ما حقيقة حديث لا غيبة لفاسق؟
هذا الحديث ضعيف في مجموع طرقه وأسانيده بل لا يُنسب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حديثٌ بهذا اللفظ وإنما ينسب لأحد التابعين، أما معناه فصحيح أقر به أهل العلم، ومع أن المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام لَمْ يتعرض إلى صحة وضعف سند هذا الحديث إلا أن حضرته أخذَ به كحديث صحيح المعنى عند أولي الألباب، وهو كذلك بالفعل، حيث يقول حضرته عَلَيهِ السَلام بأن الفاسق المجاهر بالفجور لا غيبة لذكر مساوئه لأنه هو الذي يعلن عنها بنفسه، فذكر أحدهم لها إنما هو تحصيل حاصل وذكر ما هو معلن ويعرفه الجميع، فيقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:
“هذا ما أردنا أن نکتب شیئا من مفاسد هذا الزمان. ونزّهْنا کتابنا هذا عن إزراء الأخیار الذین هم علی دین من الأدیان، ونعوذ باللّٰہ من هتک العلماء الصالحین، وقدح الشرفاء المہذّبین، سواء کانوا من المسلمین أو المسیحیین أو الآریۃ، بل لا نذکر مِن سفہاء هذہ الأقوام إلا الذین اشتہروا فی فضول الہَذَر والإعلان بالسيئة. والذي کان هو نقيَُ العِرض عفیف اللسان، فلا نذکرہ إلا بالخیر ونُکرمہ ونُعزّہ ونحبّہ کالإخوان، ونسوّي فیہ حقوق هذہ الأقوام الثلاثۃ، ونبسط لہم جناح التحنن والرحمۃ، ولا نعیب هؤلاء الکرام تصریحًا ولا تعریضًا رعایۃً للأدب، فإن في المَعاریض لمندوحۃً عن الکذب. ولا نغتاب المستورین قَطّ، ولا نأکل أبدًا لحم العبیط من غیر العارضۃ، الذین عرضوا أنفسہم لکل نوع السیئات وأعلنوها علی رؤوس الشاهدین والشاهدات، ولا یزالون یقعون في أعراض الناس، ویجعلون دینہم تُرْسًا عند إظہار هذہ الأدناس. وتجد في کل قوم کثیراً من هذہ الفِرقۃ، فإن کنتَ لا تعرف فاستعرِض الأقوام کلہم، وسَلْ مَن شئت عن هذہ الحقیقۃ. وإنہم مِن عُرْض الناس وعامّتہم، لیس لہم قدرٌ في أعین شرفاء الأقوام، یسبّون الأکابر ویُکثِرون اللَغَطَ بوهم من الأوهام. تراهم باکین تحت ذلّۃ وخصاصۃ، ویکون مدار مذهبہم حطامَہم فیبدّلونہ بہ ولو بقُصاصۃ. فالحاصل أنا ما ذمّمنا في هذہ الرسالۃ، إلا الذین یجاهرون بمعاصیہم ویجترؤون کالبغایا علی أنواع الخباثۃ، ویُظہِرون عیوبہم وعاداتِہم الشنیعۃ في وسط الأسواق، ویکشفون ما ستر اللّٰہُ علیہم ویبلّغون خفایا عیوبہم إلی الآفاق. فلا غِیبۃَ لفاسقٍ مجاهرٍ عند العاقلین. فإنہم خرّبوا بیوتہم بأیدیہم کالمجانین. وکلّ ما قصصنا علی الخَلق مِن قصصِ أشرار هذہ الزمان في الکتاب، فلا نعني بہا إلّا نفوس هذہ الأحزاب. وإنّا بَراءٌ مِّن تہمۃ ذمّ المستورین القلیلین، ونُفوّضہم إلی عالِم العالمین، وإنما نذمّ الذین یفعلون السیئات معلنین.” (الخزائن الروحانية، المجلد 16، لُجَّۃ النُّور، ص 409-411)
قول العلماء في حديث لا غيبة لفاسق
وهو قول أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ» … أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذَلِكَ الْفَاجِرِ؟ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ»، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ مِثْلَ: الظُّلْمِ، وَالْفَوَاحِشِ، وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ السُّنَّةَ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيع فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.” (إقامة الدليل على إبطال التحليل، ابن تيمية 3/383)
وهكذا قال أيضاً الإمام الغزالي رحمه الله وساق بعض الأحاديث الضعيفة واكتفى بصحة المعنى:
“أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «أتَرْغَبُون عَن ذِكْرِ الفَاجر؟ اهتِكُوه حتى يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يَحْذَره الناس» … وكانوا يقولون: ثَلاثة لا غِيبَة لهم، الإمام الجائر والمُبْتدع والمُجَاهِر بِفِسْقِهِ … كالمُخَنَّث وصاحب الماخور والمُجاهر بِشُرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممَّن يَتَظاهر به بحيث لا يَسْتَنْكِف من أن يُذْكَر له، ولا يكره أن يُذْكَرَ به، فَإِذَا ذَكَرْتَ فيه ما يَتَظَاهَرُ بِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْك، قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَن ألْقى جِلْبَابَ الحَيَاءِ عَنْ وَجْهِهِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ» … وقال عمر رضي الله عنه: [ليس لفاجر حُرمة]، وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر، إذِ المُسْتتر لا بد من مراعاة حُرمته، وقال الحسن: [ثلاثةٌ لا غِيبَة لهم، صاحب الهوى والفاسق المُعلِن بفسقه والإمام الجائر]، فهؤلاء الثلاثة يَجْمعُهم أنَّهم يَتَظاهرون به، وَرُبَّما يَتَفاخرون به، فكَيْف يكرهون ذلك وهم يَقصدون إظهاره؟” (مختصر من إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي، ج 3، ص 132)
معنى الحديث صحيح رغم ضعف الروايات
وهكذا وبالرغم من ضعف الروايات الواردة في هذا الباب إلا أن المعنى صحيح وبديهي، إذ أن المقصود بالفاسق الذي لا غيبة له هو المجاهر بالمعاصي المعلن عنها دون تردد، فكيف يكون لذكر أفعاله هذه غيبة وهي معلنة؟ ولهذا قال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في النص أعلاه:
“فالحاصل أنا ما ذمّمنا في هذہ الرسالۃ، إلا الذین یجاهرون بمعاصیہم ویجترؤون کالبغایا علی أنواع الخباثۃ، ویُظہِرون عیوبہم وعاداتِہم الشنیعۃ في وسط الأسواق، ویکشفون ما ستر اللّٰہُ علیہم ویبلّغون خفایا عیوبہم إلی الآفاق. فلا غِیبۃَ لفاسقٍ مجاهرٍ عند العاقلین. فإنہم خرّبوا بیوتہم بأیدیہم کالمجانین. وکلّ ما قصصنا علی الخَلق مِن قصصِ أشرار هذہ الزمان في الکتاب، فلا نعني بہا إلّا نفوس هذہ الأحزاب. وإنّا بَراءٌ مِّن تہمۃ ذمّ المستورین القلیلین، ونُفوّضہم إلی عالِم العالمین، وإنما نذمّ الذین یفعلون السیئات معلنین.” أهـ
أما في الخوض في خصوصيات الناس دون مجاهرة حرام
أما الحكم على الناس والخوض في خصوصياتهم وذِكر شؤونهم من دون مجاهرة منهم بالمعاصي وإعلان الفساد، فهو بهتان عظيم وانتهاك لحرمات الله تعالى وحقوق العباد لا يقول به أحد على الإطلاق. نسأل الله تعالى العافية، اللّهُمّ آمين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ