يقول المُصْلِح المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
“لقد كتب الخليفة الأول للمسيح الموعود عليه السلام أن الله تعالى قد أقسم بالتين والزيتون لأنهما يُستعملان غذاءً ودواء أيضًا، فتارةً يصف الطبيب للمريض تينًا وتارةً أخرى زيتونًا، ومفهوم الآية أن الله تعالى قد وصف للناس وصفةَ “طور سيناء” في زمن، وقد وصف وصفة البلد الأمين في هذا الزمن. (تلخيص مِن ‘حقائق الفرقان’، المجلد الخامس)
إذن، فهذه الآية مثال على الأسلوب البلاغي الذي يسمى اللَّفّ والنشر، فالتين إشارةٌ إلى أمة بني إسرائيل، والزيتون إشارةٌ إلى الذين ينتمون إلى البلد الأمين. … قد ورد في دروس حضرته رضي الله عنه المطبوعة أن الله تعالى قد قدّم التين والزيتون شهادةً لأنهما يُستعملان دواءً علاوة على الغذاء، فإن الطبيب يصف التين للمريض حينا، وأحيانًا يغير هذه الوصفة فيأمره بتناول الزيتون إذا رآه مفيدًا له. مما يعني أن الخليفة الأول رضي الله عنه قد ذكر معنًى إضافيًّا، وهو كما أن الطبيب يصف للمريض الزيتون بدل التين، كذلك فلا اعتراض على الله تعالى إذا كان قد استبدل الآن وصفة الزيتون بالتين؟ إن الله حكيم ينزل من السماء علاج المرض بحسب حالة المرضى دائما، فعندما كان الناس بحاجة إلى وصفة التين أنزل التينَ، وحين احتاجوا إلى وصفة الزيتون أنزل الزيتون، وهذا التغيير ليس موضع اعتراض، بل هو دليل على حكمته سبحانه وتعالى وبأنه لا يفعل إلا ما هو نافع وصالح للعباد.
لقد سمعتُ من الخليفة الأول رضي الله عنه أن التين والزيتون إشارةٌ إلى المسيح عليه السلام، والطور إلى موسى عليه السلام، والبلد الأمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا يعني أنه قد أيد المعنى الذي ذكره ابن كثير.
قد تبيّنَ من المعاني التي ذكرها المفسرون السابقون أن طبائع العلماء قد مالت من البداية بشدةٍ إلى اعتبار التين والزيتون استعارةً. لا شك أن بعضهم قالوا أن التين والزيتون هنا ماديان، ولكن معظمهم اعتبروهما مجازًا واستعارةً وذكروا لهما معاني مبتكرة، فاعتبرهما بعضهم إشارةً إلى بيت المقدس، وبعضهم إلى فلسطين، وبعضهم إلى المسجد الأقصى ومسجد نوح.
لا شك أن هذا الأسلوب تحكُّمٌ وتعنُّتٌ يفتح بابًا واسعًا للتأويلات البعيدة، ولكن فيما يتعلق بقول البعض إن هناك حذف مضافٍ، فلا يمكن أن يُتَّهموا باتخاذ موقف غير معقول؛ إذ لم يجانبوا الصواب، لأن من قواعد العربية حذف المضاف والاكتفاء بذكر المضاف إليه. فما الحرج إذا قلنا إن المضاف هنا محذوف؟ فقد ورد في القرآن أن إخوة يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (يوسف:83). مع أن الجميع يعرف أن القرية أو العير لا تتكلم. إن كلامهما مستحيل وغير مقبول عقليا، ولكن القرآن يقول إنهم قالوا لأبيهم اسألِ القرية والعير! فتبينَ من ذلك أنهم يعنون: اسألْ أهل القرية وأهل العير. وهناك أمثلة كثيرة أخرى على حذف المضاف في القرآن، غير أنه لا بد من قرائن قوية في مثل هذه الاستعمالات، أما إذا فسرناها بدون قرائن قوية اختلط الحابل بالنابل والمعقول بغير المعقول. والقرينة الواضحة في قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} هي أن القرية أو العير لا تتكلم، فما دام هذا محالا فثبت أنه ليس المراد من سؤال القرية أو العير إلا سؤال أهل القرية وأهل العير، فإذا سألهم اتضحت عليه الحقيقة. كذلك إذا كان البعض قد قال في تفسير قوله تعالى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} أن المراد بهما المناطق التي يكثر فيها التين والزيتون (فتح البيان)، فلا غرابة في ذلك ولا حرج، إذ لا بد للقرآن من استخدام التعابير العربية والأسلوب العربي، وما دام حذف المضاف هو من قواعد العربية، فلا مانع من أن يستخدم القرآن هذا الأسلوب.
أما ما هي القرينة القوية هنا، فالجواب أنها كلماتُ {طُورِ سينينَ} و {وهذا البلدِ الأمينِ}، إذ الثابت من القرآن أن الطور ومكة مكانان نالا التكريم بسبب نبيين؛ فما دام الأمر كذلك فإن العقل يهدينا أيضًا إلى أن التين والزيتون -وقد عطف عليهما الطور والبلد الأمين- إشارةٌ إلى مكانٍ أو شيءٍ ذي علاقة بنبي، ولذلك ذكرهما الله تعالى آيةً ودليلاً على قدرته وعظمته، كما هو الطور ومكة.
أما الجواب الذي ذكره ابن كثير في الرد على السؤال القائل: لماذا أشير إلى عيسى عليه السلام هنا أولاً؟ فلا شك أنه جواب لطيف يدل على دقة نظره. … ولا يسع أحدًا أن ينكر أن المعنى الذي ذكره الخليفة الأول رضي الله عنه لطيف جدا .. أي أن أُمّةً شُبِّهت هنا بالتين وأخرى بالزيتون، حيث بين الله تعالى أنه وَصَفَ الوَصْفة التينية في وقت والوَصْفة الزيتونية في وقت آخر، لأنه طبيب حاذق، والطبيب الحاذق يغيّر العلاج بحسب حالة المريض.
وأقول إن هناك مفهومًا إضافيًّا، وهو أن التين حلوُ المذاق ولكنه يفسد بسرعة، أما الزيتون فلا ينفع كإدام فحسب، بل إن زيته يُستعمل بكثرة في الطعام ويوضع في المخللات لكي تبقى صالحة فترة طويلة. هذا يعني أن التين لا يبقى على حاله طويلا، أما الزيتون فهو يحافظ على الأطعمة الأخرى أيضًا، وبهذين المثالين قد أشار الله تعالى إلى أن التعليم الموسوي عرضةٌ للفساد مثل التين، أما أنت يا محمد فنعطيك تعليماً سيظل محفوظاً من الفساد والخراب، ولسوف يولِّد في العقل الإنساني نورًا يستنبط به من هذا الكتاب علومًا ومعارف جديدة، حيث قال الله تعالى في سورة النور وهو يشيد بزيت الزيتون {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} (النور:36) .. أي أن هذا الزيت عالي الجودة بحيث يكاد يضيء تلقائيا وهو بعيدٌ عن النار. ولا شك أن تشبيه كلام الله تعالى بمثل هذا الشيء الرائع يعني أن الكلام الذي سينزل الآن للدنيا سيكون سببًا لنشر العلوم والمعارف الجديدة ولتبديد ظلمات الجهل والمعصية.
ويوجد في المفهومين المذكورين آنفًا ترتيب طبيعي حيث يشير أحدهما إلى درجة هؤلاء الأنبياء والآخر يشير إلى زمانهم.
ثم يقول الله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .. أي أن هذه الأمثلة تدل على أن الله تعالى قد خلق الإنسان بقوى معتدلة جدا، فكلما بعث الله نبيًا آمن به الناس في نهاية المطاف.
أما المعنى الأول الذي ذكره المفسرون نظرًا إلى النبوءة التوراتية القائلة: جاء الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران (التثنية 33: 2)، فلو اعتبرنا هذه الآيات إشارة إلى هذه النبوءة فسيعني قوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أنكم لو درستم أحوال أي نبي من هؤلاء فلا بد لكم من الاعتراف أنه قد انتصر في نهاية المطاف. لا شك أن الدنيا عارضتهم في البداية وبذلت كل ما في وسعها للقضاء عليهم، ولكنها اضطرت في الأخير للإيمان بتعاليمهم، مما يدل على أننا قد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. لقد جاء موسى وكتبنا له النصر، لقد جاء عيسى وكتبنا له الغلبة، والآن قد جاء محمد ولا تؤمنون به، ولكن سيأتي يوم تضطرون فيه للإذعان لتعاليمه، فيعلم الناس أننا {خَلَقْنَا الإنسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
باختصار، إن المعنى الذي ذكره الخليفة الأول رضي الله عنه رائع جداً، وكذلك ما ذكره المفسرون القدامى من معان هي رائعةٌ حقًا، ولكني لما تدبرتُ هذه السورة أكثرَ لأرى ما إذا كانت تحتوي على معان أخرى بالإضافة إلى هذه المعاني الرائعة الواضحة، وهبني الله تعالى علمًا جديدا، فعرفتُ أنها لا تتحدث عن عصرين أو ثلاثة، بل عن أربعة عصور، وهكذا قد بيّن الله فيها موضوعا لطيفاً للغاية ذا علاقة وثيقة بقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. لا شك أن معاني هذه الآية تنطبق تمامًا على عصور موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ولكنها لا تنطبق على العصور الأخرى كلها، ولو انطبقت على العصور كلها أصبحتْ دليلا أقوى وأوضح وأدعى لكشف حُسْن القرآن الكريم وعظمته. … باختصار، إن الشيطان كاد لآدم عليه السلام لإخراجه من الجنة، فاضطر للهجرة منها، ولكن الله منحه بعد ذلك التينَ (أي النسل الطيب من الصلحاء) فعملوا على نجاحه، حتى إنك لا تجد اليوم من أتباع إبليس أحدا، بينما تجد المؤمنين بآدم في كل مكان.
لقد تبين من هذه الفقرة التوراتية أن عورة آدم سُترت بورق التين، وهو الوحي بلغة المجاز، ولكن اليهود لم يفهموا الأمر فظنوا أن آدم تعرّى بالفعل ثم تغطّى بورق التين.
والواقع أن الله تعالى نهى آدم عليه السلام عن الاقتراب من شجرة، أي عن الاختلاط بتلك الحية وزملائها الذين كانوا من الجن -الحية تعيش تحت الأرض، كذلك كان هذا العدو لآدم هو رجل كهوف ( cave man) أي الرجل الذي يسكن المغارات- فجاء وخدع آدم وقال له: إن مصلحتك تكمن في أكل ثمرتنا، أي بإنشاء العلاقات معنا، والله تعالى أيضًا يريد منفعتك في الحقيقة، ولو تصالحتَ معنا لتحققت المشيئة الإلهية على أحسن وجه. فانخدع آدم عليه السلام بقوله وأنشأ صلات مع هؤلاء القوم فتضرَّر. ثم تستّر بورق التين بناءً على وحي الله وأمره، أي جمع حوله المؤمنين وقطع صلاته مع الكافرين، وهكذا تدارك المعاناةَ والضرر الذي أصابه نتيجة الهجرة. لقد انتصر عليه الشيطان في بادئ الأمر، أما في الحقيقة فإن آدم هو المنتصر إذ انتبه إلى أهمية تنظيم القوم، كما تهيأت له أسباب النهوض بدلاً من السقوط والتردي، وذلك كما قال الله تعالى {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه:123).
فكأنما يقول الله تعالى لأهل مكة بقوله {والتين} تدبروا قصة آدم، فقد أغواه الشيطان حتى اضطر للهجرة وترك الجنة الأرضية التي كان فيها، ولكن اجتمعتْ حوله جماعة من المؤمنين نتيجة هذه الهجرة، فخيّب مكائد الشيطان كلية بمساعدة هؤلاء الأعوان. فيا أهل مكة، ستعاملون محمدًا هكذا تمامًا، ولكن لن تكون النتيجة هذه المرة إلا التي ظهرت في وقت آدم، فإن التين سيستر مُّحَمَّداً، وستجتمع حوله جماعة من الصلحاء نتيجة هذه الهجرة.
وقال موسى عليه السلام لربه {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (طه: 26)، أما مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فقد قال له ربه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:2). وكذلك أخبر الله هنا أن آدم بدأ يلفّ ورق التين حول نفسه لستر عورته، وأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفّ حوله ورق التين بنفسه، وقالوا له عند غزوة بدر: يا رسول الله، لسنا كأصحاب موسى حتى نقول لك اذهبْ أنت وربُّك فقاتِلا إنا هاهنا قاعدون، بل سنقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن أمامك ومن خلفك، ولن يخلص إليك العدو إلا على جثثنا الهامدة. (البخاري، كتاب المغازي)
فما أعظمَ الفرقَ بين أتباع آدم وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم! لقد اضطر آدم عليه السلام ليلفَّ حوله ورق التين بجهده، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أعظم درجة من آدم فقد التفّ ورق التين حوله بنفسه.
باختصار، يقول الله تعالى هنا: أيها الكافرون، تظنون الهجرة هزيمة لمحمد وانتصار لكم! ألا ترون كيف أراد الشيطان في الماضي مرارًا أن يهزم أنبياء الله تعالى ولكنه مُنِيَ بالهزيمة في النهاية دوما. ومثال آدم بين أيديكم. لقد أخرجه الشيطان من الجنة فخرج منها، ولكن ماذا كان المآل؟ لقد تسببت هجرته في انتصاره، حيث جمع حوله ورق التين وأحبط مكائد العدو، فكذلك الآن ستحسبون أنكم قد انتصرتم بطرد محمد من مكة، ولكن هجرته نفسها ستؤدي إلى هلاككم وانتصاره، مما يكون دليلا على أن الله تعالى لم يخلق الإنسان ليخذله، بل ليكتب له الرقي والنجاح.
ثم يقول الله تعالى {وَالزَّيتُونِ}، أي نضرب لكم مثال الزيتون في المقام الثاني. ومثال الزيتون إشارة إلى حادث نوح عليه السلام. لقد آذاه قومه أذًى شديدًا، فحل بهم العذاب في النهاية فهلكوا واضطر نوح للهجرة من عندهم. لقد ذكر الله هذا الحادث في القرآن بقوله {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 37 – 45)
فترى أن نوحا عليه السلام أيضا هاجر من قومه ووطنه، وأمر ابنه أن يأتي معه تاركًا وطنه، ولكنه رفض وقال لا حاجة بي لترك الوطن، فإذا كنتَ تترك الوطن فاتركه، أما أنا فسأصعد الجبل. مما يعني أن قوم نوح ظنوا أنهم لن يهلكوا، بل سيعيشون في الجبال في أمن ودعة بعد خروج نوح من بينهم شاكرين بأن البلاء (نوح) قد زال عنهم. فكانت النتيجة أن نوحًا نجا وهلك قومه الذين ظنوا هجرته انتصاراً لهم.
لقد أشار الله تعالى إلى هذا الحادث بقوله {والزيتون} .. أي لقد سمعتم قصة آدم من قبل، والآن فكِّروا في قصة نوح. لقد اضطر نوح للهجرة من وطنه بسبب معارضة قومه، ولكن أعداءه هم الذين هلكوا نتيجة هجرته، أما هو وأتباعه فوجدوا غصنًا من الزيتون، أي وجدوا رسالةَ السلام من الله تعالى وجماعةً متمسكة بالعروة الوثقى، أي قوية الإيمان كاملة الإخلاص والتضحية.
ونجد ذكر الزيتون في قصة نوح عليه السلام في التوراة حيث ورد: “ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وَكُلَّ الْوُحُوشِ وَكُلَّ الْبَهَائِمِ الَّتِي مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَجَازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ، فَهَدَأَتِ الْمِيَاهُ، وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ وَطَاقَاتُ السَّمَاءِ، فَامْتَنَعَ الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجَعَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوَالِيًا. وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ. وَكَانَتِ الْمِيَاهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوَالِيًا إلى الشَّهْرِ الْعَاشِرِ. وَفِي الْعَاشِرِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ الْجِبَالِ. وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طَاقَةَ الْفُلْكِ الَّتِي كَانَ قَدْ عَمِلَهَا وَأَرْسَلَ الْغُرَابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ. ثُمَّ أَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ الْمِيَاهُ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ تَجِدِ الْحَمَامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِهَا، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إلى الْفُلْكِ لأَنَّ مِيَاهًا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهَا وَأَدْخَلَهَا عِنْدَهُ إلى الْفُلْكِ. فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَادَ فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مِنَ الْفُلْكِ، فَأَتَتْ إِلَيْهِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِي فَمِهَا. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ. فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ فَلَمْ تَعُدْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا“. (التَّكْوِينِ 8: 1 – 12).
فغصن الزيتون هو الذي كان بمثابة البشارة لنوح عليه السلام أن هجرته نجحت وأنه قد انتصر على أعدائه للأبد. وورق التين هو الذي أخبر آدم عليه السلام أنه قد نجح وانتصر على عدوه. وإلى هذين الحدثين قد أشار الله تعالى بقوله {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} .. أي أننا نخبركم أن آدم كان نبينا الأول الذي اضطره الشيطان للخروج من الجنة والهجرة منها، ولكن هجرته لم تجلب له ضرراً، ولم تسبب للمؤمنين فشلا. لا شك أن آدم هاجر، ولكنه انتصر في نهاية المطاف وكُتب للشيطان الفشل. كذلك يا أهل مكة، تريدون إخراج محمد من بلدتكم، ولكن اعلموا أنكم قد أصبحتم بأفعالكم هذه مثيل الشيطان الذي أخرج آدمَ من الجنة، وأن رسولنا هذا الذي بعثناه إلى الدنيا لخلق مخلوقات روحانية جديدة هو مثيل آدم، وإذا اضطررتموه للهجرة فسوف يهيئ الله له ورق التين كما هيّأ لآدم، أي يعطيه جماعة من الصالحين الطيبين يعرفون مكانته ويضحّون في سبيله بكل غال ورخيص. وإذا كنتم مثيل أعداء نوح، فاعلموا أنه هاجر ولا شك، ولكن الله تعالى أغرق أعداءه وبشّره بالنجاة بغصن الزيتون، كذلك إذا أخرجتم محمدا من بلدتكم فسوف تغرقون كقوم نوح، وسوف تستقر سفينة محمد على جبل الجوديّ، وسوف يعطيه الله تعالى غصن الزيتون. ماذا كانت المدينة المنورة؟ كانت جُوديًّا استقرّتْ عليه سفينة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن كان أنصار المدينة؟ إنهم غصن الزيتون الذي أُعْطِيَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد: “مَن رأى ورق الزيتون في المنام فقد استمسك بالعروة الوثقى” (تعطير الأنام في تعبير المنام للنابلسي: الزيتون). فإعطاء ورق الزيتون للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أن الله تعالى سيهب له جماعة متمسكة بالعروة الوثقى، أي قوية في إيمانها وكاملة في تضحيتها وطاعتها بحيث لا تزعزعها المِحَن والمصائب.
والحق أن التمسك بالعروة الوثقى نتيجة طبيعية للإيمان بالله تعالى، فإن الذي يكون قلبه عامرًا بالإيمان حقًا يتمسك بأحكام الله بقوة بحيث لا يزعزعه عن مكانه أعنف طوفان وزلزال، بل يكون فارسَ الميدان وتجسيدا للشجاعة والثبات، ويرى الموت في سبيل الله تعالى أروعَ نعمة وألذَّها.
فالله تعالى يعلن هنا أننا نذكّركم بحادث التين وحادث الزيتون، ففي الحادثين هاجر نبيّانِ وفشِل الشيطانُ. فقد هاجر آدم، لكنه انتصر على عدوه في النهاية، وقد هاجر نوح لكنه انتصر على عدوه، ولم يُسكَنْ بَعْدَه بلدُه الذي هاجر منه. كذلك ستدمَّرون بعد هجرة محمد من هذه البلدة ولن يكون لكم إلا اللعنة والبُعد كما كان للشيطان، وأما محمد فيُمنح ورق التين. سوف تغرقون كأعداء نوح، وأما محمد فيتقدم إليه أهلُ المدينة بأغصان الزيتون في أيديهم ويقولون: يا رسول الله، هلمّ إلينا وشرِّفْنا، فسوف نفديك بأرواحنا ونريق دماءنا بدل عرقك.
باختصار، يقول الله تعالى للكافرين، أنسيتم غصن الزيتون الذي أُعطيه نوح بعد هجرته؟ إنكم لا تعرفون أن غصن زيتون يُعَدُّ لمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مما يكون دليلاً على صدق قولنا {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. فما دمنا قد خلقنا الإنسان بفطرة نقية، فلا يمكن أن يظل محروما من الخير فترة طويلة.” (التفسير الكبير)
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ