سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتنزيه الأنبياء” حلقة 3
خطيئة نوح وخطيئة يسوع
في عام 1903 وصل القس والمبشر الإنجليزي مونرو ببعثة تنصير إلى الهند، فنشرَ كتيبات حاول فيها إثبات ألوهية المسيح عَلَيهِ السَلام على أساس خلوّه من الخطيئة مقارنةً مع نوح عَلَيهِ السَلام. وقد أثار القس شُبهةً ضمن مسلسل الشبهات التي أساسها هو الطعن بالأنبياء بهدف تبرير ألوهية المسيح السالم من الخطيئة. وتقوم الشبهة على دعاء نوح عَلَيهِ السَلام لنجاة ابنه من الطوفان كما في الآيات المعروفة في القرآن الكريم وكيف رد عليه الله تعالى بأنه ليس من أهله وأنه عملٌ غير صالح ثم إقرار نوح عَلَيهِ السَلام بذلك والاعتراف بضعفه والطلب من الله تعالى أن يغفر له والخ في القصة المعروفة. والشبهة هي أن نوحاً عَلَيهِ السَلام ارتكب خطيئة هي الدعاء ضد أمر الله تعالى والشفاعة لمن أراد الله أهلاكه والدليل قوله تعالى بأن ما قام به نوح هو عملٌ غير صالح، مما يجعل المسيح وحده خالٍ من الخطيئة! سرعان ما وصلت هذه الشبهة إلى مسامع المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام، فكان رَدُّ حضرته على هذه المنشورات في مقال رائع نشره عَلَيهِ السَلام في مجلة حضرته “مراجعة الأديان“، وفيما يلي تعريبي له:
“ما لم يُقدّم لنا السيد مونرو الأمرَ الإلهي (في القرآن الكريم) الذي يُحرّم على نوحٍ الدعاء والشفاعة لإبنه، فإن كلامه هذا يُدينه هو بتهمة الكذب العمد. لا توجد آية واحدة في القرآن الكريم تقول بأن نوحاً عَلَيهِ السَلام مُحرَّمٌ عليه الدعاء لنجاة ابنه. كذلك لن يُسعف السيد مونرو اقتباس هذه الآية على وعد الله تعالى لنوح ؑ بحفظ أهله. ما يجب على السيد مونرو أن يُقدّمه هو آية من القرآن الكريم تنص بأن نوحاً عَلَيهِ السَلام كان ممنوعاً من الدعاء لإبنه. جاء في سورة هود بشأن نُوحٍ عَلَيهِ السَلام: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، يتبين من هذه الآيات أن نوحاً عَلَيهِ السَلام كان يؤمن بوعد الله تعالى لنجاة أهله، وكان يعتقد بأن ابنه مشمولٌ أيضاً حسب الوعد، ولكن حين رآه يغرق، توجّه يدعو الله ﷻ بتواضع بأن الوعد الإلهي كان لحفظ أهله، وأن ابنه هو من أهله، وفي نفس الوقت كان نوح عَلَيهِ السَلام يؤمن يقين الإيمان بأن وعد الله حقٌّ وعَدْل. وجواباً لهذا الدعاء قال ﷻ له بأن ابنه ليس من أهله! ولما لم يكن هذا الجواب واضحاً لوحده، فقد جاء السبب بعد ذلك مباشرة ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾. ولكن السيد مونرو يُقدّم هذه العبارة بطريقة سيئة، وكأنها جاءت بسبب دعاء نوح عَلَيهِ السَلام. هنالك أسباب عديدة تجعل من المستحيل أن تكون القضية كما قدمها السيد مونرو. فالضمير في اللغة العربية يجب ان يُسبَق بإسم يأتي قبله ليمثّله. ولكن لا الدعاء ولا العمل ولا أي من هذه الأسماء ورد في الآية السابقة، وبالتالي فقوله تعالى ﴿إِنَّهُ﴾ لا يمكن أن يعود على الدعاء. ثانيا، لفظ ﴿إِنَّهُ﴾ الأول هو الذي يجعل المسألة أكثر وضوحا، حيث إنَّ عبارة ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ جاءت مباشرة بعد عبارة ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾. ويعود الضّمير ﴿إِنَّهُ﴾ في العبارة الأخيرة بكل وضوح إلى الابن الذي ذكرته الآية السابقة، وهذا يثبت أن الضمير لا ينطبق على أي شيء آخر. كما أن كلا الضميرين يقعان بالتساوي والترتيب من الجملة بحيث لا يمكن أن يعودا إلا على الإسم ذاته. وبما أن الضمير الأول بلا شك يعود على ابن نوح عَلَيهِ السَلام، فإن الثاني يجب أن يعود عَلَيهِ أيضا. ثالثا، لقد كان دعاء نوح عَلَيهِ السَلام كالتالي ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾، ولهذا فإن مجرد الإجابة ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ لن تكون كافية ما لم يصحبها سبب لذلك. لقد كان وعد الله تعالى لنوح عَلَيهِ السَلام هو أن يُنجّي أهله، فعندما رأى ابنه يغرق، بكى بطبيعة الحال إلى الله تعالى بأن ابنه الذي هو من أهله كان ينبغي أن يندرج أيضا في الوعد. ولكن الله سبحانه وتعالى قال له بأن ابنه هذا ليس من أهله. لم يكن هذا الجواب في حد ذاته إجابة مُرضية لدعاء نوح إنْ لَم يُذْكَر السبب لعدم اعتبار ابنه من أهله، فبحسب المعنى الطبيعي للمصطلح كان الإبن عضواً من أعضاء الأُسرة، وبدون ذِكْر السبب لن تكون الإجابة مُرضية على الإطلاق. وهكذا فإن جملة ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ قد تبعتها فوراً عبارة ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ ولن يكتمل المعنى تماماً دون الجملة الأخيرة.
إن سبب ضَلَالٍ السيد مونرو هو الصيغة اللغوية المستخدمة في عبارة ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾، لأنه تصوّرَ بأن الأشخاص لا يمكن أن يُقال عن أحدهم أنه «عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ». ومنشأ هذا الاعتراض ببساطة هو الجهل باللغة العربية. ففي العربية كثيراً ما تستخدم مثل هذه العبارات للأشخاص كقول العرب «إِنَّهُ عِلَمٌ وكَرَمٌ وجُودٌ»، وذلك حين يكون الشخص غزير العلم والكرم. بل إن استخدام هذه الصيغة شائع في جميع اللغات تقريبا. وقد ورد هذا التعبير أيضا في القرآن الكريم مثل قوله تعالى ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾. فقد وُصِفَ المؤمن بالله تعالى هنا بـ «الْبِرَّ» بدل «البٰارِّ». لذلك، لا يوجد أدنى اعتراض إذا ما أُطلق على الشخص الذي يقوم بالأعمال غير الصالحة بأنه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، فهذه الصيغة مستخدمة عادة في اللغة العربية. وهناك أمر آخر يؤكد بأن هذا هو التفسير الحقيقي للعبارة. توجد قراءة لهذه الآية ورد فيها الفعل بهذا الشكل «عَمِلَ»، حيث ورد الفعل بصيغة الماضي بدلاً من صيغة «عَمَلٌ» غير المحدودة. وعلى الرغم من أن مثل هذه القراءة قد لا يكون لها وزن مقابل القراءة المعتمدة، ألا إنها تساعد في تسليط الضوء على معاني التعابير المستخدمة في النصوص. إذن وبحسب القراءة الثانية يكون المعنى بوضوح: إنّه عَمِلَ عَمَلَاً غَيْرَ صالِحٍ. وهذا المعنى يساعدنا في التفسير الصحيح للكلمات المستخدمة في القرآن الكريم. لا يوجد ما يدل على اعتماد تفسير واحد فقط، ولكن المثال الذي تناولناه يفيد في موضوع الآية أعلاه.
ليس من المفاجئ أن يَتّهِم هؤلاء المبشرون المسيحيون أنبياءَ اللهِ بالخطايا الباطلة، ولكن الأمر الأكثر عجباً هو أن الرجل الذي يتخذونه إلهاً مع الله هو مُدانٌ بخطايا أكثر خطورة وسوء حَسَبِ الأناجيل نفسها. فالمبشرون يزعمون بأن نوحاً عَلَيهِ السَلام قد ارتكب خطيئة لأنه دَعَا الله لنجاة إبنه، وهذا العمل مخالفٌ لأمر الله. ولقد فَنَّدْنا هذه التهمة وأظهرنا بوضوح عدم وجود أي أمر لنوح في أي مكان من القرآن الكريم يطلب منه ألا يدعو لإبنه، ولم يُطلق على هذا العمل بأي مكان بأنه خطيئة أو إثم. ولكن لننظر معاً إلى سلوك يسوع في مسألة مماثلة. فقد أرسله الله إلى العالم لكي يموت على الصليب، وكان يسوع على بيّنة من هذا الأمر الإلهي. لذلك فإن دعائه للنجاة من هذا الموت سيكون أكبر خطيئة يرتكبها. وبالفعل إذ تنص الأناجيل على أن يسوع قد دعا، بل قضى ليلةً كاملةً يدعو مُخالِفاً أمر الله، حتى إن نفسه كانت “حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ” عندما حان الوقت لتحقيق الغرض الإلهي المزعوم من بعثته. ولذلك فإن دعاء يسوع خالفَ أمر الله الذي كان يحتم عليه أن يموت على الصليب. إذن وبحسب الأناجيل فإن هذه هي خطيئة يسوع التي يتَّهمون بها النبي نوح عَلَيهِ السَلام زوراً وبهتانا. كيف لا يكون يسوع خاطئاً في الأناجيل بدعائه ضد وصية الله وأمره، وكيف يصبح نوح هو الخاطئ في القرآن المجيد، هذه الأسئلة التي نود أن نرى إجابتها عند السيد مونرو.” (مراجعة الأديان، المجلد 2، العدد 7، التاريخ 1903، الصفحات 259-264)
ولم يرد السيد مونرو ولا غيره إلى الآن!
وهكذا يكسر المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الصليب بتنزيه رُسل الله تعالى صلوات الله عليهم أجمعين.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ