يزعم خصوم الإسلام بأن القرآن الكريم مليء بالتناقضات الصارخة التي تدل على أنه ليس من الله تعالى، وللتدليل على ذلك، يقدمون حادثة الصاعقة التي حصلت مع بني إسرائيل كدليل قوي على أن القرآن ليس من الله تعالى، إذ أنهم يقولون: كيف لإله أن يتخبط عند ذكره هذه المسألة، فيناقض نفسه بنفسه، إذ تارة يقول: أن الحادثة حصلت قبل حادثة العجل، وتارة يقول: لا، بل هي حصلت بعدها، أوليس هذا دليل على أن هذا الكتاب من تأليف بشر؟
الرد:
1- إن القرآن هو كتاب الله تعالى الذي أنزله بعلم منه، ولأجل ذلك نجد أنه قد صيغ بطريقة إبداعية، فكل كلمة منه وضعت في مكانها بالضبط، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أنه من الله تعالى.
2- إن القرآن الكريم ليس بكتاب تاريخ وقصص بل هو كتاب هداية ومواعظ وعبر، والقصة في القرآن الكريم لا ترد بغرض السرد التاريخي بل هدفها إما تصحيح خطأ عند السابقين بما فيه الأخطاء التاريخية أيضا أو الدفاع عن نبي سابق وإزالة ما ألصق به من تهم، ثم الهدف الأهم أنها تشتمل على نبوءة تتعلق بالأمة الإسلامية. لذلك نجد أن القرآن يتناول القصص لهذا الغرض بالقدر الذي يفي بالهدف الذي يريده في كل موضع. فالقرآن الكريم ليس ككتب النصارى التي تطنب في ذكر الأحداث والتفاصيل غير ذات الأهمية لدرجة الملل دون جدوى. فالقرآن الكريم يتعامل مع الموضوع بحسب سياقه ووفقا للمغزى والمضمون المراد إيصاله، فإن إقتضى الأمر أن يذكر أهم الأحداث التي تخدم غرضا ما دون مراعاة التسلسل، قام بذلك، ولكن إن إقتضى السياق ذكر التسلسل التاريخي، قام بذلك أيضا. ولو فهم خصوم الإسلام هذه النقطة جيدا، لحلت مشاكلهم ولاستفادوا من نصوص القرآن وآياته وبيناته أيما إستفادة
3- لما قام الله تعالى بتقديم حادثة العجل على الصاعقة في سورة البقرة التي يقول الله تعالى فيها:
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (52) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (53) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (54) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (55) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (56)} (البقرة 52-56)
فقد كان السياق يتطلب ذلك، إذ أن الأيات كانت من قبيل التذكير والتوبيخ، ولذلك أقتضى السياق ذكر الأهم ثم الأهم، ومع بداية كل حادثة جديدة نجد القرآن الكريم يستعمل حرف “إذ”؛ وذلك حتى يشد الانتباه و ينبه القارئ على أن قصة جديدة قد بدأت ، ولهذا السبب قام الله بتقديم قصة العجل على الصاعقة، وذلك لسببين:
- الأول: لأن شرك بني إسرائيل مع رؤيتهم الآيات هي كارثة الكوارث، فكانت هذه الحادثة أهم من حادثة الصاعقة، خاصة وأن هذه الحادثة تسببت في مقتل 3 ألاف بحسب إعتقاد اليهود.
- الثاني: حادثة العجل كانت السبب في اتهام سيدنا هارون ؏ باتهام باطل من قبل اليهود، ولأجل ذلك قام الله بذكرها أولا، وذلك لأن تبرئة نبي أولى عند الله وأهم. ثم إن ذكر حادثة الصاعقة بعد ذلك كان لإثبات خبث اليهود و طهارة موسى وهارون.
أما عندما كان الغرض الذي من أجله ذكر الله القصة بالترتيب الزمني هو بيان كفر اليهود، وأن طلبهم للمعجزات كان من باب السخرية لا طلبا للهداية، قام الله تعالى بذكر القصة بحسب تسلسلها التاريخي، يقول تعالى:
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا } (النساء 154)
فهذه الآية تقول: يا محمد ﷺ لا تظن أن اليهود عندما طلبوا ذلك منك، كان السبب في طلبهم هو حب الهداية والبحث عن اليقين، وإنما كان طلبهم ذلك نابعا من نفوسهم المريضة وعقولهم الخربة، وأن اليهود قوم بهت، وطلبهم للمعجزات هو في الحقيقة من باب السخرية والإستهزاء، وأكبر دليل على ذلك هو مسألتهم لموسى أن يروا الله جهرة، ومع أن الله قد أصابهم بصاعقة مزلزلة أدت إلى إغمائهم من شدة هولها، إلا أنهم لم يرتدعوا برؤيتها ولم يتوبوا إلى خالقهم، بل إنهم إتخذوا العجل بظلمهم ناسين تلك الآية الرهيبة التي أريناها لهم . فإذا كانوا حقا سيستفيدون من طلبهم هذا، فلماذا لم يستفيدوا من آية الصاعقة إن كانوا صادقين؟
وبالتالي تبين أن شبهتهم منشؤها التسرع وسوء التدبر لا أكثر ولا أقل.