هنالك عرف معروف في السنة النبوية، وهو أن ما نتبعه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن مواقفه هو الموقف الأخير من حضرته صلى الله عليه وسلم. أما ما قبله، فيصبح غير قابل للعمل، أو بمعنى آخر منسوخا. وهذا هو النسخ الذي كان يفهمه الصحابة بصفة عامة، ولكنه لا علاقة لها بنسخ القرآن الكريم؛ فالقرآن الكريم يحتوي الحكم الأخير الذي لا ناسخ له، وكل آياته وأحكامه عاملة غير معطلة.
فعلى سبيل المثال، فقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتخذ بيت المقدس قبلة له في صلاته في أول عهد النبوة، وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فترة طويلة، إلى أن أمره الله بتغيير القبلة، وجاء هذا الأمر في قوله تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة 145)
أما الحكم الأول بالتوجه إلى بيت المقدس فهو لم يكن حكما قرآنيا، وقد نسخه الله تعالى بهذه الآية.
وهنالك أمثلة كثيرة لأحكام كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بها، ثم بعد ذلك أمر بما يخالفها، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:
{عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } (صحيح مسلم, كتاب الأضاحي)
فهنا يتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بشيء – ربما يكون بعضه اجتهادا منه وربما يكون بعضه حكما مؤقتا قد نزل عليه- ثم بعد ذلك غيَّره وأمر بما يخالفه.
فلو قال أحد اليوم مثلا إنني سأقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأتوجه إلى بيت المقدس، فهل سيكون محقًّا؟ أو إذا قال إنه محرم أكل لحم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، أو قال إن النبيذ مسموح به في سقاء، وهذا كله وفق أوامر للنبي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل يكون محقًّا؟
ولم يقتصر الأمر على الأحكام، بل كان هذا النوع من النسخ أيضا في الأفهام، وهو يختلف بالطبع عن النسخ الأصولي الذي يتعلق بالأحكام فقط، والذي نؤمن به، ولكننا لا نرى أن هنالك نسخا في القرآن، بل نرى أن القرآن جاء بالأحكام الناسخة وأنه لا منسوخ فيه. وهذا النسخ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ موقفا معينا بناء على وحي الله تعالى، ثم يأتي وحي آخر فيأمره باتخاذ موقف آخر وهكذا.
ومن الأمثلة على ذلك هو تكليفه صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان جاء الوحي أولا بأنه مكلَّف بتبليغ عشيرته الأقربين فقط في البداية، إذ قال تعالى:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } (الشعراء 215)
فتوجه إلى عشيرته أولا.
ثم جاءه الوحي يأمره بتبليغ مكة وما حولها، أو العرب خاصة، إذ قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى 8)
فتوجه إلى تبليغهم.
ثم أمره الوحي بأن يتوجه للناس كافة، إذ قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سبأ 29)
ففي المرحلة البدائية ظن النبي صلى الله عليه عليه وسلم أنه مأمور فقط بتبليغ قريش، ففعل، ولكن الله تعالى قد أمره بعد ذلك بأن يتوجه لمكة وما حولها، وهذا ما دفعه للذهاب إلى الطائف التي هي حول مكة، ثم أُمر بتبليغ العرب جميعا، لذا بدأ يعرض نفسه على القبائل ويسعى لتبليغ العرب جميعا. ثم بعد ذلك أبلغه الله تعالى أنه مكلف بتبليغ العالم أجمع، وهذا ما سعى الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم للقيام به.
وفي هذه المراحل البدائية من دعواه صلى الله عليه وسلم، كان يرى أنه لا أفضلية له على يونس أو على موسى عليهما السلام، لأن نطاق دعوتهما وما أنجزاه كان يبدو أكبر من نطاق دعوته حتى ذلك الحين، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
{لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ أَوْ فِي أَوَّلِ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَام } (صحيح مسلم, كتاب الفضائل)
ولكن الله تعالى قد كشف له لاحقا أنه أفضل منهما، بل هو أفضل الرسل وخاتم النبييين، وجاء ذلك في السنة الخامسة للهجرة، إذ قال تعالى:
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (الأحزاب 41)
فعند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بناء على الوحي:
{عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ } (سنن الترمذي, كتاب تفسير القرآن عن رسول الله)
وهكذا يتضح أن أفضلية النبي صلى الله عليه وسلم بل ومقامه الصحيح لم يُكشف عليه إلا متأخرا بالوحي. فهل يمكن لأحد أن يقول الآن إن يونس عليه السلام هو أفضل الأنبياء، أو أن موسى عليه السلام أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بناء على الأحاديث السابقة، أو يصرخ ويقول إن هنالك تناقضا في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، أو لماذا لم يخبره الله بمقامه منذ البداية وصعَّب الأمر على الناس؟!
وهكذا نرى أن موقف النبي صلى الله عليه وسلم قد نَسخ المواقف القديمة، والأحكام النهائية التي نزلت عليه نسخت الأحكام السابقة أو المؤقتة، وهذه سنة الله الجارية مع الأنبياء، إذ يميلون دوما إلى التواضع ولا يتجرأون على إعلان حكم أو مكانة لهم لم يُعلمهم بها الله تعالى. أما الذين يعترضون على هذا التغيير أو على هذا النسخ -إن جاز التعبير- فهم السفهاء، إذ يقول تعالى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (البقرة 143)
ولا شك أن لله تعالى حِكمًا عظيمة في هذا التدريج، ولكن ليس منها إخفاء الحقائق أو الخشية منها، بل من أهم جوانبها إظهار مقام الأنبياء ومدى تواضعهم وسمو أخلاقهم.
وهكذا، بالنظر إلى موقف المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام من النبوة، نجد أنه لم يقبل أن يسمى نبيا منذ تكليفه ومأموريته، والتي كانت في زمن البراهين الأحمدية حوالي 1882، إلا بالمعنى اللغوي. إذ قال إنه نبي بمعنى أن الله تعالى يظهره على الغيب، وأنه كلفه بمهمة الدفاع عن الإسلام، وذلك بناء على قوله تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } (الجن 27-28)
وهذا لأنه كان يرى أن النبي لا يكون نبيًّا حقيقيا إلا إذا كان صاحب شريعة أو كان مستقلا؛ أي له سلطة على الشريعة بحيث يستطيع التعديل فيها. فهو من ناحية قَبِل تسميته نبيا من جانب، وهو الجانب اللغوي، ومن ناحية أخرى نفى أن يكون نبيا من حيث التشريع والاستقلال.
ومع أنه كان مأمورا من الله تعالى، وكان نبيا بهذا المعنى اللغوي، إلا أنه رفض أخذ البيعة إلا عندما أمره الله تعالى، وكان ذلك في أواخر عام 1888، ثم أخذها في 23/3/1889، وبهذا تأسست الجماعة حينها.
ثم بعد ذلك، في أواخر عام 1890، أطلعه الله تعالى على أنه هو المسيح الموعود الذي أنبأ به القرآن الكريم والحديث الشريف، لذلك، فبما أن أعماله هي أعمال كان ينبغي أن يقوم بها نبي، وهو ليس نبيا على الحقيقة حسب ظنه حينها، فقد قال بالنبوة المجازية، وكان قصده إنه ليس نبيا مستقلا ولا تشريعيا أيضا.
وحدث في أثناء ذلك جدال حول ادعائه النبوة المجازية، فقال حضرته إن ما أقصده ليس النبوة الحقيقية التي هي التشريع والاستقلال بحال، وإن كان هذا المصطلح يزعجكم فاشطبوه ولا تعتبروه موجودا البتة، واستبدلوا كلمة نبي حيثما وردت بكلمة محدَّث، وكان هذا في إعلان أعلنه عام 1892. وهنا أيضا لم ينف عن نفسه النبوة المجازية، بل قال إن المصطلح بحد ذاته لو شكَّل مشكلة لأحد فلا حاجة له، ولكني لست نبيا مستقلا أو تشريعيا على كل حال.
واستمر بعد ذلك بالقول بالنبوة المجازية أو النبوة الناقصة في كتاباته، إلى أن أخبره الله تعالى أن نبوته هي نبوة حقيقية- وذلك عام 1901 وأورد ذلك الأمر بوضوح في كتاب حقيقة الوحي 1907- وأن النبوة الحقيقية لا يلزم أن تكون مستقلة أو تشريعية، بل التعريف اللغوي الذي ورد في القرآن الكريم للنبوة هو التعريف الصحيح، إذ ليست النبوة سوى أن يصطفى الله شخصا، ويسميه نبيا، ويظهره على الغيب بوحي يتضمن البشرى لمصدقيه ومتبعيه والإنذار لمخالفيه وللمعرضين عنه، وبالطبع يكون مكلَّفا بمهمة أو رسالة ليس بالضرورة أن تكون شريعة جديدة، بل مهمة يحددها الله تعالى ويرسله لأجلها، وبذلك يكون نبيا ورسولا؛ إذ إن النبي رسول والرسول نبي. أما التشريع والاستقلال فهي خصائص لا علاقة لها بأصل النبوة، ولكنها لازمت الأنبياء السابقين جميعا، لذلك اختلط الأمر على الناس.
وعند ذلك أكَّد حضرته على النبوة، وألف كتيِّبا صغيرا في نفس العام أكد فيه أنه نبي ورسول، وأنه لم ينف في يوم من الأيام عن نفسه هذه الصفة، بل ما كان ينفيه عن نفسه هو النبوة المستقلة أو التشريعية التي كانت في ظنه هي النبوة الحقيقية. أما مصطلحات النبوة اللغوية والمجازية والناقصة وغيرها، فهي أصبحت منسوخة بهذا المعنى؛ أي إذا صادمت النبوة الحقيقية.
فهل كان عليه الصلاة والسلام بدعا من الرسل إذ اطلع على مكانته ومنزلته وحقيقة نبوته متأخرا؟ ألم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على مقامه ومنزلته في السنة الخامسة للهجرة قبيل وفاته بخمس سنوات؟ وهل يحق لأحد أن يلجأ إلى أقواله السابقة في نفي النبوة أو لعن من يدعيها أو أنه لا حاجة لنبوة كهذه في هذا العصر – وكان يقصد دوما النبوة المستقلة أو التشريعية- ليقول: انظروا، ها هو يتناقض مع نفسه؟! ولماذا يُدخل الناسَ في حرج؟ ولماذا لم يقل له الله ذلك منذ البداية؟!
من يعترض على ذلك فإن عليه أن يعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته، بل على الأنبياء جميعا التي كانت هذه سنتهم.
إلا أنه يجدر أخيرا الانتباه إلى نقطة هامة تتعلق بتغيير المواقف أو النسخ في الأفهام أو الأحكام، ألا وهو أنه في كثير من الأحيان لا يصبح الكلام السابق لاغيا تماما، بل المفهوم الذي كان قد قيل لأجله بتلك المناسبة هو الذي أصبح منسوخا، ثم بعد النظر مجددا في النص بعد انكشاف المعنى النهائي يمكن تَمَوضُع النص بصورة جديدة تنسجم مع المعنى الأخير. ومن الأمثلة الرائعة على ذلك نسخ حكم الخمر في القرآن الكريم، إذ جاء أولا التحذير من ما يرتبط بها من إثم إذ قال تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } (البقرة 220)
ثم جاء النهي عن الصلاة إذا كان المرء سكران، وفهم الجميع حينها أن النهي هو عن شرب الخمر الذي يؤدي إلى السكر، إذ قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء 44)
ثم بعد ذلك نزل حكم تحريم الخمر القاطع بقوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة 91)
وقد فهم الصحابة حينها أن هذا الحكم الأخير قد نَسخ ما قبله، وكان موقفهم صحيحا بلا شك، ولكن هذا لا يعني أن الآيات السابقة أصبحت منسوخة لا يصح العمل بها، بل أصبحت متموضعة بطريقة جديدة تنسجم مع هذا التحريم، وتبين أن عدم الاقتراب من الصلاة في حال السكر لا يعني مجرد شرب الخمر بل أيضا كل ما يسكر كدواء أو غيره أو ما يذهب العقل ويذهله من الغضب الشديد وغيره. فبذلك تبينت أحكام جديدة في النصوص تنسجم مع الحكم النهائي.
وهكذا أيضا، بالنظر إلى نصوص المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام في نفي النبوة المستقلة وإثبات نبوة ابتدأت بالنبوة اللغوية ثم المجازية أو الناقصة ثم الحقيقية، نرى أكثرها ينسجم مع المفهوم النهائي ولا يناقضه، فنبوته مجازية أو ناقصة من حيث الكمال أيضا، لأن النبوة الكاملة هي نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال، حتى وإن لم نجد توافقا، فنحن مع الموقف الأخير الذي كشفه الله تعالى له، والذي هو النبوة الحقيقية غير التشريعية وغير المستقلة.
أما ما يتعلق بموقف حضرته وقوله إن الذي ينكر النبي غير التشريعي وغير المستقل فإن هذا لا يوجب الكفر، وهذا ما ذكره في ترياق القلوب 1899، فهذا لأن حضرته لم يكن يرى أن نبوته حقيقية حينها، بل مجازية. أما عندما كشف الله له أن نبوته حقيقية فقد أكد أن إنكاره كفر، ولكن هذا لا يعني أن المسلمين الذين لا يؤمنون به ستنزع عنهم صفة الإسلام أو يخرجون من الملة، ولكن المقصود أن إنكاره كفر عند الله تعالى، ولن ينفع المسلم كونه مسلما إن أنكر مبعوثا ربانيا أو نبيا بعثه الله تعالى. فلهذا اقتضى إعلام الله تعالى له بنبوته الحقيقية أن يعلن هذا الموقف.
أما بالنسبة للخليفة الثاني رضي الله عنه، فإن كلامه متوافق مع بعضه من البداية إلى النهاية، ولفهمه يجب التمييز بين الإخراج من الملة أو نزع صفة المسلمين عن غير المؤمنين بالمسيح الموعود – وهذا الذي لا نقول به- وبين أن موقفهم هذا كفر، ولكن الله تعالى هو الأعلم بحقيقتهم، وهو الذي سيحاسبهم عليه. وهكذا يتبين أننا لا نؤمن بتكفير يخرج من الأمة الإسلامية أو ينزع عن المسلم صفة المسلم، ولكننا نؤمن بأن إنكار حضرته كفر وعدم الإيمان به يجعل الذين لم يؤمنوا في صف الكافرين عند الله تعالى.
وأخيرا، لا بد أن يكون واضحا أن الأنبياء والمبعوثين الربانيين يكونون تحت الوحي والعصمة دوما، وأن هذا التغيير والتبديل الذي يحدث معهم لا يقدح في عصمتهم، بل يكشف عن تواضعهم ومزاياهم المتنوعة ويخدم أغراضا أخرى شاءها الله تعالى يطول الحديث في تفاصيلها.
ما أود التركيز عليه أخيرا هو أن هذا التدرج في الفهم، والذي اقتضى مواقف متنوعة لحضرته عليه الصلاة والسلام في حينها، هو دليل صدق حضرته عليه الصلاة والسلام ويدل على أنه لم يكن مخطِّطا لهذا الأمر مسبقا، بل كان يتبع ما يوحى إليه ويتصرف بحسبه ويغيِّر ويبدِّل وفقا للوحي، وهذا ما أمر الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم ليقوله:
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (يونس 16)
وقوله تعالى أيضا:
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الأَحقاف 10)