يحاول القائلون بفرية والد عيسى تمرير هذه الفكرة لبعض الأحمديين بقولهم إنكم كنتم تؤمنون بأن المسيح حي في السماء وسينزل، ولكنكم تركتم هذه الفكرة بعد أن بيَّن لكم المسيح الموعود والإمام المهدي عليه الصلاة والسلام أنها خطأ وصححها مستدلا بالقرآن الكريم بعد أن أوحي الله إليه بها، مع أنه هو بنفسه كان يؤمن بهذه الفكرة من قبل هذا الوحي، فلماذا لا تكون فكرة والد عيسى أمرا فاته، أو لم يطلعه الله تعالى عليه فلم يصححها؛ خاصة أنها ركن من أركان ألوهية المسيح عند المسيحيين ومن الأفضل هدمها لكسر الصليب تماما!
وأقول إن في هذه الطرح مغالطات كبرى ومنها ما يلي:
1- نسي هؤلاء أن القرآن الكريم يصرِّح بوضوح بوفاة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في آيات واضحة تخصه شخصيا كقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران 56) {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} (المائدة 118). فهل يصرِّح القرآن بالمقابل بأن للمسيح أبًا؟ بالطبع لا!
2- القرآن الكريم، رغم ذكره للقاعدة العامة في أن كل البشر لا بد أن يموتوا، وأنه لا استثناء لأحد، وأنه لم يكن لأحد الخلد من قبل، وأن كل الأنبياء قد خلوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يكتفِ بهذا البيان، بل قدم آيات صريحة تذكر وفاته حصرا لتبديد العقيدة الفاسدة التي بنيت على حياته، فهل نجد إلى جانب القواعد العامة التي يقدمونها من بعض الآيات (وإن لم نسلم بأنها صحيحة وفقا لاستقرائهم) هل نجد تصريحا خاصا بأن للمسيح أبًا كما لغيره، بما أنه قد بنيت على ولادته من غير أب عقيدة فاسدة؟ بالطبع لا!
3- إن ادعاء هؤلاء بأن عقيدة والد عيسى تشابه عقيدة وفاة عيسى هو ادعاء باطل واستدلال خاطئ مقلوب. فحياة المسيح في السماء هي عقيدة لم يذكرها القرآن الكريم، وإنما لجأ إليها البعض ليوفِّقوا بين خبر الوفاة في القرآن وخبر النزول في الحديث، فعملوا على فرْض هذا المعنى على آيات القرآن المصرحة بالوفاة بوضوح. وهؤلاء في الواقع باعتقادهم بوالد عيسى إنما يشابهون من قالوا بعقيدة حياته في السماء وليس العكس، لأنهم يريدون أن يفرضوا أن للمسيح أبا على القرآن الكريم تحقيقا لغرض عندهم، وهو دعواهم بعدم تمييزه عن غيره أو إبطال ألوهيته حسب زعمهم. فهم الذين يتركون كلام الله ويحاولون ليَّ أعناق النصوص لتلائم عقيدتهم المنحولة الفاسدة.
4- فرضيتهم أن عقيدة ولادة عيسى من غير أب هي عقيدة انتحلها المسيحيون لإثبات ألوهية المسيح لاحقا، وأنه كان قد ولد من زواج طبيعي، ولم تكن هنالك تهمة بالزنا، تدل على جهلهم أو تجاهلهم لحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح ابتدعها بولس بعد حادثة الصلب بفترة وجيزة، وكان المعاصرون للمسيح موجودين، ولم يكن ممكنا أن يطرح فكرة أنه ابن الله استنادا على أنه من غير أب لو كانوا يعلمون قطعا أن السيدة مريم قد حملت به بعد الزواج! فمما لا شك فيه أنهم كانوا يعلمون أنها حملت قبل الزواج، ولكنهم لم يؤمنوا بأنه كان دون أب بل اتهموها أنها قد زنت- والعياذ بالله. ولو ظنوا أن هذه الفكرة قد نشأت مع الزمن بعد فترة طويلة فهم بذلك يؤكدون جهلهم بالكتاب المقدس، وبخاصة رسائل بولس، كما أن هذا لن يستقيم عقلا. فلو أراد أحد أن يبتكرهذه العقيدة بعد فترة طويلة جدلا، ولم يكن هنالك شهود يقرون بأن الحمل كان قبل الزواج، فلا مجال لإثبات ذلك، بل سيقولون إننا لم نعرف إلا أن المسيح كان ابن أبيه، ولن يصدق أحد من سيبتدع فكرة كهذه.
5- قول البعض في محاولة نفيهم لتهمة الزنا التي يصرِّح بها القرآن، والتي ما زال اليهود حتى اليوم يتهمون السيدة مريم بها، أن اليهود لو اتهموها بالزنا لرجموها إنما يدل على جهلهم بشريعة التوراة التي لا تحكم بالقتل عموما، أو بالرجم خاصة، للفتاة العذراء غير المخطوبة ولا لمن زنا معها، بل تحكم بوجوب أن يتزوج بها من زنا معها. والقتل عندهم هو للمرأة المتزوجة أو الفتاة المخطوبة التي لم تصرخ لتنقذ نفسها، أو للفتاة التي تتزوج وتكون غير عذراء ويكتشف زوجها ذلك، أو لابنه الكاهن. ولم تكن السيدة مريم من أي من هذه الفئات.
6- قولهم إن الحمل وحده يكفي لإثبات الزنا على فتاة غير متزوجة يدل أيضا على جهلهم بأحكام شريعة الإسلام. فالزنا لا يثبت بالحمل، بل يثبت بالشهود الأربعة فقط أو بالملاعنة بين الزوجين. والفتاة قد تحمل نتيجة لاغتصاب أو لخديعة أو بعض الأسباب الأخرى.
7- ظنهم أن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لم يتنبه إلى أن فكرة ولادته من دون أب يستخدمها النصارى لإثبات الألوهية، أو أن الله تعالى لم يعلمها له وهو المكلف بكسر الصليب، إنما يدل على جهلهم بكتب المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ونصوصه المتنوعة. لقد رد حضرته على عقيدة ألوهية المسيح ردودا تفصيلية في كتبه، وبيَّن أن وصفه بأنه “كلمة الله” و”روح منه” إنما جاءت لترد على تهمة الزنا للسيدة مريم عليها السلام، وهي لا تدعم الألوهية بتاتا. وكذلك بيَّن أنه ليس من سنة الله تعالى أن يرسل ابنا له، فهذا لم يحدث من قبل، بل من سنته أن يرسل الأنبياء.
8- الواقع أن هذه الفرية قديمة ولم يخترعها هؤلاء، وكان يقول بها عدد من المسلمين في زمن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام متأثرين بالنزعة الإلحادية الغربية التي كانت تسمى بالطبيعية. وهؤلاء كانوا مسلمين بالاسم، ويجهلون ما يقوله القرآن الكريم. وقد رد عليهم حضرته أيضا وبيَّن أن عقيدتهم هذه هي في الواقع خروج من الإسلام، لأنها إنكار صريح للقرآن الكريم ولقدرة الله تعالى. فلو كان كلامه هذا ليس صحيحا جدلا لكان هذا هو الوقت الملائم لكي يوحي الله تعالى له بالعقيدة الصحيحة! ولكن الذي حدث هو العكس تماما.
9- ادعاؤهم بأنه لا يوجد وحي للمسيح الموعود يصرِّح بأن المسيح عيسى بن مريم كان دون أب هو ادعاء باطل. فرغم خطأ معيارهم الذي وضعوه في قبول ما فيه وحي صريح والإعراض عما ليس فيه وحي صريح من كلام المسيح الموعود، إلا أن هنالك وحي صريح حول هذا في الخطبة الإلهامية التي هي كلها وحي. هذا فضلا عن العديد من المواضع التي كرر فيها حضرته ذكر ولادة المسيح من غير أب وما يترتب عليها وتفنيد ما قد يبنى عليها من مفاهيم وعقائد خاطئة عند المسيحية.
10- ظنهم أن عقيدة أساسية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمهمة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام قد لا يُعلِّمها الله تعالى لحضرته وسيعلمها لأتباعه من بعد إنما هي فرضية تسيء إلى الله تعالى الذي يتمّ رسالة كل نبي ويعلمه كل ما يلزم لمهمته. وهي عمليا كفر جزئي بالمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ومقدمة للتقليل من شأنه والتشكيك به كلية، والعياذ بالله.
11- فهمهم الخاطئ للسنن الإلهية جعلهم يظنون أن فهمهم لآيات عامة لا تفيد ما يذهبون إليه إنما هو سنة إلهية. السنة الإلهية هي السنة التي يحددها الله تعالى ويقيدها بآيات واضحة، وليس ما جرت عليه العادة. فمثلا عندما أثبت المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أن الميت لا يمكن أن يعود إلى الحياة في هذه الدنيا وفقا لسنة إلهية فكان هذا بناء على أيات كقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (الأنبياء 96)، وكذلك الحديث الشريف الذي يطابق هذه الآية كحديث جابر بن عبد الله. ولكن نجد بالمقابل أن الله تعالى يقول في القرآن إن ولادة المسيح دون أب ليست مما مما يخرج عن سنة الله تعالى، فالله تعالى خلق آدم دون أب أو أم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران 60).
هذه فقط بعض النقاط التي وددت أن أبين فيها مغالطاتهم، وأرى أن فيها الكفاية.
وأقول في النهاية إن الذين قاموا على هذه الفرية وأعادوا بثها من المطرودين والمرتدين والمنافقين هم بأنفسهم يعتبرونها اجتهادا يحتمل الخطأ والصواب! وهذا يعني أنهم يقرون تلقائيا ألا دليل قاطعا بيدهم حولها. ولكن البعض ممن تبعوهم بحمق وتهوُّر في تبني هذه الفرية قد أخذوا يعتبرونها هي العقيدة الأساسية عندهم. والواقع أن كل هؤلاء إنما يتذرعون بهذه العقيدة لمهاجمة الجماعة والخلافة والتشكيك في المسيح الموعود، ولكن جهودهم الفاشلة لن تعود عليهم سوى بالخيبة والخزي والخسران. والواقع أنه لن ينجذب إليهم إلا الذي في قلبه مرض، أما المؤمن الحقيقي فليس صعبا عليه مطلقا أن يكتشف حقيقتهم. ولم أكتب ما كتبت إلا لمساعدة بعض الإخوة في إزالة أي شبهة قد تتولد لديهم أو يُشكل عليهم الرد عليها، وإلا فالأمر لا يحتاج إلى مزيد.