من عجائب القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، هو أنه قد وضع الأساس للنقد الأدبي وحلَّ إشكالياته وفنَّد تخرُّصاته، بل وكان واضحا أن هذا الأساس قد تلمَّسه الكتاب والشعراء العرب بعد الإسلام والتزموا به، وإن لم يصرِّحوا بذلك أو يعلنوا. ولكن هذا ما يفيده الاستقراء لتاريخ الأدب والنقد العربي بعد الإسلام.
فقد بيَّن القرآن الكريم بأن المعيار الصحيح لانتقاد أي نصٍّ هو بكل بساطة الإتيان بمثله بما يتفوَّق عليه، وبما يتدارك فيه الناقد ويحسِّن ما لم يكن ملائما أو ما قد أخطأ فيه الكاتب للنص الأول. أما إذا كان الناقد عاجزا عن ذلك فهذا يُثبت تلقائيا عدم أهليته للنقد وأن كلامه كله لا قيمة له ولا وزن. لذا يقول الله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(البقرة 24)
ولا بد من الالتفات إلى أن هذه الآية لا ترد فقط على الجانب الاعتقادي وعلى إعراض الناس عن الإيمان بالقرآن الكريم وإنما ترد أيضا على منتقدي القرآن الكريم ولغته وإعجازه المتنوع، فالله تعالى يقول لهم إن كنتم محقين فيما تقولون عن القرآن الكريم فأتونا بمثل شيء منه ليتبين أنكم أهلٌ لهذا النقد أم لا. أما إذا كنتم عاجزين فلا وزن لانتقادكم.
وبما أن النقد للنصوص الدينية خاصة هدفه التكذيب، فالله تعالى أيضا أكد على معيار الإتيان بالمثل ليس في جودة النص فحسب بل فيما يتعلق بالهداية لمن لم تعجبه هذه الهداية، وليس مقبولا مطلقا أن ينتقد أحد عقيدة دون أن يأتي بالبديل، بل الواجب عليه أن يأتي بالبديل الأفضل والأهدى. لذلك يقول تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
(القصص 49-50)
فالأساس الذي وضعه الله تعالى للنقد كما هو واضح، هو الإتيان بالمثل وبالبديل، وإلا فلا حق لأحد أن ينتقد أو يعترض.
واستنباطا من القرآن الكريم واستهداءً بهديه فقد ظهرت ظاهرة النقائض والمعارضات الشعرية التي هي في حقيقتها نقد أدبي وقور موزون، وإن كانت النقائض قد كانت صدامية وكان هدفها النقد عن طريق النقض، إلا أنها تتوافق مع المعارضات في اتِّباعها منهج الإتيان بالمثل، بشعر يضاهئ الشعر الأول، ويُترك الأمر للناس لكي يحكموا ويروا هل تفوَّق عليه أم لا.
ومما يدلُّ أيضا أن شعر المعارضات إنما كان نقدا أيضا وفقا لمبدأ الإتيان بالمثل القرآني رغم عدم صداميته هو أنها قد سُمِّيت بالمعارضات مع أن الشاعر لا يعترض على الشاعر السابق، بل قد يكون مُجلِّاً له ومحبا، ولا يوجد في قصيدته ما يفيد النقد أو النقض، ولكنها منظومة على غرارها وزنا وقافية ليلتفت الناس إلى ما فيها ويقارنوا. وصحيح أن المعارضات قد تكون جاءت من العرض وليس الاعتراض، ولكن العرض إنما كان هدفه المقارنة. علما أن المعارضات كانت تستهدف أحيانا فقط إثبات مجاراة شاعر مستجدٍّ لفحول الشعراء، وكان يكفيه هذا مجدا، ولكنها نوع من النقد المهذَّب المتواضع الذي يليق بالتلميذ في حضرة أستاذه.
أما النثر المكتوب المرصَّع والمحلَّى بأساليب البيان والبديع المتنوعة فقد ظهر متأخرا نوعا ما في العصر العباسي، وبدأت كتابة المقطوعات النثرية التي سُمِّيت بالرسائل وعُرف عدد من الكتاب عبد الحميد الكاتب وابن العميد أخيرا حتى قيل “بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد“، ثم ظهرت الأقاصيص القصيرة المسماة بالمقامات. ولم تشهد الكتابة ظاهرةً مماثلة للمعارضة الشعرية في النثر إلى فترة طويلة، كما أنها ليست بظاهرة حتى يومنا هذا. ولكن يمكن القول بأن هذه المعارضة النثرية قد ابتدأت بالمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذي كتب على نسق بدائع النثر العربي كالحريري والهمذاني وأثبت طول باعه من ناحية وقدَّم ما هو أهدى وأفضل وأمثل وأقوم وأكمل إذ ارتقى بالمعاني ورفعها لتصبح في خدمة الدين وقيمه السامية وتعاليمه. وبهذا فقد اتَّبع المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام المنهج القرآني في النقد الذي هو الإتيان بالمثل، وارتقى باللغة والمعاني والأدب على السواء. ولعل يوما سيأتي حين تصبح هذه المعارضة ظاهرة في كتابات الكتَّاب المجيدين اتِّباعا للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الذين قد أصبحوا كالعملة النادرة في هذه الأيام.
أما شعر المعارضات فقد أبدع فيه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وخاصة في معارضة طرفة بن العبد، التي قدَّم مقابلها أبياتا رائعة ارتقت بتعابير وأبيات طرفة وأظهرت قدرة حضرته الفائقة التي لا يملك منصف نظرا إلى أحوال حضرته إلا الاعتراف بأنها إعجازية.
وباختصار، فإن النقد المقبول وفقا للقرآن الكريم إنما هو الإتيان بالمثل بما هو أهدى وأفضل وأجمل وأكمل، وإلا فلا قيمة ولا وزن لقول هاذر يهرف بما لا يعرف. وهذا المبدأ في الواقع يتضمن خُلقا طيبا وأدبا رائعا يضبط اللسان ويمنع انطلاق العنان في قلة الأدب والتطاول للسفهاء في بلاط العظماء، ويكون سببا للارتقاء والرقي في الأدب والأخلاق كليهما. فبدلا من القول إن هذا القول ليس مناسبا هنا أو هناك يقوم الكاتب أو الشاعر بتقديمه بالصورة التي يراها أنسب وأكمل، وبذلك يلتزم بالأدب من ناحية ويحقق غرض النقد من ناحية أخرى بصورة غاية في الإيجابية.
والجميل أن القرآن الكريم بنفسه كان نموذجا لهذا النقد، إذ قدَّم الله تعالى فيه ما هو خير مما في الكتب السابقة من العقائد وأحسن القصص بل وفي روائع ما قيل سابقا من كلام العرب، واعترف العرب بعظمته وأفضليته وحلاوته وحسن صياغته بعد أن رأوا جماله وكماله الفائق.
الفائدة الأخيرة التي أود التأكيد عليها هو أنه لا حقَّ لجاهل سفيه لم تثبت قدرته في الكتابة أو الشعر أن ينتقد كلام المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، فموقف كهذا إنما هو موقف الخزي والهوان والذلِّة لكل من يختار لنفسه هذا. فمن أراد أن يُثبت طول باعه وعلوَّ كعبه فعليه أن يأتي بمثل ما جاء به حضرته عليه الصلاة والسلام. وقد كان حضرته دائما يتحدى خصومه ليأتوا بمثل ما كان يكتب كلما كتب كتابا رائعا، وكانوا دائما لا يقدرون ويكتفون بالإساءة والبذاءة والكلام الفارغ الذي يثبت جهلهم، ومنه نسبة استخدام التعابير في المعارضة الشعرية أو النثرية إلى السرقة لشدة غبائهم وسفاهتهم، ثم يولَّون مدبرين.
فما أبعد هؤلاء وخلَفهم الطالح من السفهاء عن القرآن الكريم ومبادئه وأخلاقه، والحمد لله الذي يحقُّ الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.