الاعتراض:
فال الميرزا في كتابه ازالة الاوهام ص252: ان امام المحدثين محمد ابن اسماعيل البخاري يقول في صحيحه بأنه لم يحدث تحريف لفظي في هذين السفرين (ويقصد سفري الملوك الثاني وملاخي). كيف يجرؤ على إحالة القول بعدم تحريف سفري الملوك وملاخي إلى صحيح البخاري ؟ وأين قال البخاري ذلك في صحيحه؟
الرد:
بداية نستعرض النص في سياقه من كلام المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كما يلي:
“ولا يجوز القول تعنّتا بأن هذه الكتب كلّها محرّفة ومبدلة. لا شك أن هذه المواضع لم ينلها التحريف، وأن كلا الحزبين؛ أي اليهود والنصارى، يعتقد بصحة هذه النصوص. وأضِفْ إلى ذلك أن إمام المحدثين، محمدا بن إسماعيل البخاري يقول في صحيحه بأنه لم يحدث تحريف لفظي في هذين السِفْرَين.” (إزالة الأوهام، ص 252)
إذن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حدَّدَ في الكتاب المقدس بعض الأسفار بأنها لم تتعرض كلها للتحريف إذ ليس كله طاله التحريف والتبديل بل توجد بعض الأسفار أو الإصحاحات أو الأعداد (تقسيمات الكتاب المقدس مثل تقسيمات القرآن الكريم كالآية والسورة والجزء) في التوراة لم ينلها التحريف، بل توجد النصوص الصحيحة التي تحمل نبوءات حول سيدنا عيسى ؑ وسيدنا خاتم النبيين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كنزول إيليا قبل المسيح وكيف شرح المسيح ؑ ذلك في الإنجيل، وغير ذلك من أخبار غيبية يسيء الأخوة النصارى فهمها فقط، ولم يقل ؑ أن كل التوراة على حالها ولم تُحرف بل حدد منها مواضع فحسب. وقد كان سياق الكلام بالفعل عن سِفري “الملوك” و “ملاخي”. لهذا كان لا بد من وضع النص في سياقه حيث يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام “لا شك أن هذه المواضع لم ينلها التحريف” أي أن حضرته يتحدث حول مواضع معينة فقط من الكتاب المقدس وليس عن أسفار كثيرة بكاملها أو عن الكتاب كله كما يحاول صاحب الاعتراض أن يبثه عبر صياغة السؤال بهذا الشكل. فالجواب هو أن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كان يتحدث عن بعض المواضع ذات الطبيعة الغيبية فقط التي لم يتمكن اليهود والنصارى من إخفاءها أو تغييرها وإن كانوا يَرَوْن تأويلها بينهم بأوجه مختلفة.
ما هو معنى التحريف؟
أما قول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن الإمام البخاري رحمه الله كان يقول بأن هذين السفرين أي سفري الملوك وملاخي لم يتعرضا للتحريف اللفظي فهو صحيح تماماً ومعروف عن البخاري رحمه الله عند أهل الحديث أنه يعتقد بعدم التحريف اللفظي للكتاب المقدس كاملا. فمما قاله الإمام البخاري في صحيحه حول قوله تعالى “مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ” ما يلي:
“يُحرّفون: يُزيلون، وليس أحدٌ يُزيل لفظ كِتاب من كُتب الله عزَّ وجَلّ، ولكنّهم يُحرّفونه؛ يتأوّلونه على غير تأويله.” (صحيح البخاري، 6/2745)
وقد علَّقَ الحافظُ ابن حجر رحمه الله شارح صحيح البخاري على ذلك فقال:
“مراد البخاري بقوله: (يتأولونه) أنهم يُحرّفون المراد؛ بضرب من التأويل، كما لو كانت الكلمة بالعبرانية تحتمل معنيين قريب وبعيد، وكان المراد القريب؛ فإنهم يحملونها على البعيد، ونحو ذلك.” (فتح الباري، 15/507)
وقال أيضا رحمه الله:
“وقال بعض الشرّاح المتأخرين: اختُلف في هذه المسألة على أقوال: أحدها: أنها بدّلت كلها وهو مقتضى القول الممكن بجواز الامتهان وهو إفراط، وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر، وإلا فهي مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء لم تبدّل.. من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيل} [الأعراف: 157]. ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]. ثانيها: أن التبديل وقع ولكن في معظمهما وأدلّته كثيرة وينبغي حمل الأول عليه. ثالثها: وقع في اليسير منها ومعظمها باقٍ على حاله، ونصَره الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية في كتابه (الرد الصحيح على من بدل دين المسيح). رابعها: أنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ، وهو المذكور هنا -أي في كلام البخاري- وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجرداً فأجاب في فتاويه: “أن للعلماء في ذلك قولين، واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها: قوله تعالى: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34]. وهو معارض بقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:181]. والقول بأن التوراة حرّفت معانيها دون ألفاظها قد نُسب إلى وهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة. ونُسب أيضاً لابن عباس ترجمان القرآن، وهو اختيار الإمام البخاري رحمه الله … قال البدر الزركشي يرحمه الله: «اعتبر بعض المتأخرين بهذا -يعني بما قال البخاري- فقال: «إن في تحريف التوراة خلافاً هل هو في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني ورأى جواز مطالعتها.».».” (فتح الباري، 13|533)
من المؤكد إذاً أن السفرَين المذكورين في كلام المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام مشمولان أيضاً بعدم التحريف اللفظي عند الإمام البخاري خاصة وأنه رحمه الله يرى عدم التحريف اللفظي للكتاب كله، فيدخل بذلك السِفران عنده بالبداهة !
وأشار ابن حجر رحمه الله إلى أهمية النبوءات الموجودة في الكتاب المقدس للشهادة بصدق النبيين عيسى ؑ وسيد الخلق مُحَمَّد ﷺ فقال:
“ويدلُّ على ذلك نَقْل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة، وإلزامهم اليهود بالتصديق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بما يستخرجونه من كتابهم. ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه.” (فتح الباري، 15/503)
وقد وافق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على عدم التحريف اللفظي لبعض كتب التوراة والإنجيل حتى زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال:
“والقرآن والسُنّة المتواترة يدلّان على أن التوراة والإنجيل الموجودَين في زمن النبي ﷺ فيهما ما أنزله الله عزَّ وجلّ، والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذَّر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك.” (مجموع الفتاوى 13|104)
الخلاصة، صَدَقَ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول قول البخاري ؒ في صحيحه بعدم تحريف ألفاظ سفري التوراة بل أسفارها كلها عند البخاري رحمة الله عليه.
لقد قلنا سابقا ونكرر أن على المعترضين أن يفهموا بأن العلم الذي يدّعون لا يعادل ذرة أمام عِلم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الذي أرسله الله تعالى وعَلَّمَه بالوحي ما لم يعلم.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ