المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..241 

القطع والاستئناف في حروف العطف 

الاعتراض : 

يدّعي المعارضون الخطأ في الفقرات التالية من كلام المسيح الموعود عليه السلام :

1: أن نصطاد هذه الجراد مع ذراريها، ونُنج الخلق من كيد الخائنين (إتمام الحجة).

2: ليتمّ حجّتي عند النحارير، ولا يبقَ نَدْحةُ المعاذير (منن الرحمن).

وموضع الخطأ وفق زعمهم في جزم الأفعال المضارعة: (يبق) و (ننج) بحذف حرف العلة من آخرها، رغم أنها لم يسبقها أي حرف للجزم، وعليه فالخطأ هنا هو أيضا خطأ في عطف هذه الأفعال على الأفعال المضارعة التي تسبقها في الجملة، والتي هي منصوبة بأن الناصبة ظاهرة أو مضمرة. 

 

الرد: 

كنا قد وجهنا هذه الفقرات في المقال السابق على كون العطف الواقع فيها عطف جمل، الأمر الذي يجوز فيه عدم سريان النصب من الجمل الأولى إلى الثانية في الأفعال المضارعة الواقعة فيها. كما كنا قد ذكرنا وفصّلنا الحديث في مقال سابق آخر أن الأفعال (يبق) و (ننج) مرفوعة وليست مجزومة رغم حذف حرف العلة من آخرها، وذلك على لغة من لغات العرب، وهي لغة قرآنية أيضا يُحذف فيها حرف العلة من الفعل المضارع لغير الجازم بهدف التخفيف. 

ومع الأخذ بعين الاعتبار لغة التخفيف هذه والتي حسبها تعتبر الأفعال (يبق) و (نُنج) مرفوعة، لنا أن نذهب في هذا المقال إلى توجيه هذه الفقرات وهذا الرفع الواقع في هذه الأفعال على كون الواو الواقعة قبلها حرف استئناف لا حرف عطف، لتكون هذه الأفعال مرفوعة على الاستئناف ومبتدئة لجمل منقطعة ومنفصلة إعرابيا عن الجمل التي تسبقها، حيث عرف عن الواو أنها من الممكن أن تتجرد للاستئناف المحض.  وفي هذا لنا التفصيل التالي من المصادر والمراجع اللغوية: 

ما المقصود من الاستئناف؟ هذا ما يبينه لنا النص التالي: 

المقصود بالاستئناف متابعة الكلام من منطلق جديد لا يربط في الحكم الإعرابي بين ما قبل الحرف وما بعده . [فن التحرير العربي ضوابطه وأنماطه، ص 104، للدكتور محمد صالح الشنطي ]

وقد عبر عن الاستئناف بمصطلح (القطع) أيضا، نظرا لكون الاستئناف في الحقيقة قطع الجملة اللاحقة عن السابقة إعرابيا. وعن القطع بحروف الجر جاء: 

” الصحيح جواز “القطع” في المعطوف عطف نسق؛ كما أشرنا من قبل وهو كثير في المعطوفات المتعددة التي كانت في أصلها نعوتا، ثم فصل بينها بحرف العطف؛ فصارت معطوفات بعد أن كانت نعوتا” [النحو الوافي (3/ 660)]

وعن الاستئناف بحروف العطف لا سيما حرف الواو جاء ما يلي: 

” من أحكام “واو” العطف، التي تشارك فيها بعض أخواتها، أنها تعطف المفردات -كبعض الأمثلة السابقة- والجمل،….

(وفي الهامش) أنها قد تتجرد للاستئناف المحض، ولا تصلح لغيره وكذلك “الفاء”و”ثم”.” [النحو الوافي (3/ 560)]

 

وفي موضع آخر يقول النحو الوافي: 

والاستئناف أحد المعاني التي تؤديها ثلاثة من الأحرف؛ هي: “الواو، والفاء، وثمّ”. وحين يكون الحرف للاستئناف لا يكون للعطف.  [النحو الوافي (3/ 579)]

ومن الأمثلة التي أوردها النحو الوافي في معرض حديثه عن عطف الجمل كان ما يلي: 

“وقد اجتمع عطف الفعل وحده على الفعل وحده، وعطف الجملة المضارعية على المضارعية في قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ … } فقد جُزمت الأفعال: “يخز، ينصر، يشف، يذهب” لأنها معطوفة على المضارع “يعذب” المجزوم في جواب الأمر. أما المضارع “يتوبُ” فمرفوع؛ لأنه مع فاعله ولا يصح أن يكون عطف مضارع وحده على مضارع وحده؛ وإلا وجب أن يكون المعطوف مجزوم اللفظ كالمعطوف عليه. هذا، ويصح أن تكون الواو للاستئناف، لا للعطف. [النحو الوافي (3/ 645)]

 وعن المثال الآخر الذي ضربه النحو الوافي في عطف الجمل:”لم يحضر قطار ويسافر يوسف.” قال:  

“ويصح أن تكون الواو للاستئناف؛ فالجملة بعدها مستقلة، لا علاقة لها بما قبلها في الإعراب … ولا في النفي والإثبات. ويصح أن تكون الواو للحال والمضارع بعدها مرفوع عند من يجيز الربط بها وحدها -كما تقدم في باب الحال، ج2- فالجملة في محل نصب، ولا يسري إليها النفي من الأولى. ولا يصح الالتجاء إلى أحد هذه الأوجه -أو غيرها- إلا إذا وافق المعنى، وساير السياق.” [النحو الوافي (3/ 646)]

وبناء على هذا نرى بأن عطف الجمل قد يؤخذ على الاستئناف أيضا، وهذا بالفعل ما نأخذ به الفقرات المذكورة أعلاه من كلام المسيح الموعود عليه السلام، فهي تتخرج على عطف الجمل كما فصلنا في المقال السابق، ولا مانع أن تخرج على الاستئناف أيضا، وفق المعاني التي سنبيّنها لاحقا. 

ومن الأمثلة على الاستئناف بحروف العطف ومعانيه ما يلي: 

1: الآيات الكريمة: {(13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} (التوبة 13-15)

2: { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الحج 6)

وفي هذه الآية جاء :  

 “ثم قال جل وعز: ونقر في الأرحام ما نشاء، أي ونحن نقر في الأرحام ما نشاء ثم قال ومنكم من يتوفى ” [معاني القرآن للنحاس (4/ 379)]

فمن معاني الاستئناف هو إضمار الضمير:(ونقر) أي: ونحن نقر. 

3: { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ } (الأَعراف 187)

4: بيت الشعر : على الحكم المأتي يَوْمًا إِذا قضى … قَضيته أَلا يجور ويقصدُ

وفي الأمثلة الثلاثة الأخيرة يقول ابن هشام في المغني ما يلي: 

“وَالثَّانِي وَالثَّالِث من أَقسَام الْوَاو واوان يرْتَفع مَا بعدهمَا

إِحْدَاهمَا وَاو الِاسْتِئْنَاف نَحْو {لنبين لكم ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء} وَنَحْو لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن فِيمَن رفع وَنَحْو {من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ويذرهم} فِيمَن رفع أَيْضا وَنَحْو {وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله} إِذْ لَو كَانَت وَاو الْعَطف لَا نتصب نقر وَلَا نتصب أَو انجزم تشرب ولجزم يذر كَمَا قَرَأَ الْآخرُونَ وللزم عطف الْخَبَر على الْأَمر وَقَالَ الشَّاعِر: (على الحكم المأتي يَوْمًا إِذا قضى … قَضيته أَلا يجور ويقصد) وَهَذَا مُتَعَيّن للاستئناف لِأَن الْعَطف يَجعله شَرِيكا فِي النَّفْي فَيلْزم التَّنَاقُض..”[ مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 470)]

 

5: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} (إِبراهيم 5)

وفي هذه الآية يقول الفراء في معاني القرآن ما يلي: 

” (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ) فرفع لأن النيّة فِيهِ الاستئنَاف لا العطف عَلَى مَا قَبْلَه. ومثله (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ)..” [معاني القرآن للفراء (2/ 67)]

ويقول الفراء في موضع آخر ما يلي: 

“وقوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ … وَيَتُوبَ، بالنصب عَلَى الإتباع وإن نويت بِهِ الاستئناف رفعته، كما قَالَ (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ  وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) إلا أن القراءة (وَيَتُوبَ) بالنصب. [معاني القرآن للفراء (2/ 351)]

فمن أقوال الفراء هذه نرى بأن المسألة متعلقة بالنية، إن كانت النية الوصل على معنى الجملة السابقة تبعها في الإعراب وإلا رفع على الاستئناف. 

 

6: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (الشورى 25)

وهذه الآية شبيهة جدا في عبارات المسيح الموعود عليه السلام المعترض عليها، حيث فيها الفعل (يمحُ) وهو فعل مضارع مرفوع كما الفعل المعطوف عليه (يحقُّ) إلا أنه جاء على لغة التخفيف بحذف حرف العلة منه (يمحُ) بدلا من (يمحو) رغم كونه مرفوعا وليس مجزوما.  

وفي إثبات كون الواو للاستئناف في هذه الآية ننقل ما جاء في كتاب البرهان في علوم القرآن حيث جاء: 

“وَأَمَّا {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ لَانْتَصَبَ “نُقِرُّ” وجزم”ويتوب” وكذلك فِي {وَالرَّاسِخُونَ} لِلِاسْتِئْنَافِ {وَيَمْحُ اللَّهُ}” [البرهان في علوم القرآن (4/ 104)]

وعن هذه الآية جاء في إعراب القرآن للنحاس: 

“أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)…

 وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ منقطع من الأول في موضع رفع. ويجب أن يكتب بالواو، إلّا أنه وقع في السواد بغير واو ، كتب على اللفظ في الإدراج، وإنما حذفت الواو في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها، فإذا وقفت زالت العلّة في حذفها، فعلى هذا لا ينبغي الوقوف عليه لأنه إن أثبت الواو خالف السواد وإن حذفها لحن، ونظيره وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: 11] ، وكذا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18]. “[إعراب القرآن للنحاس (4/ 56- 55)]

7: الآية الكريمة: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (83) } (يس 83) وعنها جاء: 

“قَوْله {كن فَيكون} قَرَأَهُ ابْن عَامر وَالْكسَائِيّ بِنصب فَيكون عطفا على أَن تَقول وَمن رَفعه قطعه مِمَّا قبله أَي فَهُوَ يكون وَمَا بعد الْفَاء يسْتَأْنف” [مشكل إعراب القرآن لمكي (1/ 418)]

ومن هنا يظهر مرة أخرى أن من معاني الاستئناف إضمار الضمير (فهو يكون). 

8: بيت الشعر: ألم ترما لاَقَيْتُ وَالدَّهْرُ أعْصُرٌ …. وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْءَ وَيَسْمَعُ

وفيه جاء: 

ويروى (ويسمعُ) بالرفع على الاستئناف، لأن القصيدة مرفوعة ” [شرح شافية ابن الحاجب – الرضي الأستراباذي (4/ 330- 329)]

 

9: بيت الشعر: غَدَاةَ أحلَّت لابن أَصْرَمَ طَعْنَةٌ … حُصَيْنٍ عَبِيطَاتِ السَّدَائِفِ والخَمْرُ

10: بيت الشعر: وعضُّ زَمَان يا ابن مروان لم يَدَعْ … من المال إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ

وفي هذين البيتين الأخيرين جاء في الإنصاف:  

فرفع “الخَمْرُ” على الاستئناف، فكأنه قال: والخمرُ كذلك. ….

فرفع “مجلف” على الاستئناف، فكأنه قال: أو مجلف كذلك، وهذا كثير في كلامهم.” [الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (1/ 152-154)]

ومن هنا يتضح أن من معاني الاستئناف إضمار كلمة (كذلك) . 

 

وبناء على كل هذا نخلص إلى النتيجة التالية: 

1: ان حروف العطف الواو والفاء وثم؛ قد تتجرد للاستئناف والقطع، بمعنى أن الجملة بعدها قد ينقطع اتصالها بالجملة التي تسبقها من الناحية الإعرابية. 

2: مسألة القطع والوصل من الناحية الإعرابية متعلقة بنية المتكلم إن شاء وصل وإن شاء قطع، بناء على المعنى الذي يريد إيصاله. كما في بعض الآيات القرآنية التي قرئت بالإتباع الإعرابي تارة وبالقطع والاستئناف تارة أخرى؛ كالآية القرآنية: {من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ويذرهم} حيث قرئت (يذرهم) بالجزم وكذا بالرفع على الاستئناف. 

3: ما يتخرج على عطف الجمل قد يتخرج على الاستئناف أيضا كما مثّل لذلك النحو الوافي في الآية الكريمة: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. 

4: من المعاني التي قد تضمر في الاستئناف هو إضمار الضمير أو إضمار كلمة كذلك أو أي معنى آخر مناسب كما في الأمثلة المذكورة أعلاه. 

ولذا، فإن الفقرات المعترَض عليها من كلام المسيح الموعود عليه السلام تتخرج على القطع والاستئناف على النحو التالي: 

1: أن نصطاد هذه الجراد مع ذراريها، ونُنج الخلق من كيد الخائنين (إتمام الحجة).

أي: وكذلك/ وبذلك/ ونحن ننج الخلق. ليكون الفعل (ننج) فعل مضارع مرفوعا على الاستئناف، ومحذوف حرف العلة على لغة التخفيف التي ذكرناها. 

2: ليتمّ حجّتي عند النحارير، ولا يبقَ نَدْحةُ المعاذير (منن الرحمن).

أي: وكذلك/ وبذلك/ وحينها/ وبعدها لا يبق ندحة المعاذير. ليكون الفعل (يبق) مرفوعا على الاستئناف، ومحذوف حرف العلة على لغة التخفيف التي ذكرناها. ولعل أكثر ما يشبه هذه الفقرات ما وقع في الآية القرآنية التي ذكرناها: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (الشورى 25) كما بينا أعلاه. 

وعليه، فلا خطأ واقع في هذه الفقرات!