الاعتراض: هل كان ينطق حرف الشين مثل السين؟
انتم يا قاديانية تكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم لأن خليفتكم ينسب في خطبته إلى بلال رضي الله عنه بانه كان ينطق حرف الشين مثل السين والنبي يقول من كذب علي فليتبوا مقعده في النار….بلال كان فصيحا جميل الصوت وانتم تقولون انه كان لا يعرف الشين من السين…هذا عدوان على الصحابة واحتقار للسود والافارقة…
الجواب:
الحَمْدُ لله وكفى والصلاة على عبده المصطفى
وبعد،
كان أول من ذَكَرَ هذه الرواية وربما ذكرها أحد قبله هو الإمام ابن قدامة رحمه الله -أحد أئمة وشيوخ المذهب الحنبلي- في كتاب “المُغني” عن سيدنا بلال رضي الله عنه:
“ويُكرَهُ الَّلحْنُ في الأذانِ … فأما إنْ كان ألثغ لثغة لا تتفاحش، جاز أذانه، فقََدْ روي أنَّ بلال كان يقول (أسهدُ) يجعل الشينَ سينا.” (المُغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 2/90 تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، و 1/445)
فهل كان سيدنا الإمام ابن قدامة يكذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لا يقول ذلك مُسْلِم يحترم السلف الصالح رحمهم الله.
فالواضح أن الحديث معروف مشتهر على ألسنة الناس في ذلك الزمن البعيد ولا يأخذ بالكلام الكذب علّامة هُمام عظيم الشأن كابن قدامة رحمة الله عليه إمام المذهب الحنبلي في علم الحديث والفقه!
كذلك ورَدَ معنى هذا الحديث في كتب علماء الأزهر الشريف كما جاء على لسان أحد العلماء المتأخرين:
“وَكَانَ يبدلُ الشينَ بالسينِ فقالَ رَّسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنه شينُ بلالٍ سينٌ عندي وعند الله.” (تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن بن حسن الجبرتي 1/443)
وأيضا ورَدَ في كتب الطوائف الإسلامية الأخرى، منها على سبيل المثال ما كتبه علي خان المدني:
“بحكم حبشيّته، كان سيدنا بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لا يُحسِن تلفّظ حرف الشين، فيأتي به قريباً من السين، فيقول في أذانه: أسْهد أن لا إله إلاّ الله.. فقيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله في ذلك، فقال: «سينُ بلالٍ عند الله شين».” (الدرجات الرفيعة للسيّد علي خان المدني: 363)
ثم يكمل:
“وجاء يوماً رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ بلالاً كان يُناظرِ اليومَ فلاناً، فجعل يُلحِن في كلامه، وفلانٌ يُعرِب ويضحك مِن بلال! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّما يُراد إعراب الكلام وتقويمه لتقويم الأعمال وتهذيبها. ما ينفع فلاناً إعرابُه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعالُه ملحونةً أقبحَ لحن، وما يضرُّ بلالاً لحنُه في كلامه إذا كانت أفعاله مُقوَّمةً أحسنَ تقويم، ومُهذَّبةً أحسنَ تهذيب!».” (نفس المصدر)
من الواضح بمكان أن حديث الكذب على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعارض بحال الأحاديث المشتهرة التي نقلها أحد أكابر أهل العلم والتحقيق من السلف الصالح رحمة الله تعالى عليهم أجمعين واشتهرت عند المسلمين القدماء بكافة طوائفهم، خاصة وأنها في بيان الاستئناس بذِكر شمائل وفضائل الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعا.
فهذا لا يدخل في حديث الكذب على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هو يخالف فقط فن وصناعة الحديث الذي اجتهد رجال الأمة بعد قرون من وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وضعه وتثبيته ليصبح أساساً في تنقية الروايات وفق رواتها وأحوالهم لا أكثر، وكم من رجل مجهول أي لم يُعثر على حاله وهو ليس بمجهول بِعد التحقيق أو حتى دون ذلك، وكم من سريع النسيان ولكنه يتذكر في بعض الأحيان، وكم من كذوب قد يصدق في أحيان.
يقول العلّامة ابن الصلاح رحمه الله:
“إذا قالوا في حديث: إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعا بأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر، وإنما المراد به: أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور.” (مقدمة ابن الصلاح، ص 9)
ويقول الإمام السيوطي رحمه الله:
“وإذا قيل -هذا حديث- غير صحيح: فمعناه لم يصح إسناده على الشرط المذكور، لا أنه كذب في نفس الأمر، لجواز صدق الكاذب، وإصابة مَن هو كثير الخطأ.” (تدريب الراوي 1/75-76)
يُعرف الحديث الموضوع أو المكذوب عندما يناقض القُرآن الكَرِيم والحديث الصحيح، وركاكة ألفاظه وحديث شين بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ليس بالركيك ولا المناقض للكتاب والسنة، ويُعرف أيضاً من ذمه للحبشة والسودان وحديث شين بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ليس فيه ذم بل مدحٌ وتكريمٌ لأهل الحبشة والسودان بنَص الحديث نفسه الذي يؤكد بأن الله تعالى يخص سيدنا بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بحبّه معتبراً الشين الذي كان ينطقه سيدنا بلال أو نطقه مرة سيناً في بداية الدعوة بأنه شينٌ عنده تبارك وتعالى. فهذا الحديث يشجع على رفض وشجب الاعتقاد بأن العربي أقربُ عند الله تعالى لأنه ينطق الحروف كلها بطريقة ممتازة بينما غير العربي أبعد قليلاً من الله ﷻ لأنه لا يستطيع مباراة العرب في نطق الحروف بالتمام والكمال. وبهذا لا يخل حديث شين بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بأي من شروط الحديث الصحيح.
فإذا كان هذا ينطبق على الحديث الضعيف، فنفس الأمر ينطبق على الحديث الذي ليس له إسناد، إِذْ ليس معنى كون حديث ما بلا سند أنه كذب أو ليس له أصل خصوصاً إذا ورد على لسان أحد أكابر أهل العلم من السلف الصالح، مما يدل على أن الحديث مشتهر عند الناس، وهذا يقطع بأنه ليس من الكذب بالأخص وهو في مدح الصحابة وبيان فضائلهم رِضوانُ اللهِ عَلَيهِم أجْمَعِِينَ.
لذلك لا يدخل هذا الحديث في الكذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإطلاق لأنه قد يصح خصوصاً وقد ذكره أحد عظام الأمة ولم يثبت أحدٌ غيره كذبه.
وبالمحصلة لا تقوم هذه الشبهة على شيء لأن الحديث نفسه يدحضها ويثبت عكسها.
لقد كان سيدنا بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حبشياً أي من بلاد الحبشة التي تسمى اليوم اثيوبيا وربما كانت تشمل أيضا بعض البلاد الأخرى في ذلك الزمان، وكانت لغتها الرسمية هي اللغة الأمهرية التي تسود في الحبشة منذ ألفي سنة وربما أكثر وتُعتبر من اللغات السامية، وهي متأثرة بلغات عديدة منها العربية. يمكن الاستماع للتسجيل التالي حول اللغة العربية في الحبشة/اثيوبيا اليوم وكيف ساهم الإسلام في انتشارها:
وفي هذا التسجيل يمكن التأكد من أن اللغة الأمهرية -وهي اللغة الرسمية للحبشة اليوم- تلفظ الثاء سيناً مثلما يفعل العرب السودانيون والمصريون:
وَمن ذلك الحَديثِ عَنْ سَيِّدِنَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
“أَنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ لَا يَفْهَمْهُ. فَقَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوْا: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ.” (ابن حبان 5870، قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية 1/381: “إسناده جيد”)
لذا من الطبيعي أن الحبشي حين يتحدث العربية لا يمكنه منافسة العرب في نطق الحروف بالتمام، وهذا ما أكَّدَ عليه هذا الحديث الجميل الذي اعتبرَ اللهُ تعالى فيه سينَ سيدنا بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شيناً وأقرب من شين غيره أيضا.
أما حُسن الصوت فلا يخالف طريقة نطق حرف أو اثنين. فاليوم نجد العديد من العرب أنفسهم بأجمل أصواتهم ولغتهم العربية السليمة ينطقون بعض الحروف العربية بطرق مختلفة عن لفظها، وخير مثال على ذلك المصريون الذين يلفظون الثاء سيناً أو تاء والذال دالاً أو زاياً، وهكذا لا خلاف أن هذا جائز، ويشهد على ذلك اختلاف القراءات للتخفيف وغيرها. لذلك لا تقوى محاولة دحض الروايات ولا تقوم على أساس الموضوع أي اللفظ لا الصوت. كما أن هذا لا يمنع أن سيدنا بلال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أتقن العربية كأهلها ولم يعد يلفظ السين شيناً في وقت لاحق. لذا لا داعي لاعتبار أن عدم نطق الحبشي أو غيره لجميع الحروف بالتمام أنه قدح في دينه أو جمال صوته وبيان حديثه ما دام أهل اللغة أنفسهم يسقطون الأحرف. لا يمكن أن نشق على من ليست العربية لغته ولسانه، بل إن مِن كبار أهل العلم مَن كان ألثغاً وليس مجرد ناطق لحرف يسهل تعديله بالتدريب، ومثال ذلك سيدنا الإمام شُعبة رحمه الله الذي يُلقب أيضاً بأمير المؤمنين في الحديث كما جاء في ترجمته في سير أعلام النبلاء:
“قال حمزة بن زياد الطوسي: سمعتُ شُعبةَ وكان ألثغ، قد يبس جلده من العبادة.” (سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 7، ص 209)
وشُعبة رحمه الله غني عن التعريف، إِذْ قال عَنْهُ الإمام الذهبي رحمه الله بأنه:
“الإمامُ الحافظُ، أميرُ المؤمنين في الحديث … عالِمُ أهل البصرة وشيخُها، سكنَ البصرة من الصغر، ورأى الحَسَنَ، وأخذَ عنه مسائل. … وَمِنْ جلالته قد روى مالِكٌ الإمامُ، عن رجلٍ، عنه، وهذا قلَّ أنْ عمله مالك. … وكان إماماً ثبتا حُجّة، ناقداً، جهبذاً، صالحاً، زاهداً، قانعاً بالقوت، رأساً في العلم والعمل، منقطع القرين، وهو أَوَّلُ مَن جَرحَ وعدّلَ، أخذ عنه هذا الشأن يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، وطائفة. وكان سفيان الثوري يخضع له ويُجِّلَه، ويقول: شُعبة أميرُ المؤمنين في الحديث. وقال الشافعي: لولا شعبة لما عُرف الحديثُ بالعراق. قال أبو عبد الله الحاكم: شعبة إمامُ الأئمة بالبصرة في معرفة الحديث، رأى أنسَ بن مالك، وعمرو بن سلمة الجرمي، وسَمِعَ مِن أربع مئة شيخ مِن التابعين ..، قال حماد بن زيد: إذا خالفني شعبةٌ في حديثٍ، صِرتُ إليه. … قال يحيى بن سعيد: ما رأيتُ أحداً قَطْ أحسن حديثاً من شُعبة.” (باختصار من “سير أعلام النبلاء”، الإمام الذهبي، ج 7، ص 202-209)
وقال عَنْهُ الإمام ابن أبي حاتم: “فَوْقَ العُلماءِ في زمانه.” (الجرح والتعديل، 1/126)
قال فيه أحمد بن حنبل ؒ فيه: “لَمْ يكنْ في زمن شُعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثًا منه.” (تهذيب الأسماء، ص. 315)
وقال فيه أيضاً سفيان الثوري: “شُعبة إمامُ المتّقين” (ابن كثير، البداية والنهاية، 10/133)
وقال فيه أبو بكر البكراوي: “ما رأيتُ أعبد للهِ مِن شُعبة؛ لقد عبدَ اللهَ حتى جفَّ جِلدُه على ظَهره.” (تهذيب التهذيب، 4/344)
فهل حَطَّ لسان شُعبة ؒ الألثغ من قيمته، بل من فصاحته التي شهد عليها جمع من التابعين والسلف الأوائل رحمهم الله تعالى أجمعين كما في الاقوال التي جمعناها أعلاه؟! لا بكل تأكيد، وهذا يثبت أن حُسن الحديث والفصاحة لا يتعارض مع كون المرء يلفظ حرفاً بطريقة مختلفة.
هذا وإنَّ سيدنا أمير المؤمنين حضرة مرزا مسرور أحمد خليفة المسيح الخامس أيَّدَهُ اللهُ بِنَصْرِهِ العَزِيز ذَكَرَ في خطبة الجمعة 11-9-2020 أنَّ ما ورد فيها كله مما قيل في الروايات، أي انه مجرد استئناس بما يُروى حول استحباب ذِكر شمائل صحب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متأسياً بسيدنا الإمام ابن قدامة رحمه الله.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ