وضع الله تعالى آية واضحة لتكون معيارا لمعرفة النبي الصادق من المتنبئ الكاذب، وهذا المعيار يتلخَّص في أن النبي الصادق سيعصمه الله تعالى من الناس، وسيجعله يعيش إلى آخر لحظة من حياته قائما على دعوته ومبلغا لها ومعززا مكرَّما بين جماعته، ولن يتمكن أعداؤه منه فيقتلونه ويدمرون جماعته. أما المتنبئ الكاذب المتقول على الله فقد تأَذّن الله تعالى ليهلكنَّه ويهلكنَّ جماعته بإحدى طريقتين؛ إما بأسباب سماوية يقف أمامها عاجزا هو وجماعته، أو بأن يمكِّن منه أعداءه فيقتلونه شرَّ قتلة وتكون جماعته غير قادرة على حجز هذا العذاب عنه، ويكون قتله أو هلاكه بداية تمزقها والقضاء عليها بحيث لا تقوم لها من بعد قائمة.
وأدلة هذين الدليلين واضحة في القرآن الكريم، فعن العصمة التي تعني أن الله تعالى سيحميه وسيمنع وصول أعدائه إليه يقول تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (المائدة 68)
ومعنى أن الله لا يهدي القوم الكافرين هو أنه لن يوفقهم ولن ينجح جهودهم في الوصول إليك والقضاء عليك، وليس المقصود أن الله تعالى لن يهديهم إلى الحق ولن يؤمنوا! فهذا المعنى باطل بداهة.
أما عن هلاك المتقول على الله يقول تعالى:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ } (الحاقة 45-51)
وهنا، وبعكس ما وعد الله به في العصمة، فيقول الله تعالى إن تدابير جماعته ومحاولتهم لحمايته وحجز العذاب عنه لن تفلح (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، وسيناله العذاب قطعا ويقضي على أسباب حياته وأسباب بقاء واستمرار دعوته وجماعته.
وبهذين الدليلين ثبت صدق النبي صلى الله عليه وسلم، إذ عصمه الله من أعدائه فلم يستطيعوا الوصول إليه رغم قوتهم وبقي في قوة ومنعة بين جماعته حتى وفاته، ثم بقيت جماعته من بعد وفاته وازدهرت وتحققت وعوده وأنباؤه، بل استعادت قوتها ونهضت من جديد تحت ظل الخلافة الراشدة بعد موجة كبيرة من الارتداد وتكالب الأعداء الذين كانوا عازمين على القضاء عليها. مما يؤكد أن الله تعالى قد عصمه من وصول أعدائه إليه في حياته، ثم عندما ظن أعداؤه أنهم قادرون على القضاء على دعوته بعد وفاته خذلهم وأظهر قدرة ثانية للنبي صلى الله عليه وسلم تجلَّت في الخلافة الراشدة، التي نصرها الله تعالى كما كان قد نصر النبي صلى الله عليه وسلم في حياته التي كانت بمنزلة قدرة إلهية أولى. فهكذا تحقق دليل العصمة بعدم تمكين أعدائه منه، ثم بعجزهم عن قطع وتينه أيضا بعد وفاته وذلك باستمرار شريان الحياة لجماعته التي هي بمنزلته حياته الروحية المستمرة.
وبنفس هذين الدليلين ثبت صدق الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، خادم النبي صلى الله عليه وسلم ونائبه في بعثة الإسلام الثانية الموعودة، إذ عصمه الله من الناس رغم قوتهم المفرطة في حياته، ومنع أعداءه من الوصول إليه، فتوفي معززا مكرما بين أفراد جماعته، ثم قامت من بعده الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والتي ما زالت قائمة وستبقى إلى يوم القيامة، وصمدت الخلافة أمام ظروف خطيرة جدا داخلية وخارجية وقادت الجماعة نحو الرقي والازدهار، وهذه جماعته مستمرة مزدهرة تنتقل من نصر إلى نصر ومن تقدم إلى تقدم رغم كل الصعوبات والعقبات وكيد الأعداء.وكما وعد الله تعالى، فلم يهد القوم الكافرين ولم يفلحوا في القضاء على الجماعة أو إيقاف عجلة تقدمها.
أما بقاء المعارضة للجماعة، وتكالب أعدائها وغيظهم واستمرارهم في محاولة القضاء عليها، واستخدامهم البذاءة والسب والشتم والاتهام بالباطل ومحاولتهم للإساءة البالغة، فهذا دليل على آخر على صدقه عليه الصلاة والسلام وصدق جماعته، لأن الله تعالى هو بنفسه قد قضى أن يجعل لكل نبي ومبعوث سماوي عدوا من المجرمين، وهو الذي أتاح لهم أن يجرموا هذا الإجرام، وهذا لحِكم شاءها الله تعالى على رأسها تمييز الخبيث من الطيب وتنقية جماعة المؤمنين من الخبث باستمرار، ثم إظهار آية نصرته وهدايته رغم محاولات الأعداء إيقاف عجلتها. لذا يقول تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } (الفرقان 32)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } (الأَنعام 113-114)
فالله تعالى يخاطبنا ويأمرنا أن نذرهم وما يفترون، وأن ندرك أنه بنفسه من أتاح لهم هذه الفرصة، ولو شاء لما مكّنهم منها، وعلينا ألا نقلق من سوئهم وإجرامهم وإساءاتهم، لأن الله هو بنفسه الهادي والنصير الذي لن يجعل محاولاتهم لمنع الهادية تفلح كما أنه سينصر جماعته رغم كل مكايدهم وافتراءاتهم. أما هم ومن حولهم من المجرمين أمثالهم فليفتروا ولتصغى أفئدتهم لهذا الكذب والفجور وليقترفوا الموبقات كلها، فالله تعالى سيحاسبهم عليها حسابا عسيرا في الدنيا والآخرة، وهذا الأمر قد تعهد به بنفسه.
بقي هنا أن نجيب على سؤال يتبادر إلى الذهن حول آية قطع الوتين وهو: ألا يُمكن أن يُقتل نبي صادق؟ وماذا لو كان ممكنا قتل نبي صادق، ألا يعني قتله قطع وتينه؟ والجواب: نعم، جائز أن يُقتل نبي صادق، ولكن قتله لن يكون قطع وتين، لأن الله تعالى سيمكنه من تبليغ دعوته أولا كاملة، ثم لن يبدد جماعته ولن يقضي عليها من بعده، بل ستستمر بكل قوة ما شاء الله لها أن تستمر. أما إذا لم يُقتل مدعي نبوة أو لم يهلكه الله تعالى بأسباب سماوية قبل أن يُتمَّ دعوته وما وعد به، ثم بقيت جماعته من بعده واستمرت بقوة، فهذا يعني أنه صادق لا محالة.
أما بقاء الجماعة فهذا يعني بقاء جماعة حية قائمة على الدعوة مستمرة مزدهرة، وليس مجرد بقاء جماعة ضعيفة متهالكة لا يأبه بها أحد. فبقاء جماعة بهذه الصورة ممكن، بل هي بنفسها ستكون دليلا على هلاك الدعوة إذ تكون قد فقدت كل شيء وأصبحت كالمومياوات في المتاحف تشهد على موت الدعوة.
وفي حالتنا، فإن المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لم يُقتل ولم يهلك بأسباب سماوية، بل كان بنفسه قد تنبأ عن موته وموعده في أنباء تفصيلية كثيرة خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة من عمره، ثم لم تتبدد جماعته بل ازدادت قوة بعد وفاته، وما زالت غائظة للكافرين والمعارضين يوما بعد يوم.
باختصار، هذه الأدلة تدمغ رأس كل معارض، وهي قائمة وقاطعة وواضحة وبينة على صدق المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وصراخ وعويل المعارضين وبذاءتهم وإساءاتهم وغيظهم وحقدهم مع عدم قدرتهم على إهلاك الجماعة إنما هو دليل إضافي على صدق حضرته، لأن الله تعالى هو بنفسه قد وعد بوجود هؤلاء دوما واستمرارهم، إذ إن لهم دور أيضا غير مباشر في تبليغ الدعوة وتنقية جماعة المؤمنين وتمييز الخبيث من الطيب، ولكنهم هم بأنفسهم سيرون خزيا أبديا متكررا في الدنيا كلما رأوا أن تدابيرهم تفشل وجهودهم تذهب أدراج الرياح، ثم سيلقون عذابا أليما في الآخرة.