ما صحة حديث سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ؟
الحديث كما رواه البخاري رحمه الله:
“حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، أو كأنّ رؤوس نخلها رؤوس الشّياطين، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله، فكرهت أن أثوّر على النّاس فيه شرًّا، فأمر بها فدفنت.” (صحيح البخاري ج 10 ص 221)
السحر هنا هو المرض، وقد تزامن وفق الرواية مع إطلاق إشاعة سحر النبي ﷺ من قبل اليهود فأراد ﷺ لما سمع الرجلين يذكران السحر أن يبطل الفكرة بهدوء دون إثارة فذهب ﷺ إلى البئر التي فيها السحر واستخرج صحابته ؓ الجسم الشمعي أو أيا كان الشيء الذي قد يكون حاملاً للمرض ثم أمر النبي ﷺ بدفن البئر كي لا تكون فتنة ويظن الناس أن البئر ملعونة وينتشر هذا الفكر المتخلف وهذا ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها أن الله تعالى قد عافاه ﷺ. فهو أخذ بالاسباب إلى جانب الدعاء. وهذا حرص النبي ﷺ على عدم ترك وسيلة في سبيل العلاج أو تحقيق الرؤيا وهو مثال ابراهيم عَلَيهِ السَلام الذي ظن الله تعالى يأمره بذبح ولده ومع أن الأمر مؤلم قاس ألا أن ابراهيم أراد بالفعل تحقيق الرؤيا حرفياً إذا كان هو أمر الله تعالى فعلا. وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في “الفتح” شارحاً الحديث أعلاه:
“قوله: [وهو عندي لكنه دعا ودعا] كذا وقع … ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: [فدعا ثم دعا ثم دعا]، وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثًا، وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد: [فرأيته يدعو]، قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره، والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك. قلت: سلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففى أول الأمر فوض وسلّم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية فى الكمال. … قوله: [فأتاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه]. وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد [فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر]، وعنده في مرسل عمر بن الحكم: [فدعا جبير بن إياس الزرقي وهو ممن شهد بدرًا فدلّه على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه]، قال: ويقال: الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضًا [أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله ألا يهور البئر؟] فيمكن تفسير من أبْهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجههم أولاً ثم توجه فشاهدها بنفسه. قوله: [فجاء فقال: يا عائشة] وفي رواية وهيب [فلما رجع فقال: يا عائشة] ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: [فذهب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال]، وفي رواية عمرة عن عائشة [فنزل رجل فاستخرجه]، وفيه من الزيادة: [أنه وجد في الطلعة تمثالاً من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة فنزل جبريل بالمعوذتين فكلما قرأ اية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة]، وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه. وفى حديث زيد بن أرقم الذى أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره [فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وفيه: فأمر أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال]، وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلة [فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم]. قوله: [كأن ماءها] في رواية ابن نمير: [والله لكأن ماءها]، أي: البئر [نقاعة الحناء] بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد، أي أن لون ماء البئر لون الماء الذى ينقع فيه الحناء، قال ابن التين: يعني أحمر، وقال الداودي: المراد الماء الذى يكون من غسالة الإناء الذى تعجن فيه الحناء.” (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج 10 ص 227)
إذن السحر عند أهل العلم هو المرض، وليس السحر الذي يظنه الناس، فلا يفلح الساحر حيث أتى كما يقول القرآن الكريم. أما هذا الحديث فصحيح الإسناد وفق قاعدة النقل التي وضعها أهل الحديث، أي لا نتحدث هنا عن متن الحديث/النص إذ قد تُنقَل الرواية عبر سلسلة من الرواة بغضّ النظر عن أصلها من ناحية دقة الحدث واللفظ دون إغفال إمكان الخطأ أو الدسّ من أحد الرواة سواء ظهر في السلسة أو من أُرسَلت عنه الرواية دون مشافهة أو سماع ومثاله هشام بن عروة والأعمش وهما رواة حديث السحر بطريقيه وكلاهما مُتكلَّمٌ في إرساله للحديث فقد قال ابن أبي شيبة عن هشام: “هشام بن عروة ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر عليه ذلك أهل بلده، فإنه كان لا يحدث عن أبيه إلا ما سمعه منه، ثم تسهل فكان يرسل عن أبيه“، ألا إن هذا الحديث بنفسه ينفي السحر المتبادر إلى الاذهان من الأصل، لأن ملخص القول هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَرِضَ كما يمرض جميع البشر فأشاع المغرضون من اليهود بأنه سُحر على يد اليهودي، فأراد النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يحطم هذا الفهم ولكن دون إثارة الناس، فأمر بدفن البئر. وهذا أخذٌ بالأسباب والدعاء لا أكثر.
يقول ابن القيم رحمه الله:
«السحر الذي أصابه صلى الله عليه وسلم كان مرضاً من الأمراض عارضاً شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما؛ فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء؛ فقد أغمي عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه، وجُحِشَ شِقُّهُ، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته، ونيل كرامته، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به، من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس بِبدْعٍ أن يُبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلي بالذي رماه فشجه، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك؛ بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله». (بدائع الفوائد 2/192. وانظر: زاد المعاد 4/124)
والمرض إنما ينشأ بسبب طعام فاسد أو نحو ذلك وليس من دمية شمعية. الموضوع ببساطة هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي شفي من السحر/المرض أراد تلقين الناس درساً بهدوء ودون إثارة وذلك بأن أمر بدفن البئر الملعونة الغامضة والمخيفة التي طالما سحرت الناس لكي يفهم الناس أنها لا تضر ولا تنفع. هذا أخذ بالأسباب والدعاء في الوقت نفسه.
وقال ابن القيم أيضا:
“وهذا المرض -السحر- لا ينافي حماية الله لأنبيائه، فإنه سبحانه وتعالى كما يحميهم ويصونهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم، وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء فصبروا، ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة فيسحقهم بسبب بغيهم، وعداوتهم، فيعجل تطهير الأرض منهم، فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء أقوامهم.” (بدائع الفوائد، ص 226)
وقال القاضي عياض رحمه الله:
“وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ؟ وكيف جاز عليه وهو معصوم ؟ فاعلم -وفقنا الله وإياك- أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد نزه الله الشرع والنبي صلى الله عليه وسلم عما يدخل في أمره لبسا، وإنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، ويجوز عليه كأنواع المرض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته، وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخله في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروءه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضل لأجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان … ولم يأت في خبرٍ أنه نُقل عنه في ذلك قولٌ بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات.” (الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ للقاضي عياض 2/865. 2/113)
وقال المازري رحمه الله:
“قال أبو الجكني اليوسفي رحمه الله: أما وقوع المرض للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب السحر فلا يجر خللا لمنصب النبوة لأن المرض الذي لا نقص فيه في الدنيا يقع للأنبياء ويزيد في درجاتهم في الآخرة عليهم الصلاة والسلام وحينئذ فإذا خيل له بسبب مرض السحر أنه يفعل شيئا من أمور الدنيا وهو لم يفعله ثم زال ذلك عنه بالكلية بسبب اطلاع الله تعالى له على مكان السحر، وإخراجه إياه من محله ودفنه فلا نقص يلحق الرسالة من هذا كله لأنه مرض كسائر الأمراض. لا تسلط له على عقله بل هو خاص بظاهر جسده كبصره حيث صار يخيل إليه تارة فعل الشيء من ملامسة بعض أزواجه وهو لم يفعله، وهذا في زمن المرض لا يضر.” (زاد المسلم، 4 / 22 )
ومن المعاصرين الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر حيث يقول:
“وقد تحدث العلماء عن الحديث الذي ورد في البخاري ومسلم أن رجلاً من بني زريق حليف اليهود اسمه لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فأثبته جماعة وقالوا: ذلك جائز، فهو مرض من الأمراض التي تصيب الإنسان، وهو لم يؤثر عليه من ناحية تبليغ الدعوة والرسالة والتزام أحكامها، وأولوا قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} (سورة المائدة – الآية 67) بعصمة القلب والإيمان دون الجسد، فقد شج وجهه وكسرت رباعيته، وآذاه جماعة من قريش، والجصاص من أئمة الحنفية قد نفى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، على الرغم من صحة الحديث، وذلك استناداً إلى الآية ولعدم فتح الباب للطعن فيما بلغه من الرسالة.” (أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام ص 315)
فالسحر بثبات الحديث هو مرض لا غير !
كما أن هنالك أقوال مماثلة للسندي والجصاص والقاسمي والرازي وغيرهم من العلماء المتقدمين كلها تدل عندهم على أن السحر هو مجرد مرض.
لقد قدّمنا الحديث واتفاق المفسرين والعلماء على كون السحر المذكور في الحديث لم يكن له علاقة البتة بخرافة القوى السحرية الخارقة التي يؤثر بها المشعوذون على البشر بل هو مجرد مرض، وقد كان سبب تقديمنا لذلك كُلّه هو للبيان بأن الأخذ بالأسباب للعلاج من عارض أو سحر/مرض إنما هو أمر طبيعي للبشر وليس في ذلك أي مَطعنٍ بنبوة المرسلين عليهم السَلام كما يظن خصوم الإسلام، وهذا باتفاق جمهور السلف كما ثبت. فالتداوي والعلاج من المرض سُنَّة تشمل الجميع. فقد ورد كذلك عن المسيح ؑ -سواء اعتبر الأخوة النصارى ذلك ناسوتا أو لاهوت- بأنه أي المسيح احتاج إلى بعض الأدوية والمراهم بعد حادثة الصلب كما يلي:
“وَلَمَّا انْتَهَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ طُيُوباً عِطْرِيَّةً لِيَأْتِينَ وَيَدْهُنَّهُ.” (مرقس 16)
“وَجَاءَ أَيْضًا نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَنًا.” (يوحنا 19: 39)
وهنالك أمثلة عديدة على حاجة مؤسسي الأديان والجماعات والتيارات الفكرية إلى الدواء والعلاج دون أن يضر بصدقهم عند أتباعهم.
أما المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فقد ركَّزَ حضرته على الجوانب الأهم في التعامل مع الحديث بوجه عام وهي ذاكرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ووعيه لما يفعل، فبيّن عَلَيهِ السَلام أن الحديث يحتاج إلى التدبر والفهم ولكن بشرط أن لا يمس بوعي النبي وإدراكه وذاكرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وما أدى إليه هذا السحر كما يقال في آخر أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الدنيا، حيث قال حضرته عندما ذُكر أمامه هذا الحديث:
“الاعتقاد بكل ما جاء في البخاري ومسلم بغضّ الطرف عن كل شيء ينافي مسلكنا. ولا يقبل العقل أيضا أنَّ ينطلي السحر على نبي عظيم الشان مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. لا يصح بحال من الأحوال القول بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقدَ ذاكرته، والعياذ بالله، بتأثير السحر أو حدث كذا وكذا. يبدو أن أحد الخبثاء قد افترى وخلط هذه الأمور من عنده. مع أننا نحترم الأحاديث، ولكن الحديث الذي يناقض القرآن الكريم ويناقض عصمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لا نستطيع أن نقبله. لقد جُمِعَت الأحاديث في تلك الفترة، وقد دوّنوها بحذر شديد، ولكنهم ما استطاعوا أن يأخذوا الحيطة الكاملة بعين الاعتبار. كانت تلك الفترة لجمع الأحاديث، أما الآن فهي فترة التأمل والتدبر. إنَّ جمع آثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه ثوابٌ عظيم ولكن المبدأ العام هو أن الذين يجمعونها لا يستطيعون أن يتأملوا فيها جيدا. فلكل واحد الخيار أن يتأمل ويتدبر جيدا وليقبل ما هو جدير بالقبول ويترك ما هو جدير بالترك.” (الحكم، العدد: 10/11/1907م، الصفحة:8)
فهي العصمة الثابتة في كتاب لله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقد تحدّثَ المسيح الموعود ؑ شارحاً قوله تعالى {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} كما يلي:
“لقد قال الله تعالى عن نبينا ﷺ {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. فمع أن الناس آذوه ﷺ بشتى الطرق وأخرجوه من وطنه وكسروا أسنانه وأدموا إصبعه وجبينه بالسيف، ولكن مع ذلك لا مجال للاعتراض على هذه النبوءة أيضا لأن العلة الغائية لصولات الكفار وهدفهم الحقيقي لم يكن جرح النبي ﷺ أو كسر أسنانه، بل كان المقصود قتله. وقد حماه الله تعالى من هدف الكفار الحقيقي.“
“إن عدم قتل النبي ﷺ على يد أحد معجزة عظيمة ودليل على صدق القرآن الكريم لأنه قد وردت في القرآن الكريم نبوءة: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. كذلك وردت في الكتب السابقة أيضا نبوءة أن نبي آخر الزمان لن يُقتَل بيد أحد.” (بدر، مجلد 4، رقم 31، عدد 14/9/1905م ص2)
فوفق هذه القاعدة الذهبية التي بيّنها المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام عند التدبّر في الأحاديث أي عصمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الثابتة في القرآن الكريم فقد استدلت الجماعة الإسلامية الأحمدية على بطلان المتن الظاهري لهذا الحديث ليس من حيث السند -وإن تحدثنا عن عروة والأعمش- ولكن من حيث نص الحديث نفسه كما يلي:
- قوله الله تعالى عن المشركين: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، وقد رد الله قولهم وأبطله، فقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}. ولهذا يجب أن يصبح اعتقادنا راسخاً أن القرآن الكريم جاء بنفي السحر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حيث نسب القول بإثباته إلى الظالمين ووبخهم على ذلك.
- سورة الفلق مكّيّة، كما في قول عطاء وقتادة وجابر، وما يُزعم من السحر إنما وقع في المدينة. والمعنى أن ما قيل إن السورة نزلت بشأنه لا يمكن أن يصح، فالسورة نزلت قبل ما قيل إنه سبب نزولها بسنوات. حيث إن قصة السحر حدثت في المدينة باتفاق القائلين بسحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وهذا يرد الحديث متنا أيضا.
- تتعارض هذه الرواية مع قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. فلا تتفق العصمة الثابتة في القرآن الكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مع تمكّن يهودي من التأثير على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لدرجة أنه فقد وعيه وإدراكه والعياذ بالله.
- لو صحّت هذه الرواية، لكانت مثار جدل ونقاش وتساؤلات لا حد لها، ولقال كثير من المنافقين: ما بال نبيكم بهذا الحال، ولوجد اليهود شبهاتٍ تفرحهم مع العلم أن السحر وصف بأنه من أشد ما يكون من السحر، ولقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مثلاً: دعني أضرب عنق هذا اليهودي الذي سحرك هذه الأشهر كلها، ولحدثت أمور كثيرة متعلقة بهذا الحدث الغريب والمتعلق بنبي الأمة، وحاكمها، وقائد جيشها، والذي يَتْلُو على الناس ما يتنـزّل من القرآن الكريم، بل لصار القرآن نفسه محل شكٍّ وتشكيك عند اليهود وغيرهم آنذاك. لكن شيئا من هذا لم يحدث، فلم يروِ هذه الرواية سنداً سوى هشام الذي كان يُرسل عن أبيه، والأعمش الذي يدلّس عن يزيد شبه المجهول، فضلاً عن ردّ الرواية متنا.
- قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير … إلا كانت له حرزًا من الشيطان.” فهذا الحديث يـردَّ الرواية السابقة إذ يعني أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم والعياذ بالله نسي ما قاله حول الحرز من السحر ! أما قلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فهو: {مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} دوماً بشهادة القرآن.
وفق قاعدة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، مَن أرادَ إنكار هذه الرواية كون ظاهرها يخالف القرآن الكريم فله ذلك كما قال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، والذي يريد التدبّر والبحث ولم يجد في هذه الرواية ما يخالف القرآن الكريم فله ذلك كما قال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام. وبهذا تزول كل شبهة يثيرها أعداء الإسلام حول هذه الرواية الواردة في كتب الحديث بفضل الله تعالى الذي أرسل المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام المدافع الحقيقي عن سيده رسول الله مُحَمَّد المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
فتبارك من علَّمَ وتََعلَّم
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ