لا يخفى عليكم أن العلماء الأقدمين قد اختلفوا في تعيين موضع ظهور المسيح الموعود حسب الروايات المختلفة المدونة في كتب الأحاديث؛ فقد جاء في رواية: ينـزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق (باب ذكر الدجال)، وفي رواية: بيت المقدس شرقي دمشق، وفي رواية: بمعسكر المسلمين.
وقد وفّق الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله بين هذه الروايات بقوله: “حديث نزول عيسى ببيت المقدس عند المصنف وهو أرجح ولا ينافيه سائر الروايات، لأن بيت المقدس وهو شرقي دمشق وهو معسكر المسلمين إذ ذاك.” (هامش على سنن ابن ماجة الجزء الثاني صفحة 510).
وكذلك قال الإمام ملا علي القاري بعد ذكر قول السيوطي ما نصه “قلت حديث نزوله ببيت المقدس عند ابن ماجة وهو عندي أرجح ولا ينافي سائر الروايات لأن بيت المقدس شرقي دمشق.” (مرقاة شرح مشكاة المصابيح)[1].
ولكن الحافظ ابن كثير يقول عن رواية نزول المسيح عند المنارة شرقي دمشق: هذا هو الأشهر في موضع نزوله (هامش على ابن ماجة).
فثبت من أقوال الأئمة الكبار أنه لم يكن ضروريًا أن يؤخذ من ألفاظ الحديث الذي ورد فيه عند المنارة البيضاء شرقي دمشق أن ينـزل المسيح الموعود في دمشق، بل كان المراد منه أن يظهر في موضع يكون شرقي دمشق.
وأما انتظار المشايخ وقولهم أنه ينـزل على المنارة الموجودة في الجامع الأموي، فهذه خرافة دخلت في الإسلام من النصارى، لأن في هذا المقام كانت كنيسة أولاً، ولم يكن أثر للجامع الأموي في وقت رسول الله ﷺ ولا توجد رواية بهذا المعنى. فالمسيح الموعود ظهر من قرية قاديان التابعة لولاية بنجاب وهي في شرق دمشق تمامًا، وأما بيت المقدس فهو ليس في شرقها بل واقع في الجهة الجنوبية الغربية من دمشق، وكذلك يثبت من بعض الأحاديث الأخرى أن ظهور المسيح الموعود يكون من البلاد الهندية، لأن رسول الله ﷺ قال عن مقام الدجال “بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق وأومأ بيده إلى المشرق” (صحيح مسلم الجزء الثاني صفحة 52 باب في خروج الدجال).
فلما ثبت أن الدجال يخرج من البلاد الواقعة في مشرق الحجاز ثبت كذلك أن ظهور المسيح الموعود الذي هو مأمورٌ بقتله بالحجة والبرهان وإصلاح ما يفسد الدجال من العبث بعقائد المسلمين، يكون أيضًا من البلاد المشرقية وهي البلاد الهندية. وظاهرٌ أن دمشق ليست في شرق الحجاز بل في شمالها ولكن قاديان التابعة لولاية بنجاب واقعةٌ في شرق الحجاز، كما هي شرقي دمشق أيضًا، ولا يخفى أن فتنة المبشرين المسيحيين عند ظهوره كانت بلغت مفاسدها منتهاها في البلاد الهندية، وكان قد تنصر من الطوائف الهندية خمسمائة ألف من البشر كما كتب القسيس هيكر مفتخرًا في كتابه. وكانت الفئة المبشرة المسيحية تنشر كتبًا مشحونةً بالاعتراضات على الدين الإسلامي. وإن فتنتها أعظم بلاءٍ من جميع البلايا التي ابتليت بها الأمة الإسلامية منذ نشأتها، فكان من جرائها ما ذكر المسيح الموعود في خطبة عربية ألقاها صبيحة عيد الأضحى سنة 1317 هجرية فقال عن المسلمين ما يأتي:
“ومنهم قومٌ مالوا إلى الفلسفة التي أشاعوها وفي أمر الدين يتساهلون. وكم من كلم تخرج من أفواههم ويحقرون دين الله ولا يبالون. ومنهم قومٌ أكملوا أمر الضلالة وارتدّوا عن الإسلام وعادوه عن جهالةٍ، وكتبوا كتبًا في الرد عليه وشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالوا على عرضه، وتلك أفواجٌ في هذه البلاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون” (صفحة 108).
ولذلك اقتضت حكمة الله أن يظهر المسيح الموعود الذي هو كالبدر لشمس العالم الروحاني أي محمد ﷺ من الشرق، كما يطلع البدر الظاهر من المشرق، وأما ظهوره من شرق دمشق فإشارةٌ إلى أنه يقتل تلك الوساوس التي كان أول ما زُرع بذرها في أرض دمشق بيد بولس كما هو مذكورٌ في أعمال الرسل الإصحاح التاسع. فبشر رسول الله ﷺ أمته بأن فتنة ألوهية المسيح التي كانت دمشق منبعها ومبدأها تُجتاح وتزول من وجه الأرض كلها بواسطة البراهين النيرة والأنوار السماوية التي تكون مع المسيح الموعود الذي يظهر من شرقها.
ثانيًا بما أن غرض بعثته إظهار الدين الإسلامي على الأديان كلها بالبراهين لذلك كان ضروريًا أن يظهر في الهند، لأن هذا الغرض لا يتم إلا أن يبعث المسيح الموعود في موضعٍ يكون فيه المسلمون بكثرةٍ وتكون سائر الأديان الأخرى موجودةً والحرية الدينية تكون حاصلةً بكل معنى الكلمة. وغير خافٍ أن هذه الشروط الثلاثة ما وجدت مجتمعةً في بلدٍ من البلاد سوى البلاد الهندية لذلك صار ظهوره منها”[2].
قد قلنا فيما سبق أن الأحاديث الواردة عن خروج الدجال ونزول المسيح بن مريم وعلامات ظهوره إنما هي كشوف ورؤى رسول الله ﷺ التي تشتمل على أنباءٍ غيبيةٍ واستعاراتٍ ليست بمحمولةٍ على ظاهرها، وقد وقع أكثرها من حيث التعبير كما بينا، ولا تعلم حقيقة الأخبار الغيبية إلا بعد وقوعها. ولقائل أن يقول إن تأويل الأنباء المتعلقة بالدجال ونزول المسيح وأماراته مخالفٌ لإجماع الأمة.
فالجواب أنه لا يفيد الإجماع في الأنباء الغيبية. ومن الذين ذكروا ذلك العلّامة الشيخ محب الله بن عبد الشكور: “أما في المستقبلات كأشراط الساعة وأمور الاخرة فلا (إجماع) عند الحنفية لأن الغيب لا مدخل فيه للاجتهاد.” (مُسْلَّم الثبوت مع شرح صفحة 521، الأصل الثالث، الإجماع) لأن الأمور التي هي من قبيل الغيب والتي لا تزال رهين المستقبل لا يمكن لإنسانٍ أن يعرف كيفية وقوعها قبل ظهورها. فكيف يصح الإجماع عنها؟ (ومعلومٌ أن الله ﷻ قد يوحي إلى أنبيائه ورسله في حلل الاستعارات والمجازات والتمثيلات، ونظائره كثيرةٌ في وحي خير الرسل ﷺ منها ما جاء في حديث أنس بن مالك ؓ قال قال رسول الله ﷺ :
“رأيت ذات ليلةٍ فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من ابن طاب فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة، وإن ديننا قد طاب. – صحيح مسلم باب تأويل الرؤيا”.
ومنها ما جاء في حديث أبي موسى عن النبي ﷺ قال: “رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرضٍ بها نخلٌ فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب. ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أُصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين”. (صحيح مسلم باب تأويل الرؤيا، وصحيح البخاري الجزء الثالث. كتاب المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد).
ومنها ما روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي ﷺ قلن للنبي صلى الله عليه وسلم أيّنا أسرع بك لحوقًا؟ قال أطولكن يدًا. فأخذوا قصبةً يذرعونها فكانت سودة أطوَلَهن يدًا. فعلمنا بوفاة زينب إنما كانت طول يدها الصدقة وكانت أسرعنا لحوقًا به وكانت تحب الصدقة (صحيح البخاري باب الرؤيا في الصدقة). انظروا كيف أخطأن إذ حملن طول اليد على الطول الظاهري؟ فلما توفيت زينب رضي الله عنها أولا عرفن بأن المراد من طول اليد السخاء والصدقة لا الطول الظاهر (راجع فتح الباري الجزء الثالث باب صدقة السر).
ومنها: “قال رسول الله ﷺ بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أطرافي فأعطيت عمر بن الخطاب، فقال مَن حوله فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال العلم (صحيح البخاري كتاب الحيل، باب التعبير).
ومنها “بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما. فأوحي إلي في المنام أن انفخهما! فنفختهما، فطارا. فأوَّلتهما كذابَّينِ يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة (البخاري الجزء الثالث صفحة 49 كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة).
ومن هذا القبيل رؤيا إبراهيم ؏ المذكورة في القرآن المجيد {فَلَما بَلَغَ مَعَهُ السعْيَ قَالَ يَا بُنَي إِني أَرَى فِي الْمَنَامِ أَني أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصابِرِينَ، فَلَما أَسْلَمَا وَتَلهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبراهيم قَدْ صَدقْتَ الرؤْيَا إِنا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (سورة الصافات).. أي أن الله تعالى لما أراد أن يتوب عليه ويزيده قربًا ويجعله خليله المجتبى أراه في الرؤيا بطريق التمثل كأنه يذبح ولده العزيز قربانًا لله الأعلى. ما كان تأويله إلا ذبح الكبش لا ذبح الولد! انظر كيف أوَّل رؤياه؟ فإنه حمل هذه الواقعة أولا على الظاهر وأراد أن يذبح ابنه لكن الله تعالى لما فهَّمه تأويل هذه الرؤيا ترك الابن. فاعلم أن ذبح الابن في حلم إبراهيم ؏ ما كان إلا بسبيل التجوُّز والاستعارة ليصطفيه الله رحمة من عنده ويري الخلق إخلاصه وطاعته للمولى وليبتلي إبراهيم في صدقه ووفائه وانقياده لربه، فما لبث إبراهيم إلا تل الولد العزيز للجبين ليذبحه. كذلك رؤيا يوسف ؏ {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِني رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (سورة يوسف). وأنه ما علم تأويل رؤياه حتى أنه رأى أن أبويه وأخوته خروا له سجدًا! فقال {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبي حَقا} (سورة يوسف). فثبت من ههنا أن وحي الأنبياء قد يكون من نوع المجاز والاستعارة.
هذه سنة الله مضت في الأوَّلين يبتلي بها عباده! وليست من قبيل الظلم بل من جميل إحسانات الله على عباده الصالحين، لأنهم يُبتلون عند الأنباء النظرية الدقيقة بابتلاء دقيق من ربهم ثم يعرفون بنور عقلهم ولطافة فراستهم الصراط المستقيم، فيتحقق لهم الأجر عند ربهم ويرفعهم الله درجات ويميزهم من غيرهم ويلحقهم بالواصلين. ولو كان الخبر مشتملاً على انكشاف تام وعلامات بديهة واضحة لجاوز الأمر من حدّ الإيمان، ولأقر به المفسد المعاند كما أقر به المؤمن المطيع، وما بقي على وجه الأرض أحد من المنكرين. ولضاع الثواب وبطل العمل! فتفكر فإن الله يهدي المتفكرين. ومن كان عالما صالحًا مجتهدًا في طلب الحق ينوِّر الله قلبه ويريه طريقه ويعطيه فراسة من عنده وإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
[2] مأخوذٌ عن “جوهر الكلام” تأليف الأستاذ الفاضل جلال الدين شمس صفحة من 26 إلى 28.
المزيد هنا: أين المنارة البيضاء التي سينزل عندها المسيح الموعود التي ذكرت في الأحاديث؟