الخائن هو من يظهر أنه ينتمي إلى جماعة أو فئة أو دولة أو قوم، ولكنه يعمل ضدهم في الخفاء ويتحالف مع أعدائهم، ويحاول الإضرار بهم عندما يجد فرصة، ويحاول أن يُظهر الولاء والوفاء ما استطاع حتى لا يُفتضح أمره، فإن افتضح أمره فرَّ إلى الأعداء وأخذ يعلن عدائه لمن كان مندسا بينهم. هذا الفعل المشين وهذه الجريمة الأخلاقية والتي تعاقب عليها قوانين الدول أيضا لا تبرر بحال من الأحوال، مهما كان الفريق الذي تعرض للخيانة ظالما أو مخطئا من وجهة نظر الخائن، وسواء كان هذا الفريق على الحق أو على الباطل، وسواء كان انتماؤه لهم اختياريا أو بالولادة.
والخيانة فعل مذموم وجريمة خسيسة، أدانه الإسلام ونهى عنه، ولم يقبل أن يكون المسلم خائنا إن كان قومه مشركين، ولم يقبل أن يضررهم بأي صورة، مادية أو معنوية، أو أن يسرق أو يسلب شيئا منهم بدعوى أنهم كافرون أو ظالمون مخطئون، بل أوجب عليه أن يؤدي الأمانات التي بين يديه لهم، وأن يكون لهم ناصحا أمينا ما استطاع، بل واجبه أن يمنعهم من ظلمهم بدافع حبه ومواساته لهم، فإن اضطهدوه وضيقوا عليه فعليه أن يهاجر ويتركهم.
ومن أمثلة الوفاء وتأدية الأمانة التي يأمر به الإسلام ما حدث في غزوة خيبر؛ إذ أسلم أحد الرعاة الذي كان يعمل لليهود، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قطيع غنم لهم، وهم محاصرون، فأراد أن يسلِّمه للنبي صلى الله عليه وسلم، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أخذه، وأمره أن يعيده إليهم، بل قال له أن يضرب في وجهها بعض الحصى فستعود تلقائيا، فاستغرب أنها رجعت وكأن سائقا يسوقها، مما يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على عودتها لأصحابها، ونفَّذت الملائكة أمره. (سيرة ابن هشام)
ومن الأمثلة الأخرى أن اثنين من الصحابة كانا قد خرجا إلى الهجرة، فلقيهم المشركون، فأخذوا منهم عهدا ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسيخلون سبيلهم، فلما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم حفظ هذا العهد للمشركين وقال: {نَفِي بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ} (مسند أحمد، كتاب باقي مسند الأنصار)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تأكيدا على هذا المبدأ الذي زخرت به سنته: {أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ} (مسند أحمد, كتاب مسند المكيين)
فبهذا قد أغلق الإسلام أي باب للخيانة تحت أي مبرر، حتى للأعداء من المشركين في وقت الحرب، وهذه درة ثمينة في تعاليم الإسلام من الصعب أن نجد مثيلها في غيره.
وهنا نستذكر فعل ذلك المعترض المرتد الذي سرق المواد من عمله وأساء الائتمان، وكان يمارس الخيانة لفترة طويلة، ويحاول أن يجعل عمله هذا مشرفا ونبيلا، بل يقدمه بكل وقاحة على أنه تضحية!! مع أنه لم يترك الجماعة إلا بعد أن افتضح أمره، فلا ينبغي أن يمثل دور البطولة ويتجاسر، فهو كما يقول المثل : “مجبر أخوك لا بطل”، أي لن تكون التضحية تضحية إلا إذا قام بها الشخص باختياره، أما أن يكون قد طُرد أولا فهذا لا يبقي له خيارا، ولكنه للأسف ذهب بعيدا وتردى وبالغ في الإساءة ظانا أنه يدافع عن نفسه، ولكنه لم يجلب لنفسه سوى مزيدا من التردي والإساءة.
فهل هذا الشخص الموغل حاليا في الإساءات والسب والشتم والتنابز بالألقاب، والذي يتهور يوما بعد يوم ويبالغ ظانا أنه بذلك سيسبب لنا الأذى، هل لهذا الشخص من مبرر أو مرجع أو مستند يمكن أن يستند إليه ليجعل فعله هذا المحرم في الإسلام والمذموم في أعراف الأمم جميعا أمرا حسنا أو مشرِّفا؟
ومما يلقاه الخائن من عذاب عاجل هو أن الخائن محتقر حتى عند الذين يخون من أجلهم، بينما الملتزم بقومه والمدافع عنهم بكل قوة يحظى باحترام أعدائه، بغض النظر عمن هو على الحق أو على الباطل، وحتى لو كان الخائن يخون من هم على الباطل لأجل أهل الحق. ومهما فعل الخائنون فلن يضروا الله ولا جماعته شيئا، بل الله سيتولى الدفاع عن الذين آمنوا، وسيخزي الله تعالى الخائنين الكافرين بنعمة من أنعموا عليهم، وصدق تعالى إذ قال:
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج 39)