المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..192

الإعجاز في اشتقاق الأفعال

ينام العرب وينوم العرب ويخون الخائنون ويخان الخائنون

الاعتراض:

يدّعي المعارضون خطأَ المسيح الموعود عليه السلام في اشتقاقه الأفعال المضارعة على غير ما هو صحيح في اللغة العربية. فقال: ينوم/ ينومون/ تنوموا/ يخانون/ يستباحون؛ رغم أن الصحيح :ينام/ ينامون/ تناموا/ يخونون/ يستبيحون. وجاءت هذه الأخطاء في الفقرات التالية:

  1. فلا تنُوموا عند هذه الزلزلة، وتَبصَّروا وتيقَّظوا وبادِروا إلى ابتغاء مرضاة الحضرة (مواهب الرحمن، ص 85).
  2. “ومن اعتراضات الواشي الضال، الذي ينوم بنعاس الضلال” (نور الحق، ص 54).
  3. “ودِيسَ الحقُ تحت أرجل الفُجّار، ثم ينُومون نوم الغافلين، ولا يلتفتون إلى مواساة الدين” (منن الرحمن، ص 65).
  4. “ويتعامون ولا يُبصرون، وينومون مستريحين ولا يستيقظون” (حقيقة المهدي، باقة، ص 174).
  5. “والذين كانوا في البارحة ينومون في القصور، اليوم تراهم ميّتين في القبور” (الاستفتاء، ص 79).
  6. “هذا حاله وأخوه المترَف يطمُر طمورَ الغزالة، وينوم إلى طلوع الغَزالة” (لجة النور، ص 56)
  7. يكذبون ولا يخافون، ويخانون ولا يتقون (لجة النور، ص 12).
  8. وأذاقهم الله ما كانوا يستباحون (التبليغ، ص 76).

الردّ:

لا خطأ في كل هذا! بل هو إعجاز ما بعده إعجاز، يعود إلى إلمام المسيح الموعود عليه السلام بلغات العرب المختلفة. فمرجع كل هذه الألفاظ التي جاء بها المسيح الموعود عليه السلام إلى اختلاف القبائل العربية الفصيحة في اشتقاقها لهذه الأفعال المضارعة من الفعل الماضي، فمن هذه القبائل من تلفّظ بما جاء به المسيح الموعود عليه السلام أيضا، على خلاف القبائل الأخرى. كما أن هذا يعود إلى عدم قطعية القواعد العربية الصرفية التي أقرّها النحاة في اشتقاق الأفعال كما سنبيّنه خلال هذا البحث.

اختلاف القبائل العربية في اشتقاق الفعل الأجوف:

فأما بالنسبة لاختلاف القبائل العربية في تلفظها بهذه الأفعال، فقد خصّ  الدكتور أحمد علم الدين الجندي في كتابه ” اللهجات العربية في التراث ” فصلا كاملا للحديث عن الأفعال في لهجات القبائل العربية، وقد خصّ الدكتور حديثا كاملا عن اختلاف القبائل العربية في اشتقاقها للفعل الأجوف (الذي عين الفعل فيه حرف علة)  ومن بين ما جاء فيه كان ما يلي من الأمثلة نعرضها ملخصة ومختصرة مع بعض الشرح والتصرف :

1: فمنهم من قال : كاد / يكُود، في معنى من قال: كاد / يكِيد .

2: جاء على لغة يمانية في قبائل الأزد القحطانية: حاد / يحُود  في معنى حاد/ يحِيد. وقياسه وفق القواعد الصرفية المعروفة: حيد/ يحْيِد/ يحِيد.

3: لغة بعض حِميَر: حار / يحار في معنى حار/ يحُور .وقياسه: حور/ يحْوُر/ يحُور.

4: ورد عن أناس من العرب: كِيد زيد يفعل كذا وما زِيل يفعل كذا. بدلا من: كاد و ما زال.

وهذا له أثره في الفعل المبني للمجهول أيضا حيث جاء:

5: لغة هذيل وبني دبير وقيس وعقيل ومن جاورهم وعامة بني أسد: قُوْلَ بدلا من قِيلَ، وبُوع بدلا من بِيع. وقياسه: قال/ قول/  قُوِل / قيل؛ و باع/ بيع /بُيِع / بِيع.

وهذا له أثره في القراءات القرآنية :

6:  قراءة الكسائي وهشام: قُولَ يا أرض ابلعي، وسُوق الذين اتقوا، وسُوء بهم . وذلك في معنى: (قيل، وسيق، وسيئ)

7: ومنهم من قال : سيّدك في معنى سوّدك.

8: وبنو كلاب آثرت الصيغة الواوية على اليائية فتقول: أنا أجُوء بها في معنى أنا أجِيء بها. وفي الشعر من هذا:

أبو مالك يعتادنا بالظهائر *****     يجُوء فيلقي رحله عند عامر

 رغم أن قياس  هذا الفعل وفق قواعد الصرف: جيَأ/ يجيِئُ /يجِيء.

9: أما بنو عقيل فآثروا الصيغة اليائية على الواوية فقالوا: جاب /يجِيب/ جيْبا؛ في معنى: جاب/ يجُوب/ جَوْبا . وقياس الفعل وفق قواعد الصرف: جوَبَ/ يجْوُبُ / يجُوب.

10: ومنهم من قال: صار / يصير  بمعنى صار يصور، والتي تعني ضمّ /يضمّ؛ كما في قوله تعالى في قراءة العامة: “فصُرهن إليك” على اعتبار (يصور)، والتي تقابلها قراءة أصحاب عبد الله بالكسر: “فصِرهن إليك” على اعتبار (يصير).

وجاء هذا في الشعر:

وفرع يَصير الجيدَ وحف كأنه ……

…… ولكن أطراف العوالي تَصورها

[إلى هنا النقل من كتاب اللهجات العربية في التراث ص 568- 572]

كانت هذه بعض الأمثلة التي نقلها كتاب اللهجات العربية في التراث، وهي تثبت أن العرب الفصحاء لم يكن اشتقاقهم للأفعال المضارعة مقيّدا بالقواعد الصرفية المعروفة اليوم، فقد خالف هؤلاء ما هو دارج في لغتنا اليوم؛ ويكفينا هذا الأمر لكي نجزم  بصحة اشتقاق المسيح الموعود عليه السلام للأفعال المضارعة التي يعترض عليها المعارضون (ينوم، يخان ويستباح)، لنقول بأنها جاءت على لهجات ولغات العرب المختلفة في تصريف واشتقاق الأفعال وفق سليقتهم العربية الخالصة، بعيدا عن تعقيدات النحاة وتقييداتهم بالقواعد التي وضعوها، والتي كثيرا ما شذت عنها الكثير من الألفاظ العربية الواردة سماعا عن العرب الفصحاء.

ولو أردنا تتبع قواعد النحاة الصرفية في اشتقاق الأفعال لقلنا ما يلي:

الفعل (ينوم):

ما ورد في المثال الأول من قول العرب (كاد/يكُود) في معنى (كاد/ يكِيد)، فهذا كله جاء

بمعنى كاد / يكاد، حيث جاء في لسان العرب أن كاد من الكيْد تعني كما تعني كاد من الكوْد، وهو المقاربة على فعل الشيء، كما تعني :كاد /يكاد .

حيث جاء تحت المصدر (كيد): كَادَ يَفْعَل كَذَا كَيْداً: قارَب. ومثّل لها بالقول: وَلَا أَفعلُ ذَلِكَ وَلَا كَيْدًا وَلَا هَمّاً.

وجاء تحت المصدر (كود): كادَ: وُضِعَتْ لِمُقَارَبَةِ الشَّيْءِ. ومثّل لها بنفس ما مثل لسابقتها حيث قال:

“اللَّيْثُ: الكَوْد مَصْدَرُ كَادَ يكودُ كَوْداً ومَكاداً ومَكادَة. تَقُولُ لِمَنْ يَطْلُبُ إِليك شَيْئًا وَلَا تُرِيدُ أَن تُعْطِيَهُ، تَقُولُ: لَا وَلَا مَكادَةً وَلَا مَهَمَّةً وَلَا كَوْداً وَلَا هَمّاً وَلَا مَكاداً وَلَا مَهَمّاً. وَيُقَالُ: وَلَا مَهَمَّة لِي وَلَا مَكادة أَي لَا أَهُمُّ وَلَا أَكادُ.

كما مثّل لكلتيهما ( الكود والكيد) بقول الله تعالى: “أكاد أخفيها”.

فقول المسيح الموعود عليه السلام (ينُوم) بدلا من (ينام) ينطبق تمام الانطباق على قول العرب (يكود) بدلا من (يكاد). فهذه على اعتبارات النحاة قد جاءت على الاشتقاق التالي:

(كود / يكْوُد/ يكُود) ويقابلها  (نوم/ ينْوُم/ ينُوم)، وذلك بإعلال النقل فقط دون القلب، لأن الحركة المنقولة مجانسة للواو.

وهذا على النقيض من المتبع اليوم في (كود/ يكوَد/ يكاد) ويقابلها (نوم/ ينوَم/ ينام)، بإعلال النقل والقلب إلى الألف معا، لكون الحركة المنقولة غير مجانسة للواو.

ويؤكد صحة كلام المسيح الموعود عليه السلام في الفعل (ينُوم)، ما جاء في كتاب الإبانة في اللغة العربية، بأن أصل الفعل ينام هو (ينوُم) وليس (ينوَم)، حيث جاء:

“وأصل خاف: خوف، ونام: نَوَمَ. وأصل يخاف: يَخْوُف، وينام: ينْوُم. وأصل الدائم منه: قاوُل وخاوُف وناوُم”. [“الإبانة في اللغة العربية” صفحة  ](1/ 251)

وهذا بحد ذاته يُفضي إلى إمكانية إعلاله بالنقل فقط ودون القلب، والقول (ينُوم) بدلا من (ينام) .

ومما يؤكد صحة الفعل (ينُوم) أيضا، هو وروده في العديد من المصادر الأدبية، أهمها ورودها في معجم الشعراء الأدباء للمرزباني (ت 384ه)، حيث قال فيه الشاعر:

أكابد من تماضر برح همٍّ                                وذو التهيام عزك أن ينومَ

ومما لا بدّ من ذكره هنا أن هذا مصدر قديم قريب من عصور الاحتجاج اللغوي إن لم يكن منها فعلا. ولا شك أن هذا المعجم يحوي كلام الشعراء القدماء الذين يعود تاريخهم إلى عصور الاحتجاج نفسها؛ مما يدل على أصالة هذه اللغة في قول الشاعر (ينوم) وأنها على لغة عربية أصيلة للعرب.

ويؤكد كل هذا الرواية التالية الواردة في دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي حيث جاء:

“ذكر نماذج لاعتناء نساء المغرب العربي بالعلوم

وكان للنساء كذلك المشاركة الواضحة في هذا الباب، فعندما قال محمد مولود بن أحمد رحمه الله:

حنانك ذا الحنان لمن يروم…. شفاء حيث تطلع النجوم. إلى أن يقول فيها:

 إذا ابتسمت بعيد النوم وهنا….. وقد خلفت مباسم من ينُوم

 يلوح البرق ثم يبوح مسكٌ….. فحسبك ما تشم وما تشيم.

 فقال: (ينوم)، قال له أحد العلماء المعاصرين له، وهو العلامة عبد الودود بن عبد الله إن (نام) مضارعها (ينام) فلم يجد شاهداً يشهد لقوله، لكنه اقتنع بأنه موافق للسليقة وأن ما قاله لابد أن يكون لغة بعض العرب، وكانت أخت زوجته مغتربة في أرضٍ بعيدة، فكانت ذات يومٍ تطالع كتاب معجم الشعراء الأدباء للمرزباني فقرأت فيه قول الشاعر: أكابد من تماضر برح همٍ …..وذو التهيام عزك أن ينومَ؛ فإذا هو شاهدٌ في عين المسألة، فأرسلت به راكباً حتى أتاهم به. [دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي (48/ 11، بترقيم الشاملة آليا)]

فهذه الرواية تذكر الشاهد الذي أوردناه من المرزباني كشاهد على شعر محمد مولود بن أحمد حيث قال: “مباسم من ينُوم.  وما يهمنا من هذه الرواية أن هذا الفعل (ينوم) لا بدّ أنه على لغات العرب، ومنبعه السليقة العربية، فهو لا يخالفها.

 

ومن الشواهد الأدبية التي وجدناها على استعمال الفعل (ينوم) كانت ما يلي:

1: “شعر محمد مولود بن أحمد فال:

حَنَانَكَ ذا الحَنانِ لمن يرُوم … شفاء حيث تطلعُ النُّجُومُ

أرَجّى من زُبيدَ شِفاَء قلبٍ … تياسَرَهُ الوساوسُ والهمومُ

إذا ابتسمَتْ بُعَيْدَ النّوْمِ وهناً … وقد خَلَفَتْ مَباسمُ من يَنُومُ

يفوح المسك ثمَّ يلوح بَرْقٌ … فحسبُكَ ما تَشَمُّ وما تَشِيمُ”

[الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (ص: 377)؛ أحمد بن الأمين الشّنْقِيطي (المتوفى: 1331هـ)]

 

2: “كثير ممن يستيقظ بالأَذان الأَول في مثل هذه الأَزمان ينوم فيفوته الوتر أَو صلاة الجماعة لأَجل اعتقاده وعلمه “ [فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (2/ 126)؛ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (المتوفى: 1389هـ)]

3: “فقال لنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنْ شِئْتُمْ نِمْتُمْ هَا هُنَا، وَإِنْ شِئْتُمُ انْطَلَقْتُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ”، قَالَ: فَقُلْنَا: بَلْ نَنْطَلِقُ إِلَى الْمَسْجِدِ.

===

قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم) أن تناموا ها هنا .. (نمتم ها هنا) أي: معنا في بيتنا، وقوله: نمتم بكسر النون من النوم؛ لأنه يقال فيه: نام ينام من باب خاف يخاف، كما يقال فيه: نام ينوم، ” [مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه والقول المكتفى على سنن المصطفى (5/ 243)؛ المؤلف: محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأُرمي العَلًوي الأثيوبي الهَرَري الكري البُوَيطي، مراجعة لجنة من العلماء برئاسة: الأستاذ الدكتور هاشم محمد علي حسين مهدي]

 

4: “ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ. يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ. فَنَامَ….

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله (نم) بفتح النون أمر من نام ينام من باب خاف، وبضمها أمر من نام ينوم كقال يقول “ [الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/ 493)، جمع وتأليف: محمد الأمين بن عبد الله الأُرَمي العَلَوي الهَرَري الشافعي، نزيل مكة المكرمة والمجاور بها، مراجعة: لجنة من العلماء برئاسة البرفسور هاشم محمد علي مهدي المستشار برابطة العالم الإسلامي – مكة المكرمة]

 

5: أبيات للشيخ محمد بن الحسن بن أحمد السالم الشنقيطي

والنوم ضَحْوةً لمن ينوم ُ **** بليله تعَمُّقٌ مشئوم

[أرشيف ملتقى أهل الحديث – 5 (4/ 285)]

6: “جاء في الصحيح أحب الصلاة الى الله صلاة داوود كان ينوم نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه” [أرشيف ملتقى أهل الحديث – 5 (116/ 382)]

وكل هذه الشواهد الواردة عن ثلة العلماء باللغة العربية وبمراجعة نخبة من الأساتذة، لا تدع مجالا للشك في ان الفعل (ينُوم) لهو من أصل وصميم اللغة العربية التي تحدثت بها القبائل العربية القديمة، ولا خطأ في استعماله بتاتا. ولو كان استعمال هذا الفعل خطأ لما صادقت عليه وأوردته نخبة العلماء المذكورة أعلاه.

الفعل (يستباح):

ومثلما اختلفت لغات العرب في اشتقاقها الفعل يكُود بدلا من يكاد، فهكذا رأينا أنها اختلفت في اشتقاق (يكاد) بدلا من (يكيد) أيضا؛ وهو ما ينطبق على الفعل (يستباح) الذي جاء بدلا من (يستبيح).

فوفق قواعد الإعلال الصرفية يكون أصل يستبيح هو البوح ويكون اشتقاقها على النحو التالي:  استبْوَح / يستبْوِحُ / يستبيح؛ بإعلال النقل والقلب إلى الياء معا.   

وعليه فيكون الاختلاف في الفعل (يستباح) هو في جعل أصل الفعل (يستبوَح) بفتح الواو وليس بكسرها، مما يُفضي وفق قواعد الصرف إلى إعلالها إعلال نقل وقلب إلى الألف بدلا من الياء لتصبح يَستَباح.

الفعل (يخان):

وأما الفعل (يخان) فهو ينطبق تمام الانطباق على لغة الحميريين في قولهم حار/ يحار بدلا من حار /يحور ، إذ وفق قياس النحاة لا بدّ أن يكون اشتقاق الفعل على النحو التالي:

خون/ يخوُن/ يخُون. أي بإعلال النقل فقط دون القلب إلى الألف لأن حركة الواو هي الضمة، تماما كما هو في الفعل حار: حور/ يحْوُر/ يحُور. وأما لغة الحميريين فقد شذت عن هذ القياس ليكون الاشتقاق فيها على النحو التالي:

حور/ يحْوَر/ يحار بإعلال النقل والقلب إلى الألف، وعليه جاء الفعل يخان من الخون: خون/ يخْوَن/ يخان.

أساس هذه الاختلافات في الاشتقاق:

لقد بيّنا اختلاف القبائل العربية في اشتقاق الفعل المضارع المعتل الأجوف، ورأينا في أن بعضها يستسيغ الصيغة الواوية للفعل والآخر يستسيغ الصيغة اليائية وبعضها يشتق الفعل مفضلا الألف فيه.

وقد بيّنا أعلاه أنه وفق قواعد النحاة الصرفية في الإعلال والإبدال لتوجيه هذه الاختلافات، فإن من بين الأمور التي تحدد كيفية الاشتقاق هو الاختلاف في حركة عين الفعل الأجوف، فكما رأينا بأن تحريك عين الفعل الأجوف ومدى مجانسة الحركة لحرف العلة، هو الذي يقرر الصيغة النهائية للفعل المضارع. ومما يفسر هذا الاختلاف بين القبائل في حركة عين الفعل والاشتقاق المترتب عليها ، هو اختلاف القبائل العربية في تحريك عين الفعل (الحرف الثاني من أصل الفعل ) بشكل عام حتى في الفعل الصحيح وبالذات المضارع منه، وهو ما يمكن أن يكون أساس وأصل الاختلاف في تصريف واشتقاق الفعل الأجوف الذي بيّناه أعلاه.

وبالنظر إلى لغات القبائل المختلفة نرى أنها اختلفت في تحريك عين الفعل كثيرا، وقد خصّ الدكتور أحمد علم الدين الجندي هذا الموضوع فصلا خاصا، ومما جاء فيه كان ما يلي مع بعض الشرح والتصرف بهدف الاختصار:

1: أولا إن النحاة قد قصروا الاشتقاق على صيغ معينة شذّت عنها الكثير من الألفاظ الواردة عن القبائل العربية، فمثلا أهمل النحاة صيغة : فعِل/ يفعُل رغم ورود الفعل: فضِل/ يفضُل عن لغة الحجاز ، بدلا مما قصره النحاة على فضَل/ يفضُل.

2: وفيما يلي بعض الأمثلة التي شذت عن قياس النحاة في التصريف .

_  قتَر يقتِر (لغة الحجاز)، جاء فيه لغة: قتر يقتَر

_ بطَش يبطِش (حجازية) ، بطَش يبطُش (لغة تميمية)

_ يسمُت (الأصل) ، يسمِت (لغة تميمية)

_  قراءة حمزة والكسائي والوراق على لغة أسد (يعكِفون على أصنامهم)، قراءة أخرى (يعكُفون).

_  الآية : (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرُجون)، جاءت في قراءة الأعمش على لغة هذيل ( يعرِجون).

_  قراءة ابن عامر وأبو بكر ( وما كانوا يعرُشون)، جاءت في القراءات الأخرى على لغة الحجاز (يعرِشون).

_  قراءة (وإذا قيل لهم انشِزوا فانشِزوا)، جاءت على لغة الحجاز بالرفع: (انشُزوا)

ومما أورده نفس المصدر أن في باب فعَل/ يفعِـُل، لا قياس فيه في قبائل قيس وتميم فكل امرئ منهم يتكلم بما يستحسنه، وقد وردت الكثير من الأفعال فيه بالوجهين بالكسر والضم، ولذا فيما عدا هذه الأفعال المنقولة سماعا، فللمرء أن يتلفظ بالأفعال الأخرى من هذا الباب على كلا الوجهين وإن لم يُسمع ذلك من العرب.

3: ومن الأختلافات الأخرى في الأفعال كان ما يلي:

_ رضِع/يَرضَع لغة قيس وتميم، يقابلها رضَع /يَرضِع وهي اللغة الحجازية ، وجاءت أيضا على :رضَع/ يرضَع

_  شحَج يشحَج ويشحِج، وجاءت: شحِج يشحَج

_  نكَل/ ينكُل جاءت نكِل/ ينكَل

_ عرِض يعرَض؛ جاءت أيضا : عرَض يعرِض

ولا يوافق المؤلفُ الرأيَ القائل بأن هذه اللغات المخالفة للقياس هي لغات رديئة، وذلك لورود العديد منها في القراءات القرآنية. ويتابع ببعض الأمثلة الأخرى من القراءات:

_  قراءة النخعي: (إن تَحرَص على هداهم) على :حرِص/ يحرَص. قراءة الجمهور:( تحرِص) على : حرَص/ يحرِص.

_  قراءة(سنفرَغ لكم) على فرَغ/ يفرَغ ، تقابلها قراءة (سنفرُغ لكم) على فرَغ/ يفرُغ

[ إلى هنا النقل من كتاب اللهجات العربية في التراث 557- 568]

وبناء على كل هذه الشواهد نرى بأن القبائل العربية في نفس الفعل، تارة فتحت عين المضارع وتارة رفعتها بالضم كما في (يفرَغ/ يفرُغ)، وهو ما يفسر الاختلاف في (يخان/ يخُون)، على اعتبار أصلها (يخوَن/ يخوُن) و(ينوَم/ ينوُم) على التوالي.

ونرى أن هذه القبائل تارة في نفس الفعل فتحت العين وتارة أخرى كسرتها، كما في: (يقتِر /يقتَر)، و(يرضَع /يرضِع)، و (يعرَض/ يعرِض)، و (يحرَص/ يحرِص)؛ وهذا ما يفسر الاختلاف في (يستباح/يَستبيح) على اعتبار أصلها (يستبوَح/ يَستبوِح).

هذا كله إذا ما أردنا أن نجاري النحاة في قواعدهم الصرفية، وإلا فلنا أن نختصر الطريق، ونقول كما أقره العديد من المحققين والنحويين بأن تلفظ القبائل العربية الفصيحة بكل هذه الألفاظ جاءت على سليقتها العربية الخالصة، بعيدا عن كل هذه القواعد التي وضعها النحاة، فالعربي الأصيل عندما تلفظ بالفعل (ينام) أو (ينوم) لم يخطر ولم يدر بباله كل قواعد الإعلال والإبدال التي استخلصها النحاة. ولنا أن نأخذ من العرب الفصحاء هذه الصيغ المختلفة لمجرد تلفظهم بها كلٌ وفق سليقته. ومما يؤكد هذا المبدأ هو أن الكثير من الألفاظ العربية الواردة عن العرب الفصحاء قد شذّت عن كل هذه القواعد التي وضعها النحاة.

فمجرد أن نجد القبائل العربية قد اختلفت في صوغ واشتقاق الفعل المضارع الأجوف تارة بالألف وتارة بالواو وتارة بالياء على اختلاف سليقتها العربية، فهذا بحد ذاته يفسّر ما جاء في لغة المسيح الموعود عليه السلام من اختلاف الاشتقاق لبعض الأفعال، فهي لا شكّ على لغات العرب المختلفة وسليقتهم الأصيلة التي جوزت هذا الاختلاف دون النظر في قواعد الصرف المختلفة.

الفصاحة في هذه اللغات:

ولا يظنّنّ أحد أن هذه اللغات والألفاظ التي وردت عن العرب هي لغات غير فصيحة، فقد أكد الدكتور أحمد علم الدين في كتابه، أن لغات هذه القبائل العربية كلها فصيحة، وأهم الأسباب لذلك هو ورود العديد منها في القرآن الكريم نفسه وكذا في القراءات القرآنية، ولذا  لا يمكن الاتكال على المعايير التي وضعها النحاة من أجل الحكم على فصاحة هذه اللغات حيث قال:

” ومن هذه الروايات أرى أن لهجات هذه القبائل فصيحة- على عكس ما رأى علماء العربية لأنها موجودة في القرآن، ولهذا أطعن في مقياس الفصاحة الذي وضعه رواة العربية ووزنوا به لهجات العرب جميعا” [ اللهجات العربية في التراث 1/ 183]

وبناء على كل ما تقدم نكون قد أثبتنا أن الأفعال المعترَض عليها في لغة المسيح الموعود عليه السلام : ينوم/ ينومون/ تنوموا/ يخانون/ يستباحون؛ كلها أفعال واشتقاقات صحيحة وفصيحة متجانسة مع سليقة العرب والقبائل العربية الفصيحة ولا مجال للطعن فيها. فهي بذلك تشكل مظهرا آخر من مظاهر الإعجاز اللغوي في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية.