وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ
كما هي سنَّة الأنبياء، فهكذا أيضا كان الخلفاء على منهاج النبوة؛ إذ إن همَّهم الأول ليس إلا أن يؤمن الناس. فلهذا نجدهم لا يتسرَّعون بطلب العذاب، بل لا يرغبون به إلا إذا كان هذا العذاب سببا لإيمان الناس، أو كان سببا لاجتثاث أئمة الكفر الذين يحولون بينهم وبين الإيمان.
فبعد هجرة الخليفة الرابع رحمه الله صعَّد الطاغية ضياء الحق من اضطهاد الأحمديين، وضيَّق عليهم الخناق من كل ناحية، وجعلهم عرضة لمظالم واضطهاد وتقتيل تفوق التصور على يد مشايخ السوء والغوغاء تحت سمع ونظر السلطة، فبهذا كان المسئول الأول عن هذه الجرائم التي يندى لها جبين البشرية.
وكان الخليفة الرابع رحمه الله قد حذر هذا الطاغية مرارًا عن المغبة الوخيمة لجرائمه، وقد خاطبه وأعوانه في خطبة الجمعة بتاريخ 14 كانون الأول 1984 فقال:
“بفضل الله تعالى إن للجماعة الإسلامية الأحمدية وليًّا ومولى. إن للجماعة الإسلامية الأحمدية مولى، وإن إله الأرض والسماء هو مولانا، ولكنني أخبركم أنْ لا مولى لكم. وأقسم بالله أنه عندما يأتي مولانا لنصرتنا فلن يستطيع أحد أن ينصركم. عندما يمزقكم قدر الله تعالى إربًا فستمحى آثاركم ولن تذكركم الدنيا إلا بالذلة والهوان، وسيُذكَر اسم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الخادمِ الصادق لمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم بعزة ومحبة وعشق أكثر فأكثر يوما بعد يوم.“
ولما طفح الكيل بالظلم والاضطهاد على الأحمديين الأبرياء، وجه الخليفة الرابع رحمه الله دعوةَ المباهلة إلى أئمة التكفير للأحمديين عامةً وإلى هذا الطاغية خاصة، بعد أن عدّد كل التهم الموجهة إلينا وتبرأَ منها قائلاً: لعنة الله على الكاذبين، وذلك في خطبته للجمعة يوم10 حزيران 1988. وكان يهدف من ذلك أن يعاقب الله أئمة الكفر عسى أن يزول تأثيرهم على عامة الناس فيندفعوا للإيمان.
فظل الخليفة رحمه الله ومن ورائه الجماعة يبكون ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يصدر حكمه في هذه القضية المصيرية، ويميز بين الصادقين والكاذبين، فيرى الناس صدق هذه الجماعة فيؤمنوا.
هذا وكان الخليفة رحمه الله قد قال في خطبته للجمعة في 1 تموز 1988 وهو يتحدث عن الطاغية ضياء الحق:
“إننا ما زلنا ننتظر ما سيُظهره الله تعالى من قضائه بشأن هذا الرجل، ولكنه، سواء أقَبِلَ دعوتي للمباهلة أم لم يقبلها، فإنه إمام المكفرين لنا، وأولُ المؤذين والمسؤولين عن كل ما يُصَبّ على الأحمديين الأبرياء من ظلم واضطهاد، إذ كان ولا يزال يأمر بالاعتداء عليهم، ثم يراقب هل وُضعت أوامره موضعَ التنفيذ أم لا، ويستمتع بتعذيبهم أيما متعة، لذا فلا يُنتظر مِن مثل هذا الشخص قبولُ دعوة المباهلة باللسان، بل إن استمراره في الاضطهاد يُعَدّ دليلا على قبوله لها“.
وفي خطبة الجمعة 5 آب 1988 بشّر حضرتُه رحمه الله أبناء الجماعة وقال:
“أريد أن أخبركم أن رحى الله أخذتْ تدور، وعندما تدور رحى قدر الله فلا يستطيع أحد أن يوقفها، وليس في العالم قوة تستطيع أن تنقذ مِن عذاب تلك الرحى مَن أراد الله تمزيقه في رحاه.“
وكان حضرته قد طلب من الجماعة، متأثرا بفكرته عن أن العذاب قد يدفعهم إلى الإيمان، أن يبتهلوا إلى الله تعالى عسى أن تكون هذه الآية – التي أصبحت وشيكة جدا، والتي سيظهرها الله تعالى بكل جلال، كما هو واضح من الأنباء – عسى أن تكون سببا لإيمان الناس بسبب قوتها وجلالها، فهذا هو الهدف المنشود.
ولكن الله تعالى أفهمه حقيقة الأمر، ففي خطبته للجمعة يوم 12 آب 1988 ذكر حضرته رؤياه التي رأى فيها المَثل الإنجليزي History Repeats Itself، وتعريبه “التاريخ يعيد نفسه”، وبين حضرته أن معناه الذي فهمته هو أنكم لن تجدوا لسنة الله بشأن المجرمين الظالمين تبديلا، فهؤلاء سيعذبون ولكنهم لن يؤمنوا برؤية آية العذاب، وأخبر أن هذه الرؤيا منذرة جدًا وقال:
“لقد قُدِّرَ لِمن دعَوناه للمباهلة أن يرى يوم غضب الله بسبب شقاوته، وإلا فما كان الله ليُرسل له هكذا عن طريقي هذه الرسالة (أي التاريخ يعيد نفسه). فلن تجدوا في هذا تبديلا، بل سوف يعاقب الله المجرمين حتمًا.“
ثم قال حضرته رحمه الله في الخطبة نفسها:
“سوف يبطش بهم قدرُ الله حتما، وسوف يعاقبنَّ يقينًا مَن لا يكفُّ منهم عن هذه الشرور.“
ورغم تأكيد حضرته على أن العذاب واقع لا محالة وقريب جدا، إلا أن خبر أنهم لن يؤمنوا وفقا لما أنبأه الله تعالى به كان شديد الوطئ عليه، وقال إنه قد انخلع قلبه نتيجة لهذا النبأ، وقال مخاطبا الجماعة في هذه الخطبة مبينا خطأ ظنه أنهم سيؤمنون نتيجة لهذه الآية ودعوته للجماعة بالدعاء من أجل أن تكون سببا في الإيمان:
“إن رؤيتي هذه التي رأيتها البارحة قد أصابت قلبي بهزة شديدة، إذ يبدو منها أن هذه العقوبة قد صارت قدرًا مقدرا لهؤلاء القوم، وأن شريحة منهم -ولا أقول”كلهم” الآن أيضا – لا بد أن يصجوا آيةَ عبرة.“
ثم تابع قائلا:
“ ولكن الموضوع الثاني المذكور في هذه الآيات (يقصد الآيات التي استهل بها خطبته وهي: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}) هو أنه ليس ضروريا أن يؤمن الناس رغم رؤية الآيات. لقد طلبت منكم في الخطبة الماضية أن ادعوا الله تعالى أن تظهر آية يؤمن بسببها القوم كلهم. ولكن هذه الآيات نبّهتني إلى خطأي. إن الفكر الإنساني ناقص في كل حال، وكلام الله تعالى قد ألقى الضوء على هذا الموضوع وبين أن الأمم لا تؤمن نتيجة رؤية الآيات، حيث قال الله تعالى: (لا يؤمنون وقد خلت سنة الأولين)، أي سوف يسلك هؤلاء مسلك الأولين، وسوف يفعل الله بهم ما فعل بالأولين…
فانظروا إلى فداحة جهلي وخطأي حين قلت لكم أن ادعوا الله تعالى أن تظهر معجزات وآيات يؤمن بسببها هؤلاء أجمعين. كلا، إن الأمم لا تؤمن أبدا نتيجة رؤية الآيات. لو كانت الأمم تؤمن بسبب رؤية الآيات لكان تاريخ الأنبياء كلهم مختلفا تماما، ولكان هذا التاريخ مكتوبا بشكل آخر. لذا فهناك سبيل وحيد تستطيعون به استنزال فضل الله تعالى، ويوفَّق به القوم للإيمان، وهو سبيل الدعاء. فادعوا الله تعالى اللهم ارحم هؤلاء القوم لكي يؤمنوا. وليس أن تدعوا اللهم أَرِ أمرًا كذا أو كذا فيؤمنون. مثل هذه الأدعية تضيع في معظم الأحيان، ولو ظهر أمرٌ فلا تظهر له النتيجة المرجوة. لقد شاهدنا مثل هذه الواقعات مرارا في حياتنا…
فالدعاء الذي طلبته منكم في المرة الماضية اعتبروه منسوخا، إذ لا معنى له. إنما الدعاء الوحيد هو أن تدعوا اللهم أنت مالك القلوب، أنت القادر القوي، أنت الرحيم، متى آمنت الأمة العربية نتيجة رؤية المعجزات، إنما آمنوا ببركة أدعية محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. فأرِنا اللهم المعجزة التي أريتها في زمن محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومِن أجله. هذه الجماعة أيضا جماعته، واليوم أيضا القضية قضية كرامته وليست كرامتنا. فهذه الجماعة هي جماعة سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكل هذا العمل هو عمله. فأَرِنا اللهم آية عظمة قبوليته صلى الله عليه وسلم عندك مرة ثانيةً، وببركته وبسبب حبه أَرِنا مرة أخرى معجزةً تغيّر قلوب هؤلاء المعارضين فيؤمنون. فإننا لا نفرح بعذابهم، وإنما نفرح بهدايتهم. آمين.“
وبعد خمسة أيام فقط من هذا الإنذار الإلهي وهذه الخطبة المؤثرة نـزل قدر الله من السماء يوم 17 آب 1988، حيث انفجرت في جوّ السماء الطائرة العسكرية التي تحمل هذا الطاغية مع عدد من الضباط وأيضا الدبلوماسيين الأمريكيين، وأصبح رمادًا تذروه الرياح، حيث لم يُعثَر على شيء من جثته المحترقة سوى بعض أسنانه الذهبية التي دفنوها في قبره كما هو معروف؛ فقد ذكرت صحيفة بريطانية شهيرة:
“لم يكن في التابوت الذي دفنوه في “إسلام آباد” إلا بعض أسنانه “المحترقة“. (Financial Times العدد الصادر يوم 22/8/1988)
أما الجماعة وخليفتها فقد كتب لهم بعد المباهلة من التقدم والازدهار المطرد ما هو غني عن البيان. فالحمد لله أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، إلى يوم الدين.
وإن كان الأحمديون قد فرحوا بنصر الله إلا أن هذا العذاب لم يكن بحد ذاته سببا في فرحهم، بل كان الأسف مستوليا عليهم بسبب شقاوة هذا الشخص وأمثاله ووصولهم إلى مصيرهم المحتوم، ثم عدم انتفاع الناس به، وهذا ما أدى إلى انخلاع قلب الخليفة حزنا من قبل.
في النهاية نقول إن الله تعالى أراد أن تظهر الآية القاهرة من ناحية، وأنبأ أيضا قبيل نزولها أن الفكرة التي راودت الخليفة الرابع رحمه الله عن أنها ستكون سببا في إيمان القوم كانت خاطئة؛ وهذا بحد ذاته إنما هو نبأ عظيم من ناحية أخرى. والواقع أن هذه الفكرة لم تتولد في قلبه إلا بدافع مواساته وشفقته على خلق الله تعالى وحبه للخير لهم، على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، وكما هي سنة الأنبياء دوما. وهكذا فقد شاء الله تعالى أن تصبح هذه الآية مظهرا لقوة الله تعالى وجبروته من ناحية، وأن تكون سببا لظهور شفقة ومواساة خليفته، بل ولتضيف إلى الآية نبأ جديدا قبيل حدوثها وهو أنها ستقع بكل قوة وجلال ولكن لن يؤمن القوم بسببها. ومع أن حضرته قد قدَّم الأمر على أنه خطأ منه من قبل، إلا أنه لم يكن خطأ في الواقع، بل كان لحكمة عظيمة، كما هي أخطاء الأنبياء. فنعم الخطأ الذي هو أعظم من الصواب!