المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..196

صحة وفصاحة الفعل “تعاصَوا”

الاعتراض:

يقول المعارضون إن المسيح الموعود عليه السلام قد أخطأ في الفقرة التالية حيث قال:

_ وأْتَمِروا بينكم في المعروف ولا تعاصوا (حمامة البشرى، ص 128).

ويقولون إن موضع الخطأ يكمن في كلمة “تعاصَوا”، حيث لا بدّ أن تكون وفق زعمهم “تعصَوا” . وهذا على حدّ قولهم من الأخطاء الصرفية عند المسيح الموعود عليه السلام والمتعلقة بالفعل المضارع.

الردّ:

هذا الاعتراض بحدّ ذاته وصمة عار كبيرة على جبين المعترض وأعوانه من حملة الشهادات في اللغة العربية. فهذا الاعتراض ينمّ عن تهوّرهم وعدم مصداقيتهم في البحث والتحري، كما ينمّ عن جهلهم المدقع الذي لا يجلب على صاحبه إلا الخزي.

فلا خطأ في كل هذا! بل هذا يندرج تحت قاعدة معروفة خاصة بالأوزان الفعلية (تفاعل وتفعّل) والتي عندما تلحقها تاء المضارع للمخاطب أو المؤنث، فيجوز حذف إحدى التاءين تخفيفا.

فلم يتنبه هؤلاء إلى أن الفعل الذي يعترضون عليه “تعاصوا” ليس هو الفعل (عصى/ يعصي) على وزن “فعل” لكي يكون الصحيح وفق زعمهم الكلمة:”تعصوا”؛ بل إن الفعل الذي يقصده المسيح الموعود عليه السلام في كلامه هو الفعل “تعاصى” على وزن “تفاعل”، وفي هذه الصيغة للفعل عندما يتصرف إلى المضارع (تتعاصَون/ تتعاصَين) يجوز حذف إحدى التاءين للتخفيف ليصبح الفعل : (تعاصَون/ تعاصَين).

وفي حذف إحدى التاءين من صيغة تفاعل وتفعّل جاء في المراجع النحوية ما يلي:

“قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن ما كان على تفاعل أو تفعّل فلحقته تاء أخرى للمخاطب أو للمؤنثة جاز حذف إحداهما؛ فأما سيبويه والبصريون فيقولون:

المحذوفة الثانية، وذلك قولك: ما زيد لا تَكلَّمُ في هذا ولا تَغافَلُ عنه وتقديره لا تتكلم فيه ولا تتغافل عنه، وكذلك هند تَكلمُ في هذا وزينب تَغافلُ عنه.

قال الله عز وجل: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وتقديره: تتنزل وكذلك التقدير تتمنوا في كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ وكذلك لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أصله: تتولوا عنه، وإنما حذفوا إحداهما استخفافا؛ لأن لفظهما واحد؛ فإن انضمت الأولى لم يجز حذف إحداهما، ولو قلت: تتحمل وتتنازع على ما لم يسم فاعله لم يجز حذف إحداهما لاختلاف الحركتين، ولأنه يقع لبس بين تتفعل وتفعل.

وقال بعض الكوفيين: التاء المحذوفة هي الأولى، وقال بعضهم: يجوز أن تكون المحذوفة هي الأولى ويجوز أن تكون الثانية.” [شرح كتاب سيبويه (5/ 450)]

كما جاء في شرح شافية ابن الحاجب:

“وقد جاء أيضا حذف -غير الحذف الإعلالي وغير الحذف الترخيمي- في باب تتفعّل وتتفاعل، نحو: تَتَنَزَّل وتَتَنَابَز؛ فإنه يحذف منه إحدى التاءين، فيقال: تَنَزّل، وتَنَابز؛ لكراهة اجتماع التاءين وهي فصيحة كإثباتها، وإدغام [إحداهما في الأخرى] قليل. واختلف في المحذوف من التاءين: فقيل الأولى، وقيل الثانية -وهو الوجه- لأن الأولى للعلامة وهي المضارعة بخلاف الثانية، ولأن الاستثقال جاء من الثانية لا من الأولى.” [شرح شافية ابن الحاجب – ركن الدين الاستراباذي (2/ 966)]

وقد ورد هذا الحذف كثيرا في القرآن الكريم، ومنه في الآيات التالية:

_ {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} (القدر 5) بدلا من (تتنزل)

_ { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (153)} (الأَنعام 153) بدلا من (تتذكرون) وهذا متكرر في عدة آيات

_ { فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (11) } (عبس 11) بدلا من (تتلهى)

_ {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} (آل عمران 144) بدلا من (تتمنون)

_ {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (21)} (الأَنْفال 21) بدلا من (تتولوا)

كما ورد هذا الحذف للتاء في الحديث الشريف كما في الحديث التالي:

{وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا} (صحيح البخاري, كتاب الأدب) بدلا من القول: تتحسسوا/ تتجسسوا/ تتحاسدوا/ تتدابروا/ تتباغضوا.

وقد ورد الفعل (تتعاصى) بحذف التاء في الحديث الشريف التالي:

_ ” فلما كان عند خروج البعث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة وعمرا فقال: لا تعاصيا، فلما فصلا من المدينة خلا أبو عبيدة بعمرو فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي وإليك أن لا تعاصيا،” [كنز العمال (10/ 598)]

“فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ الْبَعْثَيْنِ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُمَا: «لَا تَعَاصَيَا»” [مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 453)]

“عَنْ أَبِي بُرْدَةَ،. عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنَا. فَقَالَ: «تَكَاتَفَا وَلَا تَعَاصَيَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا»” [المعجم الأوسط (1/ 132)]

“عَنْ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَا: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «اذْهَبَا فَتَطَاوَعَا وَلَا تَعَاصَيَا , وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا ، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا»” [المعجم الصغير للطبراني (2/ 212)]

ومعروف أن صيغة (تفاعل)  تحمل معنى المشاركة، حيث جاء:

“ويجئ بناء (تفاعل) للدلالة على المشاركة، نحو تخاصما وتعاركا” [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (4/ 264)]

فعندما نقول إن الناس يتعاصون، فهذا يعني أنهم يعصون بعضهم بعضا. ولذا فيكون قصد المسيح الموعود عليه السلام من قوله : “وأْتَمِروا بينكم في المعروف ولا تعاصوا”، أي مروا بعضكم بعضا بالمعروف ولا تعصوا بعضكم بعضا. وهذا هو المعنى الحقيقي الذي يريده المسيح الموعود عليه السلام.

 وهذا المعنى يؤيده ما جاء في شرح الحديث المذكور أعلاه :

“باب: أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا. بأن يعصي أحدهما الآخر؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفساد، وقوله: (أن يتطاوعا) متعلق بأمر.” [منحة الباري بشرح صحيح البخاري (10/ 209)]

وقد يأتي الفعل “يتعاصى” بمعان أخرى، وهو: العصيان والامتناع والصعوبة والتشدد.حيث جاء في المعاجم ما يلي:

1: ” وتحمس الرجل: تعاصى، والحمسُ: قريش؛ لأنهم كانوا يتشددون في دينهم.” [مجمل اللغة لابن فارس (ص: 251)]

2: “وَيُقَالُ تَحَمَّسَ الرَّجُلُ: تَعَاصَى. وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَمَّسُونَ فِي دِينِهِمْ، أَيْ يَتَشَدَّدُونَ.” [مقاييس اللغة (2/ 104)]

3: “تعاصَى: امتنع، دافع عن نفسه، تحامى” [تكملة المعاجم العربية (7/ 226)]

وبهذه المعاني جاء الفعل في المصادر والمراجع التالية:

1: تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (23/ 280)

“قَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَالْمَعِينُ السَّهْلُ الَّذِي يَنْقَادُ وَلَا يَتَعَاصَى وَالْمَاعُونُ مَا سَهُلَ عَلَى مُعْطِيهِ،”

2: التفسير الوسيط لطنطاوي (7/ 279)

“وجاء- سبحانه- بصيغة المبالغة فَعَّالٌ للإشارة إلى أنه- سبحانه- لا يتعاصى عليه فعل من الأفعال بأى وجه من الوجوه.”

3: صفوة التفاسير (1/ 419)

“ولم يجبه من قومه إلا أشرافُهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغماس عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة”

4: تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (6/ 26)

” الاستطاعة: كون الشيء في طوعك، لا يتعاصى عليك”

5: تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (25/ 74)

“بقدرته التي لا يتعاصى معها شيء”

6: تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين (ص: 44)

 “اللام من الحروف المدلقة فهو حرف سلس سهل كثير الدوران في الكلام تكلم به أهل كل لغَة يسير النطق لا يتعاصى على اللسان”

7: تفسير الألوسي = روح المعاني (2/ 367)

“وسبحان من لا يتعاصى قدرته شيء”

وبناء على هذه المعاني من الممكن حمل قول المسيح الموعود عليه السلام : “وأْتَمِروا بينكم في المعروف ولا تعاصوا.” أي مروا بعضكم بعضا بالمعروف ولا تمتنعوا عن الطاعة ولا تتشددوا ولا تقسوا بل انقادوا طاعةً ..

وبناء على كل هذا يثبت أنه لا خطأ وارد في كلام المسيح الموعود عليه السلام حين قال:”ولا تعاصوا” بل هو من فصيح الكلام العربي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار فصحاء العرب. فنقول للمعارضين: انظروا لهذا الإعجاز ولا تعاصَوا.