سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتصحيح المفاهيم” حلقة 7
محاولة صليبية للنَيل من النبي ﷺ تتهشم على صخرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام
أثار ويثير القسس التنصيريون حتى اليوم شبهة يظنون بأنها تطعن بمكانة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعياذ بالله وتثبت أن لا أحد غير إلٰههم المسيح هو السالم من العيوب. مصدر هذه الشبهة هو الفهم التقليدي للآية: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، حيث يظن القسس أن هذه العبارة تؤكد بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظالم جاهل بل ظلوم جهول أي كثير الظلم والجهل والعياذ بالله ! فانبرى حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام للرد على هذه المزاعم فقال بأن فهم القسس عقيم إذ الجهل والظلم هنا هو للمدح لا للذم، فاعترضوا في جريدتهم “نور افشان” بأن هذا القول لم يذكره أحد من علماء ومفسري الإسلام بل هو بدعة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام والعياذ بالله، فكان رد حضرته كما يلي:
“أما الشبهة في أنه هل ذهب أحدٌ من المتقدمين إلى هذا المعنى لكلمتَي الظلوم والجهول الواردتين في هذه الآية؟ وَمن مِن أهل اللغة يستنتج هذا المعنى من كلمة “الظلم”؟ فجوابها أننا لسنا بحاجة إلى أيّ سند بعد كلام الله تعالى. إنَّ بعض آيات الله يفسر بعضها الآخر. فما دام الله تعالى قد سمّى بعض المتقين ظالمين أيضا وعَدَّ الظلم هو المرتبة الأولى من مراتب التقوى الثلاث، فقد فهمنا من ذلك بالقطع واليقين أنه ليس المراد من الظلم المذكور هنا ذلك الظلمُ البعيد عن التقوى، الذي هو شعار الكفار والمشركين والعصاة. بل المراد هو الظلم الذي هو شرط محتوم للمتقين في مراتب السلوك الابتدائية؛ أي كبتُ المرء أهواءه النفسانية وسعيه لإنقاص ظلمة الطبيعة البشرية من نفسه. وقد استُخدم “الظلم” بمعنى النقص في آية أخرى أيضا وهي: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي: ولم تنقص. انظروا القاموس، والصحاح، والصراح حيث ورد الظلم بمعنى النقص أيضا. وهذا ما استُتنج من الآية المذكورة أي “ولم تنقص”. وبالإضافة إلى ذلك لم أتفرد في استنتاج هذا المعنى بل قد ذهب إلى المعنى نفسه كبار العلماء والمحققين من أصحاب اللغة؛ فقد استنبط صاحب “الفتوحات المكية” -وهو من أهل اللغة أيضا في تفسيره الذي طُبِع في مصر- المعنى نفسه، حيث قال في تفسير الآية: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ بأن الظلوم والجهول جاءتا في محل المدح، والمراد منهما أن الإنسان المؤمن يظلم نفسه نوعا ما في سبيل العمل بأوامر الله بحيث يعادي أهواء النفس ورغباتها، وبذلك يقلل وينقص من ثورة النفس وهياجها. ثم ينقل صاحب التفسير الحسيني من تفسير “الخواجة محمد بارسا” أن معنى الآية هو أن الإنسان حمل تلك الأمانة لأنه كان ظلوما؛ أي كان قادرا على أن يتخلّى عن نوازع نفسه ورغباتها، أي ينقص من أهواء النفس ويقضي عليها نهائيا ويفنى في الله تعالى. وكان الإنسان جهولا لأنه يملك قدرة على أن يُهمل غير الحق ويتجاهله تماما، وينفي كل ما سواه قائلا: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”. يقول ابن جرير، وهو رئيس المفسرين، في تفسير هذه الآية بأن لفظَتي الظلوم والجهول جاءتا في محل المدح وليستا في محل الذم. فلباب القول أن الأكابر والمحققين الذين نوَّر اللهُ تعالى عيونهم بنور المعرفة قد ذهب معظمهم إلى أنه لا يمكن أن يُستنبط من الآية معنىً سوى أن الإنسان بحمله أمانة الله نال لقبَيّ الظلوم والجهول على سبيل المدح لا الذّم؛ وقد أورد ابن كثير أيضا بعض الروايات في تأييد هذا المعنى. … يجب أن يُستنبط من الآية هنا معنى يناسب سياقها، وهو أن الله ﷻ قال عن النبي ﷺ أولا: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾. وجدك ضالا، أي عاشقاً لوجه الله فجذبك إليه، ووجدكَ فقيراً إليه فأغناك. والآيات التي تليها تمثّل قرينة على صحة هذا المعنى، إذ قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ فهذه الآيات جاءت مرتّبة السياق تماما، وهي تشرح وتصرح بالهدف الكامن في الآيات الأولى فقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾ ثم قال مقابل ذلك: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ أي اذكر بأنك كنت يتيما فآويناك، فعليك أن تؤوي الأيتام كذلك. ثم قال ﷻ: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ﴾ وقال مقابل ذلك: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ أي كُنتَ أنت أيضا راغبا في وصالنا وكنتَ باحثا عن جمالنا وحقائقنا ومعارفنا، فكما ربّيناك كالأب تربية جسدية، كذلك فتحنا عليك بصفة المعلّم أبواب العلوم كافة، وأسقيناك شراب لقائنا أكثر من غيرك، وأعطيناك كل ما سألتنا، فلا تـرد أنت أيضا السائلين، ولا تنهرهم. واذكُر أنك كنت عائلا وكانت أسباب معيشتك الظاهرية منقطعة تماما فتولاك الله بنفسه وأغناك عن تقديم حاجاتك لغيره. فلم تعد محتاجا إلى الوالد ولا إلى الأُم ولا إلى المعلم ولا لطلب حاجتك من الآخرين بل سوّى اللهُ تعالى جميع أمورك بنفسه، وتكفّلك منذ ولادتك، فعليك أن تشكره وتعامِل المحتاجين على المنوال نفسه. فيتبين بجلاء تام من هذه الآيات كلها أنه ليس معنى “الضال” هنا هو المنحرف عن جادة الصواب بل فيه إشارة إلى العشق البالغ منتهاه. وبهذا المعنى جاءت بحق يعقوب ؑ الآية: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ فمع أن الكلمتين “الظلم” و”الضلال” تعطيان أيضا معنى أن يترك أحدُ جادةَ الاعتدال والإنصاف ويتبع شهوات غضبه ويميته، ولكنهما وردتا أيضا في القرآن الكريم بحق العشاق الذين يدوسون نفوسهم وأهواءها تحت الأقدام في نشوة العشق في سبيل الله. وبهذا المعنى يقول الحافظ الشيرازي في بيتِ ما تعريبه: “لم تستطع السماءُ أن تحمل حِمل الأمانة، فأخرجوا القرعة باسمي أنا المجنون”. إن ما يقصده الشاعر من هذا الجنون هو حالة العشق وشدة الحرص على الطاعة. إذاً، فهذه هي حقيقة هذه الآيات التي فتحها اللهُ عليّ، ولم أستنبط قط معنى يستلزم أن الأمانة الإلهية لم تكن مقدسة أو كانت تحتوي على فساد فقبلها المفسد الظالم ولم يقبلها الأبرار، الأمر الذي يؤدي إلى عَدّ جميع الأنبياء والرسل المقدسين -الذين هم أعظم حاملين لتلك الأمانة- ظالمين. لقد شرحتُ من قبل أن الأمانة وحقيقة الإسلام شيء واحد في الحقيقة، وأن الأمانة والإسلام شيء محمود في الحقيقة، ومعناه أن يعاد إلى الله تعالى عطاؤه كما تُعاد الأمانة إلى صاحبها. فمن قَبِلَ شيئا محمودا ومرغوبا فيه ولم يُعرِض عن أمر الله وآثر رضاه على رغباته الشخصية فأّنى له أن يكون جديرا بالذّم؟” (مرآة كمالات الإسلام، ص106-109)
ثم أردف عَلَيهِ السَلام القول:
“.. فلو أعرض عنا أحدٌ من المسيحيين أو الهندوس وأثار اعتراضا من هذا القبيل لكان متعنّتاً جداً أو جهولا. لا بد من وجود الأشواك في البستان، ولا مندوحة للورود من الأشواك، ولكن لا يُرى في طائفة معارضينا إلا أكوام الأشواك فقط. وفيما يتعلق بأقوال المسيحيين السخيفة بأن المسيح كان قيامة روحانية، وبأنهم أُحيوا بواسطة المسيح؛ فليتذكروا جيدا أن كون المسيح نموذجا للقيامة لا يثبت قيد شعرة، ولم يُبعَث المسيحيون بل إنهم ميّتون وراقدون في القبور الضيقة والمظلمة أكثر من الأموات الآخرين، وساقطون في هُوّة الشرك. ليست فيهم روح الإيمان ولا بركة روح الإيمان، بل ليس في نصيبهم أدنى درجات التوحيد؛ وهي اجتناب عبادة الخلق، بل يعبدون إنسانا ضعيفا وعاجزا مثلهم ويحسبونه خالقا.” (مرآة كمالات الإسلام، ص 132)
وبهذا يكون المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام قد هَشَّمَ إحدى دعامات الصليب وهي محاولة إثارة الشبهات ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهدف تنصير أهل الإسلام، فسرعان ما قضى المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام على هذه الشبهات بالحُجّة البالغة من القرآن العظيم، ومن ضمنها هذه الشبهة التي لا زال القسس يثيرونها ظنّاً منهم أنها تحط من مقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حين أنها تثبت علو كعبه ﷺ على النبيين كافة والنَّاس أجمعين كخاتم النبيين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالحمد لله تعالى الذي أرسلَ المسيحَ الموعودَ عَلَيهِ السَلام لكسر الصليب فقام بذلك على خير وجه ولله المنة والثناء.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ