النشأة الثانية للإسلام، أو البعثة الثانية للنبي صلى الله في شخص المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، احتلت جانبا كبيرا من النبوءات القرآنية، بل إن غالبية ما في القرآن الكريم من أنباء مستقبلية عن أحداث وعلامات إنما تتعلق بها وبزمانها، وقد ركَّز القرآن الكريم تركيزا خاصا على هذا النبأ في الجزأين الأخيرين منه.
وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه النشأة أيضا بالقيامة، وربطها بالقيامة الكبرى التي هي البعث بعد الموت؛ إذ وعد بأن يُبعث الإسلام من جديد بعد موته الظاهري وانحطاطه قبل يوم القيامة، بل وأكَّد أن بعث الإسلام الموعود في نشأته الثانية عندما سيتحقق سيمثِّل شهادة على صدق نبأ البعث بعد الموت أو ما يسمى بالقيامة الكبرى.
ومن ضمن العلامات التي وضعها القرآن الكريم لتلك القيامة الموعودة بمعنييها ما جاء في قوله تعالى:
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } (القيامة 6 10)
فعندما يفجر الإنسان ويتمادى في فجوره، وعندما ينتشر الكفر والإلحاد، فإن الكافر سيتساءل مستهزئا عن يوم القيامة الذي يراه خيالا، بينما يتساءل المؤمن راجيا أن يحلَّ زمان بعث الإسلام من جديد، ففي هذا الوقت يقول الله تعالى أن عليكم أن ترتقبوا هذه العلامة التي ستكون علامة القيامة، إذ سيكون زمانها زمان بعث الإسلام، وسيكون هذا البعث للإسلام شهادة على صدق النبأ القرآني بالبعث بعد الموت الذي هو القيامة الكبرى.
ولكن، كيف سيُبعث الإسلام وكيف سيُحيا، وما دور الخسوف والكسوف المجتمعيْن في هذا الإحياء؟ هل سيُحيا الإسلام بمجرد ظهورهما أم أنهما علامتان لمن سيُبعث لهذا الإحياء؟
الواقع أن هذه العلامة ستكون آية لذلك المبعوث الذي سيُناط به مهمة إحياء الإسلام، والذي هو الإمام المهدي المعهود، إذ جاء في الحديث الشريف:
{إِنَّ لَمَهْدِيِّنَا آيَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، يَنْخَسِفُ الْقَمَرُ لأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي النِّصْفِ مِنْهُ، وَلَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} (سنن الدارقطني، كتاب العيدين، باب صفة صلاة الخسوف والكسوف وهيئتهما)
وعندما أعلن مؤسس الجماعة عليه الصلاة والسلام أنه هو المسيح الموعود والمهدي المعهود أبرز له بعض معارضيه هذا الحديث، وقالوا له إن كنت أنت هو المهدي المعهود فأين هاتان الآيتان؟ فتوجه إلى الله تعالى فأخبره أنها ستظهر حتما عما قريب لتقوية إيمان المؤمنين وتبكيت المعارضين المكذبين، فأعلن هذا الإعلان ليكون حجة على المنكرين فيما بعد.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى وقعت هذه الآية بحرفيتها، بفضل الله تعالى، حيث شهدت ليلة الخميس الموافق 21 آذار 1894 الموافقة لليلة الثالثة عشرة من رمضان عام 1311ه خسوفا للقمر، ثم حدث كسوف الشمس في اليوم المحدد في النبوءة وهو الثامن والعشرين من شهر رمضان الذي وافق 6 نيسان وذلك في القسم الشرقي من الكرة الأرضية. ثم في السنة التي تليها حدثت الظاهرة نفسها في الأوقات نفسها أيضا في القسم الغربي من الكرة الأرضية، ليقام بها الحجة على أهل الأرض كلهم. فكانت بذلك آية دامغة ذكرها القرآن الكريم أولا ثم فصَّلها الحديث الشريف.
يقول حضرته عليه الصلاة والسلام تبيانا لهذه الآية في كتابه حقيقة الوحي الصادر عام 1907:
”لقد ورد في صحيح الدارقطني حديث عن الإمام محمد الباقر: “إِنَّ لِمَهْدِينَا آيَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَنْكَسِفُ الْقَمَرُ لأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِى النِّصْفِ مِنْهُ وَلَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ.” أي سيقع كسوف القمر في الليلة الأولى من ليالي الكسوف أي في الليلة الثالثة عشر، وسيقع خسوف الشمس في يوم يتوسط أيام خسوف الشمس، أي بتاريخ 28 من شهر رمضان نفسه. ولم يحدث هذا في زمن أي رسول أو نبي منذ خلْق الدنيا وإنما كان حدوثه مقدرا في زمن المهدي المعهود. وتشهد كافة الجرائد الإنجليزية والأردية وعلماء الفلك أن الكسوف والخسوف اللذَينِ مضى عليهما 12 عاما تقريبا لم يقعا في رمضان وبهذا الشكل إلا في زمني، كما ورد في حديث آخر أيضا. وقد وقع هذا الكسوف والخسوف في رمضان مرتين. فقد وقع للمرة الأولى في هذا البلد ثم للمرة الثانية في أميركا، وحدثا في التواريخ نفسها التي أشار إليها الحديث. ولما لم يوجد -في زمن الكسوف- على وجه الأرض أحد سوايَ يدّعي أنه المسيح المعهود، ولم ينشر أحد غيري مئات الإعلانات في الدنيا بالأردية والفارسية والعربية، معتبرا الكسوف آية على مهدويته، لذا فقد تقرر أن هذه الآية السماوية قد ظهرت من أجلي أنا.“
وبما عليه هذه الآية من صلابة وقوة؛ إذ أنها نبأ قرآني فصَّله الحديث، وظاهرة كونية رآها ملايين الناس، وهي محفوظة إلى أبد الآبدين، فإن العاقل المنصف ليس لديه مفر من الإقرار بها، لذلك جاء بعد ذكرها في القرآن الكريم قوله تعالى:
{ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } (القيامة 11-16)
فكل تحريف أو تزوير أو محاولة لطمس هذه الآية فاشل لا محالة، وكل من يحاول ذلك يعرف أنه يحاول ذلك عبثا ودون جدوى، حتى لو تعذَّر بالمعاذير، فهو يدرك في قرارة نفسه أنه لا سبيل لرفضها.
ولم يستطع المعارضون أمام هذه الآية إلا أن يقولوا أحيانا إن الحديث ضعيف! وهذه حجة واهية، فمعلوم أن التصحيح والتضعيف مسألة نسبية ظنية، والحديث إذا تضمَّن نبأً غيبيا ثم تحقق هذا النبأ فهذا يجعله صحيحا حتما وفقا للمنطق ولقواعد علم الحديث، لأن النبأ غيبٌ، والغيبُ لله، فلا يمكن أن يطّلِع أحدٌ على خبرٍ غيبيٍّ لم يُطْلعه الله تعالى عليه ثم يخبر عنه فيتحقق! وهذا ما استنكره الله تعالى في قوله: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (الطور: 42، القلم: 48). فتحقُّق نبأ بهذه الصورة وبهذه الأهمية لا يمكن أن يكون من باب التخريص والتخمين. كذلك وبما أن العلم الآن يتنبأ عن موعد الخسوف والكسوف بكل دقة، وكان هذا منذ وقت المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أيضا، فهذا لا يؤثر شيئا في قوة هذه النبوءة، لأنه لا يستطيع أحد أن يختار وقت ولادته وعمره ودعوته لتصادف هذا المواعيد.
أما القول بأن هنالك روايات أخرى عند الشيعة تذكر الخسوف والكسوف في شهر رمضان بأوصاف عجيبة؛ كأن يحدث الخسوف في منتصف الشهر القمري والخسوف في آخره بعكس المعتاد، أو أن يمتد الخسوف لأيام وهو لا يحدث إلا لدقائق أو ساعات قليلة، فهذا لا يضعف من هذا النبأ بل يسانده وإن لم يكن محتاجا إلى ذلك أصلا. فرغم أن روايات الشيعة لا تحظى بالموثوقية، ولم تُجمع بالاحتياط الشديد الذي قام به أهل السنة في علم الحديث، إلا أن هذه الروايات تؤكد الحدث وارتباطه ببعثة الإمام المهدي على كل حال، رغم ما فيها من أخطاء. وكما قلنا في البداية، فإن هذا النبأ نبأ قرآني في الأصل، وفصَّله الحديث الذي أورده الدارقطني في سننه، فهو ليس نبأ من الحديث فحسب. ثم مع ذلك فقد حدث طبقا لوصف الحديث تماما، مما يفيد أن جميع أركان قوة النبأ وتحققه مكتملة في هذه الآية، ولا سبيل لإنكارها مطلقا.
إن من فضل الله تعالى على الناس أن قد جعل هذه الآية الدامغة لتكون علامة واضحة على صدق المسيح الموعود والإمام المهدي عليه الصلاة والسلام يمكن أن تكون سببا لهداية الكثيرين من البسطاء أو ذوي القلوب الطاهرة دون الحاجة إلى كثير من البحث والتمحيص. أما الذين صرف الله قلوبهم، فرغم ما تحتويه هذه الآية الدامغة من وضوح وقوة فإنهم لن يروها وسيعرضون عنها، وصدق الله تعالى الذي يقول فيهم:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأَعراف 147)