان دليلاً على عدائهم وتمردهم الشديدين، ولا يمكن أن تنجو من العقاب أمة كانت قد أصبحت مجرمةً في حق الله تعالى بعد أن أنكرت رسالته.

لا شك أن العذاب في حد ذاته يسبب الخزي وأيَّ خزي، ولكنه تعالى قد بيّن بزيادة كلمة {مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أن عذابهم كان يحتوي على عناصر الخزي والذل بشكل خاص.

لقد وصفَ عذابهم هنا بالصيحة، وفي سورة الأعراف سمّاه رجفةً أي زلزالاً، وفي سورة الشعراء أطلق عليه العذاب فقط، وقال في سورة النمل {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}، وجاء وصفه في سورة الذاريات صاعقة، أي البرق المدمر، وفي سورة الجاثية سُمّى عذابهم طاغيةً .. أي المتجاوز للحدود، وأما في سورة القمر فقال: الصيحة، وفي سورة الشمس قال: فدمدَمَ عليهم. ولأول نظرة نجد في هذه الأوصاف اختلافًا، ولكن الواقع ليس هكذا، لأن الصيحة والصاعقة والطاغية تعني العذاب أيضًا، فإذا كان القوم قد دُمّروا بالزلزال فكل هذه الأوصاف ملائمة وصحيحة تمامًا. (التفسير الكبير، سورة هود)

وعظ صالح واتهامات القوم

وفي تفسير قوله تعالى:

﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ . مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ . وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ . فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ . فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الشعراء 154-160

يتابع حضرته:

لما وعظهم صالح عليه السلام قالوا: يا صالح إننا نرى أن أحدًا يُطعِمك .. أي أنك تتلقى الرشوة من قبل بعض أعدائنا لتتآمر علينا.

لقد أُثير هذا الاعتراض ضد كل نبي في كل عصر، فمثلاً اتهم الكافرون نبينا صلى الله عليه وسلم بأن قومًا آخرين يعينونه، وقد اتهم المعارضون مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية أيضًا بأن الإنجليز أعطوه المال وأقاموه لمحاربة المسلمين.

أما قولهم: {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا … الخ} فيعني أنه لا فضل لك علينا، إذ لست إلا بشرًا كأي واحد منا. فإذا كان لك علينا فضل، وإذا كنت صادقًا في دعواك، فأْتِنا بما عندك من آية. فأجابهم صالح عليه السلام: حسنًا، هذه ناقتي قد جعلها الله تعالى آية لاختباركم. عندما تجتمعون على الماء تعيثون الفساد، ولكن من الآن فصاعدًا ستكون لناقتي نوبة لشرب الماء وتكون لكم ولأنعامكم نوبة في وقت آخر، فلا تتعرضوا لناقتي بأذى وإلا فسوف يأخذكم عذاب يوم عظيم. ولكنهم قطعوا قوائم الناقة ثم أصبحوا نادمين.

هل كان لناقة صالح مزايا خاصة؟

يقول المفسرون في تفسير هذه الآيات إن ناقة صالح عليه السلام كانت ذات مزايا خصوصية، بل قد نسج بعضهم حولها قصصًا غريبة، حيث يقولون إن القوم أتوا صالحًا وقالوا: لن نؤمن لك حتى تخلق ناقة من الجبل. فدعا الله تعالى، فخرجت الناقة من الجبل بل ولدت مِن توِّها ولدًا بحجمها (الدر المنثور: سورة الأعراف، قوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبًا … إلى قوله تعالى: ولكن لا تحبون الناصحين}). وكل هذه القصص ترهات لا علاقة لها بالقرآن الكريم. فإن القرآن الكريم لا يعتبر ولادة هذه الناقة آية إنما يعتبر حُريتها في التنقل هنا وهناك آيةً حيث حذرهم صالح عليه السلام أنهم لو آذوا ناقته لأخذهم العذاب. وليس ذلك لأن الناقة في حد ذاتها كانت ذات أهمية، بل لأن صالحًا عليه السلام كان يخرج عليها في البلاد في رحلاته التبليغية. لم يكن في ذلك الزمن سيارة ولا قطار ولا طائرة، وكانت الناقة هي الوسيلة الوحيدة للسفر، فكان صالح عليه السلام يخرج على ناقته للدعوة والتبليغ، وكان معارضوه غير راضين بجهوده التبليغية، فكان من المحتم أن يعيقوا رحلاته ويمنعوه من التنقل من هنا إلى هناك من أجل التبليغ. فلما تجاوزوا الحد في شرورهم جعل الله تعالى الناقة آية لهم، وقال لهم دعوها تتنقل بصالح حيثما شاء ولا تُعيقوا جهوده التبليغية، وإلا سيأخذكم العذاب. فاعتبروا تحذيره ضربًا من الخبل والجنون، وازدادوا بغيًا وطغيانًا، وقطعوا قوائم الناقة. وكأنهم قد تحدّوا الله تعالى وقالوا لن نسمح لصالح برفع اسمه تعالى في أرضنا. فلما أرادوا إغلاق أبواب بلادهم في وجه الله تعالى أغلقَ أبوابها في وجوههم، وضربهم بسيف قهره وعذابه. لا شك أنهم عندما رأوا العذاب أصبحوا نادمين، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان.

ثم يقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .. أي أن في هذه الواقعة آية عظيمة تمثّل درسًا هامًّا للناس بأن الذين يعيقون طريق الجماعات الإلهية ويمنعونها عن الدعوة والتبليغ ورفعِ اسم الله تعالى يصبحون عرضةً لسخط الله وقهره. بيد أن هذا الدرس كان عبرة فقط للذين أتوا فيما بعد، أما قوم صالح فأكثرهم لم يؤمنوا به، بيد أنهم قد أكدوا بهلاكهم كون الله تعالى عزيزًا ورحيمًا. لقد أرادوا أن يكون صالح من المغلوبين، ولكن الغلبة كانت لله ولرسوله. لقد أرادوا أن تفشل جهوده الدعوية، فلا ينتشر اسم الله ورسوله في الأرض، ولكن الله الرحيم بارك في جهود نبيه، فتكونت بأنفاسه القدسية جماعةٌ أشعل أفرادها قناديل نور الله في صدورهم، فصاروا هداةً للإنسانية الضالة إلى الحق. (التفسير الكبير)

للمزيد من التفصيل في معجزة ناقة صالح

﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا . فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا . وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ سورة الشمس 14-16

فيقول رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

لقد ضرب الله هنا مثالا لطيفا، ولكن الناس لم يفهموا حكمته للأسف، وظنوا أن ناقة صالح كانت تتميز بعظمة خاصة، فلما عقرها قوم ثمود حلّ بهم عذاب الله تعالى. وقد حكى بعض المفسرين عنها حكايات عجيبة حتى قالوا أنها خُلقت من جبل ولم تكن كالنوق الأخرى (فتح البيان). فكيف ينزل العذاب على قوم لمجرد عقر الناقة ولا ينزل عليهم لإيذائهم نبيَّهم؟

الحقيقة أن صالحا عليه السلام قد بُعث في الجزيرة العربية، وكانت الناقة مَرْكَب العرب، فكان يخرج على ناقته للدعوة، وكان القوم لا يحبون أن ينشر دعوته بينهم ولكنهم ما كانوا يتصدّون له عليه السلام بطريق مباشر خوفًا أن تنتقم له عائلته، فاتبعوا لإيذائه طرقًا أخرى منها أنه عليه السلام إذا خرج على ناقته للدعوة في المناطق المجاورة فكان بعضهم يمنعونه من أن يسقي ناقته عندهم، وبعضهم كانوا يمنعونها من الرعي ليتوقف صالح عليه السلام عن أسفاره التبليغية عندما لا يجد الماء والعلف لناقته. فنصحهم عليه السلام قائلا: اتركوا ناقتي ترعى حيثما شاءت ولا تمنعوها الماء، لأن هذا يعيق دعوتي. ولم يكن يقصد أنه يمكنهم أن يمنعوه من المجيء إليهم، ولكن إن جاءتهم ناقته فعليهم أن يدَعوها تشرب من مائهم. ذلك أنه لم يكن بينهم وبين الناقة عداء، وإنما كانوا يعادون صالحا عليه السلام .. وكان اعتراضهم أنه يأتي إليهم على ناقته للدعوة مما يحدث ضجة في منطقتهم حيث يدعو الناس إلى طاعة أوامر الله تعالى، وهذا ما لم يطيقوه، فرأوْا أن السبيل لمنعه من الدعوة أن لا يدَعوا ناقته ترعى أو تشرب عندهم إذا خرج إليهم عليها. فسخط عليهم صالح عليه السلام وقال {ناقةَ الله وسُقياها} .. أي أن ما تفعلون ليس صحيحا. دَعوا ناقتي لترعى وتشرب بحرية ولا تحولوا دون رعيها وشربها .. أي لا تمنعوني من الدعوة بِحِيلكم هذه .. واتركوني أبلّغ رسالة الله بحرية.

لقد رأيتُ بنفسي أنني حين أخرج أحيانا على الحصان وأمرّ ببعض القرى الأحمدية، يأخذ أهلها لجام حصاني ويوقفونه، فلا يعنون بذلك أن أنزل عن متنه وأعطيهم الحصان لكي يأخذوه لقريتهم، وإنما يقصدون بذلك أن أزورهم في قريتهم لبعض الوقت. وبالمثل لم تكن ثمود تريد إيقاف ناقة صالح عليه السلام، وإنما كانوا يريدون إيقافه من نشر الدعوة. فلما قال لهم خلّوا ناقتي ولا تتعرضوا لها بسوء، فما كان يقصد أن يتركوا ناقته ويفعلوا به ما يشاءون، إنما كان قصده ألا يمنعوه من التبليغ والدعوة. إنهم يمنعون ناقته من الشرب وهذا يعيق تبليغه دعوته ويحرم أهل تلك المناطق من الهدى.

لم تُلقِ ثمود بالاً لنصيحة صالح عليه السلام، وكذّبوه وقطعوا قوائم ناقته، وبتعبير آخر: كشفوا له نيّاتهم علنًا أنهم لن يسمحوا له بنشر الدعوة في أي حال مهما قال لهم.

يقول الله تعالى إنهم لم يطيعوا رسولنا، فأنزلنا عليهم عذابا سوّاهم بالأرض ودمَّر صغارهم وكبارهم، فلم يُبق منهم أثرًا.

هذه الآية أروعُ مثال على بلاغة القرآن الكريم، إذ قال الله تعالى من قبل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} .. أي أننا قمنا بتسوية الإنسان وجعلناه معتدل القوى، حيث تشهد نفس الإنسان على أنه بحاجة إلى نور السماء، والآن قال الله هنا إن ثمود لم يُقدِّروا هذه التسوية حقّ قدرها، ولم يطيعوا أوامرنا، فقمنا بتسويتهم بشكل آخر؛ فمحونا أثرهم من الدنيا. وهذه ذروة البلاغة، حيث استعمل الله الشيء الذي أنكروه بمعنى العذاب؛ فأخبر أننا قمنا بتسويتهم لأنهم أنكروا تسوية النفس، فدمرنا بلادهم وهدمنا مبانيهم وأهلكناهم بزلزال شديد لم يُبق منهم أثرا.

الضمير في قوله تعالى {عُقْبَاهَا} راجع إلى {دَمْدَمَ}، والمراد أنه إذا حان نزول الدمدمة، واستحقّ قومٌ هلاكا شاملا، فلا يبالي الله بأقاربهم، أو لا يأبه بعواقب العذاب الوخيمة. ذلك أن القوم لا يهلكون كلهم أحيانا بل بعضهم ينجون، غير أنهم يعيشون بعد ذلك في ذل وهوان، ولكن الله تعالى يخبر هنا أنه إذا أراد إبادة قومٍ فلا يأبه بمعاناة من حولهم. إن استحقت أكثرية القوم غضب الله تعالى، يدمَّر معها الصامتون الذين لا يعارضون النبي ولا يؤيدونه أيضًا، وهذا لا يعني أن الله ظلمهم، أو أنزل العذاب عشوائيا، بل إذا قضى الله باستئصال شأفة قوم، فإنما يقضي بعدل، فحيث إن البقية الصامتة لا يأبهون بعاقبتهم فلماذا يأبه الله بهم؟

ومن معاني هذه الآية أن على أهل مكة -الذين يعارضون نبيهم كما عارضت ثمود نبيها- أن يتذكروا أن الله تعالى سينزل عليهم عذابا عاما كما دمر ثمود بعذاب عام. لا شك أن ثمود هلكوا كأمة، بينما عاش أهل مكة بعد غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا اعتراض على ذلك، لأن الهلاك لا يكون مادياً في بعض الأحيان بل يكون دينيا. لقد هلكت ثمود هلاكا مادياً كلية، أما أهل مكة فهلكوا هلاكاً دينياً، فلم يبق لدينهم وطقوسهم أي أثر.

الخلاصة في موضوع ناقة صالح

فهي إذن ناقة عادية كان يستخدمها سيدنا صالح ؑ في جولاته التبليغية، فأراد الخصوم منعه من الدعوة والتبليغ، فكان قطع وسيلة النقل هذه علامة على هلاكهم، حيث أن قطع الطرق ووسائط النقل ومنع الناس من نشر الفكر وقمعهم وتشويه رسالتهم هي جريمة تؤدي إلى كل أنواع الظلم والفساد المؤدي إلى العقاب. فكانت علامة على هلاكهم المحقق. والدرس أن الأفكار لا يجب أن تقمع وتمنع وأن لا يؤذى الناس لاختلاف أفكارهم طالما ليس فيها ضرر ولا يجب الوقوف في الطريق وقطعه واستئصال الفكر المسالم بالقوة والإكراه فهذا ظلم عظيم عند الله تبارك وتعالى.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

انقر هنا لقراة قصة سيدنا صالح 

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

2 Comments on “ناقة صالح عليه السلام – تفسير وعبرة”

  1. ناقة صالح أو سدّ ثمود
    الجزء ٢

    توقفنا في الجزء الأول عند مفهوم الناقة، وبينّا أنها لا تعني أنثى الجمل، دائماً، لأن الجذر (نَوَقَ) يدل على سمو وارتفاع وتجويد وإصلاح، وأن الناقة سميت كذلك، لارتفاع خلقها، كما قال ابن فارس، ولعله أيضاً لسهولة إصلاحها وتجويدها على الجَمل، في المطاوعة والتذلل للركوب، فالمُنَوَّق عند العرب عموماً، هو الملَيَّن، المُذَلَّل، الملَقَّح، المنَقَّى، المُطرَّق، المُسَكَّك…
    بلغتنا المعاصرة، كل شيء أقيم على ارتفاع كبير، حصناً كان أو قصراً، أو كل شيء تمت صناعته أو معالجته بإتقان ومهارة، فسَما وارتفع، معنويا، في جودته وطريق الانتفاع منه…
    ونتوقف في هذا الجزء عند معنى ثمود.
    جاء في المقاييس:
    (ثَمْدٌ) الثَّاءُ وَالْمِيمُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقَلِيلُ مِنَ الشَّيْءِ، فَالثَّمْدُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ لَا مَادَّةَ لَهُ. وَثَمَدَتْ فُلَانًا النِّسَاءُ إِذَا قَطَعْنَ مَاءَهُ. »
    وجاء في لسان العرب: الثَّمْدُ والثَّمَدُ: الماء القليل الذي لا مادّ له، وقيل: هو القليل يبقى في الجَلَد، وقيل: هو الذي يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف.
    يتفق ابن فارس وابن منظور، على أن الثمْد، هو الماء القليل، أو قطع الماء.
    وجاء في لسان العرب، ما يخدم بحثنا خدمةً جليلة، يقول ابن منظور: وقيل: الثِّمادُ الحُفَرُ يكون فيها الماءُ القليل؛ ولذلك قال أَبو عبيد: سُجِرَتِ الثِّمادُ إِذا مُلئت من المطر، غير أَنه لم يفسرها. قال أَبو مالك: الثَّمَدُ أَن يعمد إِلى موضع يلزم ماء السماءِ يجعَلُه صَنَعاً، وهو المكان يجتمع فيه الماء، وله مسايل من الماءِ، ويحفِرَ في نواحيه ركايا فيملأَها من ذلك الماءِ، فيشربَ الناسُ الماءَ الظاهر حتى يجف إِذا أَصابه بَوارِحُ القَيظ وتبقى تلك الركايا فهي الثِّمادُ؛ وأَنشد:�لَعَمْرُكَ، إِنِّني وطِلابَ سَلْمَى�لَكالمُتَبَرِّضِ الثَّمَدَ الظَّنُونا، والظَّنون: الذي لا يوثق بمائه.
    فإذاً الثَّمَد، هو تلك الحفرة التي يتم حفرها ليجتمع فيها المطر، ويُجعل لها قنوات، لتصريف المياه منها، وتُجمع على ثِماد.
    والثَّمْد، هو قطع الماء أو الماء القليل، كما رأينا.
    ونتوقف قليلا عند مفردة الصَّنَع المذكورة في لسان العرب في قول أبي مالك، لنبين كيف تتحول معاني المفردات، أو بالأحرى، تبرز مصاديق، على حساب مصاديق أخرى لنفس المفهوم، مع تقدم الزمن واختلاف الثقافات والمجتمعات، مع وجود خيط رفيع، يربطها دائمًا، بالمفهوم الأصلي.
    الصَّنَع، الذي اشتق منه مفردة مصنع، التي تعني اليوم، المعمل، وكل مكان تتم فيه الصناعات المختلفة، لكن المفردة قديما، لم يكن لها علاقة، بالحديد والبلاستيك وغيرها من مواد التصنيع.
    الصَّنَع هو ما يسميه اليمنيون اليوم: المصنعة، وتعني القصر أو الحصن أو القلعة المنيعة، وذلك إلى اليوم، وكانت قديما تُطلق على حوض الماء، ويبدو أن سبب إطلاق المفردة على البِناءَيْن، للتشابه في إقامتهما أولا، فوق القمم العالية، ولاجتهاد البنائين في تحصينهما وتمنعيهما. جاء في لسان العرب:
    “والصَّنَع: الحوض، وقيل: شبه الصهريج يتخذ للماء، والمصنعة: كالصَّنَع الذي هو الحوض أو شبه الصهريج يجمع فيه ماء المطر. والمصانع أيضا: ما يصنعه الناس من الآبار والأبنية وغيرها، قال لبيد:
    بلينا وما تبلى النجوم الطوالع، وتبقى الديار بعدنا والمصانع، قال الأزهري: ويقال للقصور أيضا مصانع”
    والمصنعة ذُكزت في محكم التنزيل، قال تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)، في حديثه عن قوم عاد. جاء في لسان العرب: “المصانع في قول بعض المفسرين: الأبنية، وقيل: هي أحباس تتخذ للماء، واحدها مصنعة ومصنع، وقيل: هي ما أخذ للماء. قال الأزهري: سمعت العرب تسمي أحباس الماء الأصناع والصنوع، واحدها صَنَع، قال الأصمعي: وهي مساكات لماء السماء يحتفرها الناس فيملؤها ماء السماء يشربونها. وقال الأصمعي: العرب تسمي القرى مصانع، واحدتها مصنعة،”
    كما نرى، فإن الجذر صنع، تطور بطريقة يصعب معها، تصور أن له علاقة ببناء القصور والقلاع، أو أحواض الماء…إلا أننا نرى أن الخيط الرفيع الذي لايزال يربط بين، مصداق اليوم، وهو المعمل، ومصداق الأمس، وهو البناء، حوضا كان أم قلعة، هو قيام الإنسان بصناعته، بيديه وتخطيطه وإشرافه، في الحالتين، على ابتعاد المجالين ابتعادا كبيرا…فالجذر يعني: (صَنَعَ) الصَّادُ وَالنُّونُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَمَلُ الشَّيْءِ صُنْعًا.
    سقنا هذا الكلام، لثلاثة أسباب
    للإشارة أولا، لمعرفة العرب، منذ القدم، وخاصة في اليمن، بأساليب بناء الأحواض وخزانات المياه،
    وثانيا للربط بين الثَّمَد والصَّنَع، فإذا كان الثَّمَد، هو حفرة فقط، كما جاء في اللسان، قد تكون بفعل فاعل، وقد تكون حفرة طبيعية، يتم جمع الماء فيها، فإن الصَّنَع أو المصنعة، هي بناء ذكي، مخطَّطٌ له، بعناية وسابق معرفة؛ ويكفي أن يبحث المرء عن المصانع التي لا تزال موجودة اليوم في اليمن، ليرى دقة بنائها وتخطيطها، ومن أشهرها صهاريج عدن(انظر الصورة)…
    وثالثا، للإشارة إلى تطور المفاهيم، واتخاذ المجتمعات، مصاديق معينة، بحسب البيئة والحاجة، وإعطائها معنى المفهوم، وإغفال باقي المصاديق، كما في حالة الناقة…
    ما سقناه، يدل على أن تسمية قوم صالح، ثمود، تعني أنه كانت لهم معرفة بدائية بخزانات المياه والأحواض، لأنهم اقتصروا على الثِّمَاد، وهي الحفر كما جاء في لسان العرب، أو الأحواض البدائية، ولم تكن لهم معرفة، بالمصانع، التي تقام في أعالي الجبال، والتي تتطلب معرفة بقوانين البناء المضاد للضغط المائي، وكيفية تصريفها فيما بعد…فاتخاذ حفرة في السهل، تتجمع فيها المياه، القادمة من الجبال، لا يتطلب تقنيات كبيرة، أو ذكاء خارقا، أو وحيا من السماء…وهو ما كان يقوم به قوم صالح، قبل أن يأتيهم بالناقة، يشهد عليه قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا، فالقصر في اللسان، ليس هو البنيان الفخم، بل كل بناء يتم به حبس شيء معين، ماء كان او زراعة، كل هذا قصر…السياج المحيط بالبستان قصر…والبناء الذي يحبس الماء ايضاً قَصْر…
    « (قَصَرَ) الْقَافُ وَالصَّادُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَلَّا يَبْلُغَ الشَّيْءُ مَدَاهُ وَنِهَايَتَهُ، وَالْآخَرُ عَلَى الْحَبْسِ. وَالْأَصْلَانِ مُتَقَارِبَانِ. والْقَصْرُ: الْحَبْسُ، يُقَالُ: قَصَرْتُهُ إِذَا حَبَسْتُهُ، وَهُوَ مَقْصُورٌ، أَيْ مَحْبُوسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} »
    مقاييس اللغة، ومنه قصر الماء: Château d’eau بالفرنسية.
    تجدر الإشارة، إلى أن Château التي تعني القصر، وبالإنجليزية Castel. أصلها اللاتيني هو Casterum، وكما هو معلوم، Um في اللاتينية قد تفيد التعريف، أو الصفة، يبقى Caster، وهي تماما: قصر، مع إضافة حرف .t
    بمعنى أن الترجمة الحرفية، قصر الماء، لا تعني بيت الماء الفخم، وإنما تعني حبس الماء، أو منعه من الذهاب…وهو المعنى الأصلي ل Castel أو Château ، الذي كان يعني الحصن أو القلعة. وهو يلتقي مع معنى الحبس والمنع!
    وهذا مثال جيد عن انتقال مفردات اللسان العربي إلى اللغات الاجنبية، مع احتفاظها بمعناها المفهومي.
    نعود لموضوعنا ونعتذر للقارئ عن هذه التفريعات. والحقيقة أن المقالات على الفيس لا تتيح عرض كل ما يتم التوصل إليه أو التفكير به. نعود لموضوعنا.
    قوم ثمود-فريق منهم- كانوا يتخذون من السهول خزانات مائية -قصور- تحبس الماء، لأغراض السقي والشرب، فكانوا يسقون بساتينهم في السهول، ولكنهم لم يعرفوا الأحواض التي تُبنى في أعالي الجبال، لتحبس مياه الأمطار، قبل أن تسيل على السفوح ويضيع معظمها في السهول، ولا يُستفاد منها…أو يقوم من يملكون السهول، بحبسها في قصورهم ومنع الآخرين منها-الفريق الأخر-، ممن يمارسون الزراعة على سفوح الجبال، إذ لا يستطيعون إعادة المياه إلى أعالي الجبال، بعد نزولها، فيقوم الفريق الأول بابتزاز الفريق الثاني، واستضعافه، لأنه يملك مادة حيوية…القصور لا يمكن ان تعني المفهوم المعاصر، لأن قوم ثمود لم يتخذوا القصور للسكن، بل كانوا يسكنون الجبال : وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ

    يتبع

  2. ناقة صالح أو سدّ ثمود
    الجزء ١

    بدأت البحث في هذا الموضوع منذ عدة سنوات، وكنت قد شاركت بعض الأصدقاء ما توصلت إليه، دون أن أجمع ما كتبته، في بحث واحد، وأنشرَه، لضيق الوقت، ولانشغالي بمواضيع أخرى، غير القصص القرآني، الذي يتطلب جهدا خاصا، في البحث والنظر.
    وسأبدأ بنشر هذا البحث على أجزاء، كما عودتُ القارئ، على أن أقوم بجمعه بعد ذلك، في بحث واحد بإذن الله.
    درج الفهم التراثي على اعتبار ناقة صالح، الحيوان الذي نعرف، أي أنثى الجمل، والحقيقة أن معنى ناقة، الذي وصلنا اليوم، لا يعدو هذا الفهم، لكن هل تساءلنا، لماذا سميت الناقة: ناقة؟ وعلى ماذا يدل الجذر الذي اشتُقّت منه؟
    ثم هَبْ أنها الناقة الحيوان، فهل تساءلنا، كيف تشرب الناقة، مقدار ما تشربه قبيلة بأكملها؟
    قالوا لعظمها وضخامتها، وهنا نطرح تساؤلا آخر: ولِمَ؟!، ما الهدف من كونها ضخمة عظيمة، على غير المألوف والعادة، إذا كان بالإمكان إرسال ناقة عادية الضخامة والحجم، وجعلها تشرب مثل قطيع من الإبل، مادام الأمر تحكمه المعجزة؟!
    وهل تساءلنا، كيف لرب العالمين، أن يبعث آية في صورة حيوان، يشرب مثل ما تشربه القبيلة من كميات المياه، على ندرتها وتخاصم القوم حولها وحول اقتسامها، ليقنع قوم صالح باتباعه، ولعمري، فإن هذه “الآية”، لحقيقة بأن تجعل القوم ينفرون منه ومن دعوته، فكيف بالإيمان به وباتباع دعوته؟!، على أن هناك من القوم من اتبعه، فعلى أي أساس اتبعوه، وما الذي وجدوه عند نبي الله صالح، وأقنعهم باتباعه، إذا قلتَ، كونه جعل الماء قسمة بينهم، وردَّ للمظلومين حقهم في المياه، قلنا، وما فائدة الناقة إذاً، إذا كان همها هو الشرب، وبكميات مهولة، تزيد من ندرة المياه وخصاصتها؟!
    وهل تساءلنا، هل يكون حل مشكلة الماء، بالنسبة لقوم صالح، والذي كان مشكلتهم الرئيسة، هو في إرسال حيوان يشرب مياههم ويزاحمهم فيها؟!
    وهل تساءلنا، كيف حلّ نبي الله صالح، مشكلة المياه في ثمود، والآيات تفيد أنه حلّ المشكلة فعلاً، بل وأرسى نظاما، يضمن حق الجميع في المياه، فكيف تسنى له ذلك، ومعه ناقة تشرب ولا تشبع، والتي كان بالإمكان عدم إرسالها، لو كانت هي الحيوان الذي تزعمه كتب التراث؟!
    وهل كانت هذه الناقة، على اعتبارها الحيوان الشروب، معينا له على ذلك، أم على العكس؟!
    ولماذا قالت الآية: وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، ولم تقل فَذَرُوهَا *تَشْرَبْ* فِي أَرْضِ اللَّهِ، إذا كانت هذه الناقة تستهلك المياه؟!
    ولماذا قالت الآية: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، والسُّقيا، هي أن تسقي الغير، لا أن تسقي لنفسك، جاء في لسان العرب: السَّقْيُ: معروف، والاسم السُّقْيا، بالضم…وتكرر ذكر الاسْتِسْقاء في الحديث، وهو اسْتِفْعال من طَلب السُّقْيا أَي إنْزال الغَيْثِ على البلادِ والعِبادِ. يقال: اسْتَسْقى وسَقى اللهُ عبادَه الغَيْثَ وأَسْقاهم، والاسم السُّقْيا بالضم. وسئل كثيّر لم سميت السُّقيا سُقيا؟ فقال: لأنّهم سُقوا بها عذباً…
    وفي الحديث: أن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، كان يستقي الماء العذب من بيوت السُّقيا، وفي حديث آخر: كان يستعذب الماء العذب من بيوت السُّقيا، والسُّقيا: قرية جامعة من عمل الفرع، بينهما ممّا يلي الجحفة تسعة عشر ميلا، وفي كتاب الخوارزمي: تسعة وعشرون ميلا، وقال ابن الفقيه: السُّقيا من أسافل أودية تهامة، وقال ابن الكلبي: لما رجع تبّع من قتال أهل المدينة يريد مكّة فنزل السُّقيا وقد عطش فأصابه بها مطر فسماها السُّقيا. وقال أبو بكر بن موسى: السُّقيا بئر بالمدينة، يقال: منها كان يستقى لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم.
    فالسُّقيا إذاً، هي سَقي الغير، وعليه، فإن الناقة كانت تسقي قوم ثمود، ولم تكن تشرب ماءهم!!
    وأسئلة أخرى كثيرة، لا يجد السائل لها جوابا، في كتب المفسرين، عدا عن معارضة ما يقدمونه من طرح، للعقل السليم والمنطق السوي.
    فما هي هذه الناقة، التي أرسلها الله لصالح، لتعضده في دعوته، وتعينه على إقناع قومه بصدقه وصدق رسالته؟
    وبالرجوع إلى المادة (نَوَقَ)، نقرأ في مقاييس اللغة: �(نَوَقَ) النُّونُ وَالْوَاوُ وَالْقَافُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى سُمُوٍّ وَارْتِفَاعٍ. وَأَرْفَعُ مَوْضِعٍ فِي الْجَبَلِ نِيقٌ، وَالْأَصْلُ الْوَاوُ، وَحُوِّلَتْ يَاءً لِلْكَسْرَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ النَّاقَةُ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ، لِارْتِفَاعِ خَلْقِهَا.
    إذاً، فالناقة، سميت ناقة لارتفاع خلقها!، وكل ما دلّ على ارتفاع وعلو، فهو ناقة أو نِيق، كما أُطلق على أعلى موضع في الجبل، فالنِّيق، هو قمة الجبل…
    بمعنى أنك إذا قلت: نِيق إيڤرست، أو نِيق توبقال(أعلى جبل في المغرب)، فأنت تقصد القمة.
    وجاء في لسان العرب: والنَّوَّاق من الرجال: الذي يروض الأُمور ويصلحها. وتَنَوَّق في الأمر أَي تأَنَّق فيه، ابن سيده: تَنَوَّق في أُموره تَجَوَّد وبالغ مثل تأَنَّق فيها، وقال الليث: النِّيقةُ من التَّنَوُّق. تَنَوَّق فلان في منطقه وملبسه وأُموره إذا تجوَّد وبالغ، وتَنَيَّق لغة؛ وقال علي بن حمزة: تَأَنَّقَ من الأَنَقِ، والأَنِيقُ المُعْجِبُ، قال: ولا يقال تَأَنَّقْتُ في الشيء إذا أَحكمته، وإنما يقال تَنَوَّقْتُ. ابن سيده: وانْتَاق كَتَنَوَّقَ، ابن الأَعرابي: النَّوْقة الحَذاقة في كل شيء. والمُنَوَّق: المذلَّل من كل شيء حتى الفاكهة إذا قرب قُطوفها لأَكلها فقد ذُلِّلت.
    كما نرى، فإن ابن منظور، يعضد ماذهب إليه ابن فارس، في أن الجذر (نَوَقَ) يدل على السمو والارتفاع، سواء تعلق الأمر بالسمو والارتفاع المادي، كحالة قمة الجبل، أو ارتفاع خلق أنثى الجمل، أو تعلق الأمر بالسمو والارتفاع المعنوي، كحالة التَّأنُّق، والمبالغة في التجويد، في الكلام واللبس أو غيرها من الأمور…
    بل إنك تجد في المعاجم، أن مفردة أناقة، هي من نفس الجذر، الذي جاءت منه مفردة ناقة.
    عليه، فإنه يمكننا القول، بكثير من الثقة والأريحية، أن الناقة، هي شيء يدل على سمو وارتفاع، وتجويد وتأنق، وإتقان وإحكام، وحذاقة وإصلاح، وليس دائما، على أنثى الجمل، إلا إذا حضرت القرينة على ذلك.
    يتبع

Comments are closed.