مقتل الملاحدة الذي ينكرون الله تعالى هو في إثبات بدء الخلق؛ فهم عاجزون عن إثبات هذه البداية دون إله، لذلك تراهم يحاولون دوما تجاوزها، وترى تركيزهم منصبًّا على أن الكون يسير وفقا لسنن ثبتت وهي التي تدير الكون، وليس مهما كيف ومتى ابتدأت! وبهذا فقد استبدل الملحدون رغما عنهم بشقاوتهم العبودية للإله الواحد الحق إلى عبودية آلهة متعددة التي هي السنن. فالإلحاد في حقيقته ليس إنكار الإله، وإنما هو شرك يقوم على تأليه الأسباب وتحويلها إلى آلهة متعددة.
وكان الله تعالى يرسل الأنبياء دوما للقضاء على هذه النزعات الشركية الإلحادية التي كانت تنشأ في البشر بين فترة وأخرى، وما بعثة الأنبياء في الواقع إلا إعلان من الله تعالى بأنني “أنا الموجود الحي القيوم“، وأن الكون خاضع لسلطاني، وأن السنن التي ترونها وتظنوننها آلهة لكم إنما خيوطها بيدي. فبإظهار الآيات والمعجزات التي تخالف السنن المعتادة يثبت الله تعالى أن هذه السنن والقوانين ليست بشيء في حدِّ ذاتها، وأن لديَّ سنن خفية أنفذ من خلالها مشيئتي لا علم لكم بها.
وهكذا فعندما طال الأمد على بني إسرائيل وقست قلوبهم، واستَشْرَتْ النزعةُ الإلحادية في اليهود، حتى نشأت فيهم فرقة الصدوقيين التي كانت تنكر القيامة، أراد الله تعالى أن يريهم آية تثبت خالقيته تعالى، وتثبت أنه قادر على إعادة الخلق مرة أخرى بعد يوم القيامة بسنن لا يعلم الناس عنها شيئا، وذلك بخلق عيسى في رحم أمه من غير أب. ولم يكن هذا الحدث مفاجئا أو عشوائيا، بل كان اليهود يعرفونه جيدا وينتظرونه، لأن إشعياء قد أنبأ بأن العذراء ستحبل وتلد ابنا مميزا يكون على يده خلاص بني إسرائيل. وبهذا فقد حققت ولادة المسيح بغير أب أولى أهداف رسالته، كما كانت أيضا آية ودليلا على صدقه بسبب أنه كان مصداق النبوءة.
وهكذا فقد كانت هذه الولادة بغير أب نعمة عظيمة وآية عظيمة وسببا لإيمان الصالحين الأطهار الذين يؤمنون بالله ورسله ونبوءاته وقدراته غير المحدودة، أما قساة القلوب من الملحدين من بني إسرائيل فقد كانت هذه الولادة سببا لكفرهم وإخراج ضغائنهم وفسادهم باتهامهم السيدة مريم بالزنا، وإنكار النبوءة الإلهية، من ثمَّ إنكار المسيح عيسى بن مريم عليه السلام نفسه.
وقد منَّ القرآن الكريم على المسيح عليه السلام وأمه، بل وعلى المسيحيين في العالم -بتصديقه للولادة الإعجازية رغم انحرافهم عن رسالة المسيح- بأن أثبت طهارة السيدة مريم وبأنها قد حملت بمعجزة إلهية تحقيقا للنبوءة. بل وأكَّد القرآن الكريم على أهمِّ غرض لهذه الولادة وهو المسيح أصبح علما للساعة ودليلا على خالقية الله تعالى وعلى قدرته على بعث الموتى بعد يوم القيامة. والذي يؤمن بصدق أخبار القرآن الكريم يرى أن هذه آية مستمرة للمؤمنين إلى قيام الساعة أيضا.
وقد ظهرت في القرن التاسع عشر فرقة من المسلمين سُمِّيت الطبيعيين كانت في الواقع مظهرا جديدا مماثلا للنزعة الإلحادية التي ظهرت في بني إسرائيل، والتي تركز على السنن، وتنكر المعجزات، وتنكر تأثير الدعاء، وتعتقد أن كثيرا من آيات القرآن لا تحمل علما صحيحا ولا دقيقا؛ وإنما جاءت إلزاما للقوم أو مسايرة لهم ولعقائدهم. وهذه الفرقة قد أصبح لها وجود ملحوظ قبيل بعثة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وذلك إتماما للمشابهة بينه وبين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وكان من أهم مفكريها في الهند سيد أحمد خان، الذي ردَّ على أفكاره وأفكار فرقته المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مرارا وفي مواضع كثيرة من كتبه، وأثبت أنهم ليسوا إلا ملحدين في ثياب المسلمين، وعلاقتهم بالإسلام لا تعدو كونها علاقة هوية قومية.
وكي تكتمل المشابهة أكثر، وكي يتضح أن هؤلاء الطبيعيين هم يماثلون تماما أشباه اليهود الملحدين من الصدوقيين وغيرهم، كرر هؤلاء البهتان ذاته على المسيح عيسى بن مريم وأمه، بتعديل بسيط، وهو أنه لا بد أن يكون له أب وإن كان مجهولا، واعتقدوا أنه في أغلب الظن ينبغي أن يكون يوسف النجار، وأنكروا بيان القرآن الكريم وتصريحه. ونسي هؤلاء أن اليهود كانوا ولا يزالون يتهمون السيدة مريم بالزنا، وأن فكرة الأب المجهول أو محاولة إثبات أنها تزوجت زواجا شرعيا قبل الحمل بالمسيح عليه السلام، مع تعذر إثباته، إنما تقود إلى نفس النتيجة التي قال بها اليهود الذين يثبُت عندهم تاريخيا أنها لم تتزوج قبل الحمل، وبالتالي يؤازرونهم في إثبات تهمة الزنا تلقائيا على السيدة مريم – حاشا لله- ويكررون بهتان اليهود وإفكهم. ولهذا فقد قاوم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام هذه الفكرة وفندها في مواضع كثيرة من كتبه، إحقاقا للحق وتصديقا للقرآن الكريم ومنعا للبس آية كونه علما للساعة التي هي البعث بعد الموت، التي يصدقها القرآن الكريم والتاريخ المتواتر عند اليهود والنصارى.
وفي تفنيده لهذه الفكرة الإلحادية، بيَّن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أن خلق المسيح عليه السلام لم يكن أمرا خارجا من السنن الإلهية أصلا، وإن كان مخالفا للسنة المعتادة، وعقليا يثبت أن أول خلق البشر قبل مرحلة التناسل لم يكن تابعا للسنة المعتادة، وهذا هو الدليل الذي قدمه القرآن الكريم في قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (آل عمران 60). فهم مع إصرارهم على أنه لا بد أن يكون للمسيح أب لا يمكن أن يُفسِّروا كيف خُلق أول البشر دون أب! وهذا يدل على أنهم مجرد متعنتين ينكرون الخالقية ويتجاوزونها ولا يفكرون فيها، بل ولا يجدون أنهم بحاجة إلى تفسيرها، وأنهم أبعد الناس عن العقلانية والمنطق، بل هم لا يؤمنون إلا بما يرونه من سنن وينكرون ما وراءها ويكفرون برب السنن ومالكها.
لذلك، فإن هؤلاء الذين ينكرون قدرة الله تعالى وخالقيته، ويكذِّبون القرآن الكريم هم ليسوا إلا ملحدين في ثياب المسلمين، لذلك صدق المسيح الموعود إذ قال عنهم إنهم خارجون من الإسلام. أما من كانت لهم صلة بالجماعة أو انتموا إليها يوما، فمن الطبيعي أن يثبت بعضهم صدق المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بأنهم خارجون من الإسلام عمليا؛ وذلك بارتدادهم عن الجماعة التي هي الإسلام الحق، فسبحان الله تعالى الذي يميز الخبيث من الطيب! أما بعض الذين يصرُّون على الادعاء بانتماءهم للجماعة الإسلامية الأحمدية رغم ذلك، فهم يضيفون إلى إنكارهم لخالقية الله وإلى تكذيب القرآن الكريم إنكار حُكْم الحكَم العدل، بل ومهاجمة الجماعة الإسلامية الأحمدية وكأنها أول من جاء بفكرة ولادة المسيح بغير أب، فهم ليسوا بمسلمين ولا بأحمديين، وليس إصرارهم على انتمائهم للجماعة إلا المخادعة والجبن والنفاق. لذلك يصبح طرد هؤلاء الذين جمعوا هذه العقائد الإلحادية مع سوء السلوك والأخلاق، هم ومن هم على شاكلتهم، واجبا من الجماعة؛ لأن هذه الجماعة هي جماعة المؤمنين بالله وقدراته غير المحدودة، والمؤمنين بصدق القرآن وبيناته، والمؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمتبعين لخادمه وخليفته وممثله في الآخرين، وهي جماعة الأنقياء الطاهرين الملحَقين بالصحابة في عقائدهم وسلوكهم، البريئة المبرأة من الشرك والإلحاد والنفاق وأهله.