وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
يقول المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تفسير آية وفديناه بذبح عظيم:
“وأرى أن الرؤيا التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل، كان تأويلها أن يترك ابنه في وادٍ غير ذي زرع، إذ إن تركه إياه في مثل هذا المكان كان بمثابة ذبح له ولا ريب.
لم يستطع سيدنا إبراهيم فهم الرؤيا بمفهومها الصحيح تأثّراً بالتقليد الشائع في ذلك الزمن، إذ كان الناس يقدمون حِينَئِذٍ قرابين إنسانية، فظنّ إبراهيم أن الله يريد منه ذبح ابنه ذبحاً مادياً. ولم يخبره الله تعالى بتأويل الرؤيا الصحيح لكي يلغي على يد إبراهيم تقليد الذبائح الإنسانية هذا. فلما استعد فعلاً لذبح ابنه كي يحقق الرؤيا تحقيقاً حرفياً، أوحى الله إليه أنْ يا إبراهيم قد صَدّقتَ الرؤيا وخرجت ناجحاً من الاختبار، فيجب من الآن أن لا يقتل أي إنسان قربانا لله على هذا النحو، اللهم إلا الذي يُقتل في الحرب أو في القصاص. وأعلن أنه يجب أن يأخذ القربان الإنساني من الآن طابعاً معنوياً.
فلا تقدّموا لله لحومكم ودماءكم، بل ضحوا في سبيله بوقتكم وعلمكم ومالكم لتنالوا به قربه سبحانه وتعالى. فاذبح الآن يا إبراهيم كبشاً من الأكباش دفعا للبلاء، وجهز نفسك للتضحية بابنك بطريق آخر وهو أشق وأشد من هذا الطريق.
لقد بيّن الله تعالى هنا أن إبراهيم ترك ابنه في تلك البرية معتبرا إياه عملاً صاًلحا وبنية صالحة جدا. وهكذا فإن هذه الآية تمثل ردا ضمنيا على ما اتهمت به التوراة إبراهيم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام. فقد ورد فيها أن إبراهيم أخرج ابنه إسماعيل وزوجته هاجر من البيت وتركهما في تلك البرية النائية إرضاًء لزوجته سارة (التكوين ٣١: ٨-١٢). ومعنى ذلك أن هذا النبي العظيم َظَلَمَ بعض الأبرياء إرضاًء لزوجته. ولكن القرآن يُخطِّئ التوراة في ذلك مبرًئا ساحة إبراهيم من هذا الاتهام بلسانه عَلَيهِ السَلام، إذ يسجل دعاءه هذا الذي يقول فيه: يا رب، إنك تعلم نيتي وأنا أترك زوجتي وابني في هذه البرية. إنني لا أتركهما هنا لغرض دنيوي، وإنما أريد به كسب رضوانك فقط.
توضح لنا هذه الآية قوة إيمان إبراهيم. فإنه يترك ابنه البكر في البرية التي يصعب وصول الماء والطعام إليها، وهكذا يدمر مستقبل ابنه في نظر أهل الدنيا، ولكن يقينه بوعد الله قوي وراسخ لدرجة أنه يتجه إلى شكره تعالى ِإْذ وهب له على الِكبر إسماعيل وإسحاق استجابة لتضرعاته فيهما. وكأّن إبراهيم ما كان يريد من الله الأولاد حتى في سن الشيخوخة إلا إذا كانوا سيضحون بأرواحهم في سبيل الله تعالى، وتوطيد دينه في العالم. والحق أنه لا يحظى بمثل هذا الإيمان والفداء والإخلاص إلا ذو حظ عظيم كإبراهيم وأمثاله. اللهم صِّل عليهم وارفع درجاتهم.” (أحسن القصص من التفسير الكبير ص ١٠٨)
وقال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التفسير الوسيط تفسيراً للآيات من سورة الصافات:
﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِن هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ ۚ* وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ (سورة الصافات)
“يختلف الكتاب المقدس والقرآن الكريم حول الإبن المقصود بالتضحية حسب أوامر الله ﷻ، فالقرآن يقول بأنه إسماعيل، بينما يقول الكتاب المقدس بأنه إسحق. يقول الكتاب المقدس عن الابن المقصود بالتضحية: “وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا». فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ».” (سفر التكوين 22:1-2). أما القرآن الكريم فقد بيّن وفق الآيات أعلاه بأن إسماعيل هو المقصود بالتضحية. وثمة تناقض في سرد الكتاب المقدس لهذا الموضوع، فالنص يقول بأن إبراهيم أُمِرَ بالتضحية بابنه الوحيد، ولكن إسحق لم يكن يوماً إبنه الوحيد، فقد وُلد إسماعيل لإبراهيم عندما كان في سن 86 عاماً بينما وُلد له إسحق عندما بلغ من العمر 99 عاماً. وبهذا يكون إسماعيل ولثلاثة عشر سنة هو الابن الوحيد لإبراهيم. ولأن إسماعيل هو الابن البكر فلا بد أن يحظى بمعزّة مضاعفة عند أبيه. فالمنطقي والمعقول إذاً حسب نص الكتاب المقدس هو أن يضحّي الأب إِبْرَاهِيم بالإبن الحبيب والوحيد عنده أي ولده البكر إسماعيل.
لقد حاول بعض المبشرين المسيحيين عبثاً تبرير هذا التناقض مستشهداً بنص غلاطية: “فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ ٱبْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وَوَاحِدٌ مِنَ ٱلْحُرَّةِ. أَمَّا ٱلَّذِي مِنَ ٱلْجَارِيَةِ فَقَدْ وُلِدَ عَلَى حَسَبِ ٱلْجَسَدِ، وَأَمَّا ٱلَّذِي مِنَ ٱلْحُرَّةِ فَبِٱلْوَعْدِ.” (غلاطية 4: 21-23). وبغضّ النظر عن كون هاجر والدة إسماعيل تنتمي في الحقيقة للأسرة الملكية على عرش مصر ولم تكن جارية، ألا إن إسماعيل ذُكِرَ مراراً في الكتاب المقدس بأنه إبن إِبْرَاهِيمَ تماماً كما ذُكِرَ إسحق كإبن له كما في سفر التكوين: “كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً لَمَّا وَلَدَتْ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ لأَبْرَامَ.” (تكوين 16: 16)، و “فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلَ ابْنَهُ، وَجَمِيعَ وِلْدَانِ بَيْتِهِ، وَجَمِيعَ الْمُبْتَاعِينَ بِفِضَّتِهِ، كُلَّ ذَكَرٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ، وَخَتَنَ لَحْمَ غُرْلَتِهِمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَيْنِهِ كَمَا كَلَّمَهُ اللهُ.” (تكوين 17: 23)، و “وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ ابْنُهُ ابْنَ ثَلاَثَ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ خُتِنَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ.” (تكوين 17: 25). وقد تلقى إِبْرَاهِيمَ وعداً إلهياً خاصاً بإسماعيل كما تلقى وعداً خاصاً بِإِسْحق. يقول الكتاب المقدس: “وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً.” (تكوين 17: 20)، وكذلك النص التالي: “وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ».” (تكوين 16: 10-11). وبغضّ النظر عن تبديل الكتاب المقدس إسحق مكان إسماعيل والذي يبدو تبديلاً مدبَّراً، و تبديل منطقة “الموريا” بدل “المروى” وهو التل المتاخم لمكة المكرمة والذي نفّذَ فيه إبراهيم الرؤيا كما ذكرت الاية السابقة حيث ترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر وهو طفل، فلا يوجد في الكتاب المقدس كله أدنى دعم لنظرية التضحية بِإِسْحق بدل إسماعيل.
وفوق ذلك كله لا يوجد أثر لأي احتفال ديني أو أي ذِكر لهذه المناسبة عند اليهود ولا النصارى بتضحية إِسْحق المزعومة على يد إبراهيم. بينما يُعَظِّمُ المسلمون أولاد إسماعيل في كل عام هذه المناسبة بذبح الأضاحي من الأغنام والماعز حول العالم في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة. إن هذه الأضاحي العالمية بالماعز والأغنام والتي هي تخليد وذكرى لاستعداد إبراهيم لذبح ابنه إسماعيل إنما هي دليل دامغ لا يقبل الشك على أن إسماعيل هو الابن الذي أراد إِبْرَاهِيم التضحية به وليس إسحق. لقد حقق إِبْرَاهِيم هذه الرؤيا بالفعل وذلك بعد أن ترك ابنه الصغير اسماعيل وأمه هاجر في وادي مكة الصحراوي الجاف الذي لا توجد فيه بارقة حياة أو حتى ورقة من النبات أو قطرة من الماء. هذا العمل الشجاع هو في الحقيقة رمز تضحية إسماعيل.
إن قوله تعالى {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} يُظهر في الواقع أن إبراهيم لم يكن مطلوباً منه الذبح الحقيقي للإبن بل مجرد إظهار استعداده وجاهزيته للتضحية بإبنه وهو المطلوب والذي حدث بالفعل. وكما قلنا سلفاً فقد تحققت هذه الرؤيا رمزياً عندما تَرَكَ إبراهيمُ زوجته هاجر وابنها الصغير في وادي مكة الذي كان في ذلك الوقت أرضاً قاحلة جرداء. إنَّ تَرْك امرأة لا حول لها ولا قوة مع طفلها الصغير في صحراء مترامية لا أثر فيها للحياة ولا حتى ماء للشرب أو أي شيء يؤكل لهي بالفعل تضحية عظيمة من هذا الرجل الصالح.
يا لها من تجربة قاسية خاضها إِبْرَاهِيم عندما تَرَكَ زوجته العزيزة وابنه الحبيب وحيده بلا زاد ولا سكن في أرض لا مجال فيها إلا للهلاك.
لقد تَخلَّدَ استعداد إبراهيم للتضحية بابنه في قلب الدين الإسلامي وصار فريضة وركناً من أركان الإسلام أي الحج. ستبقى هذه الفريضة إلى آخر يوم من عمر الدنيا قائمة باستمرار من خلال الحج وفي كل يوم عاشر ذي الحجة تٰذبح الأضاحي من الأغنام والماعز في مكة وفي جميع أرجاء العالم الإسلامي استذكاراً لتضحية إسماعيل عَلَيهِ السَلام. إنه هذا الأساس القرآني {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الذي يشار إليه بالتضحية. إنه الإعلان الإلهي عن بطلان التضحية بالبشر التي كانت جارية في عهد إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَلام وأوان الأضاحي الحيوانية بدلاً عنها.
يا له من إرث عظيم تركه إسمُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَلام للديانات الرئيسية الثلاث الإسلام واليهودية والمسيحية التي تشير إلى هذه التضحية العظيمة التي قام بها مبعوث الله عَلَيهِ السَلام.
لقد سَرت البركة في نسل ابنَي ابراهيم إسماعيل وإسحق عليهم السَلام من بعدهم فبُعث منهم الأنبياء والأمم العظى.” (التفسير الوسيط، سورة الصافات، الآيات 103-114 بترجمة خاصة)
أما الباء في كلمة (بذَبْحٍ) فتعني السببية أي أن سيدنا محمدًا ﷺ الذي هو ذبيحة عظيمة لله من نسل إسماعيل عَلَيهِ السَلام ستهب نفسها لله فيلقى ﷺ في سبيله ﷻ ما سيلقاه، وذلك هو سبب تنجيته.
وقد ورد الحديث التالي:
“حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ رِشْدِينَ، ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، ثنا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَزَعَمَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ لأذْبَحَنَّ نَفْسِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، ثُمَّ تَلَا وفديناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ -الصافات: ١٠٧” (١١٤٤٣، المعجم الكبير للطبراني، ج ١١، ص ١٨٦)
وقد شرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في كتبه المختلفة كيف أن ذبح الأضاحي هو في الحقيقة ذبح نفوسنا الأمّارة بالتوبة والتخلي عن الأهواء، وكيف أن هذا الذبح هو المراد من هذه الشعيرة الخالدة.
فيقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في الخطبة الإلهامية:
“یَاعِبَادَ اللّٰہِ فَکِّرُوْا فِیْ یَوْمِکُمْ ھٰذَا یَوْمِ الْاَضْحٰی۔ فَاِنَّہٗ اُوْدِعَ اَسْرَارًا لِاُولِی النُّھٰی وَتَعْلَمُوْنَ اَنَّ فِیْ ھٰذَا الْیَوْمِ یُضَحّٰی بِکَثِیْرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ۔ وَتُنْحَرُ اٰبَالٌ مِّنَ الْجِمَالِ وَخَنَاطِیْلُ مِنَ الْبَقَرَاتِ۔ وَتُذْبَحُ اَقَاطِیْعُ مِنَ الْغَنَمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ رَبِّ الْکَاءِنَاتِ۔ وَکَذَلِکَ یُفْعَلُ مِنْ اِبْتِدَاءِ زَمَانِ الْاِسْلََامِ۔ اِلٰی ھٰذِہِ الْاَیَّامِ۔ وَظَنِّیْ اَنَّ الْاَضَاحِیَ فِیْ شَرِیْعَتِنَا الْغَرَّاءِ۔ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْاِحْصَاءِ۔ وَفَاقَتْ ضَحَایَا الَّذِیْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ اُمَمِ الْاَنْبِیَاءِ۔ وَبَلَغَتْ کَثْرَۃُ الذَّبَائحِ اِلٰی حَدٍّ غُطِّیَ وَجْہُ الْاَرْضِ مِنَ الدِّمَاءِ۔ حَتّٰی لَوْ جُمِعَتْ دِمَاءُھَا وَاُرِیْد اِجْرَاءُھَا لَجَرَتْ مِنْھَا الْاَنْھَارُ۔ وَسَالَتِ الْبِحَارُ وَفَاضَتِ الْغُدْرُ وَالْاَوْدِیَۃُ الْکِبَارُ۔ وَقَدْ عُدَّ ھٰذَا الْعَمْلُ فِیْ مِلَّتِنَا مِمَّا یُقَرِّبُ اِلَی اللّٰہِ سُبْحَانَہٗ۔ وَحُسِبَ کَمَطِیْئۃٍ تُحَاکِی الْبَرْقَ فِی السَّیْرِ وَلُمْعَانہ۔ فَلِاَجْلِ ذَلِکَ سُمِّیَ الضَّحَایَا قُرْبَانًا۔ بِمَا وَرَدَ اِنَّھَا تَزِیْدُ قُرْبًا وَلُقْیَانًا۔ کُلَّ مَنْ قَرَّبَ اِخْلَاصًا وَتَعَبُّدًا وَاِیْمَانًا۔ وَاِنَّھَا مِنْ اَعْظَمِ نُسُکِ الشَّرِیْعَۃِ۔ وَلِذَلِکَ سُمِّیَتْ بِالنَّسِیْکَۃِ۔ وَالنُّسُکُ اَلطَّاعَۃُ وَالْعِبَادَۃُ فِی اللِّسَانِ الْعَرَبِیَّۃِ۔ وَکَذَلِکَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُکِ بِمَعْنَی ذَبْحِ الذَّبِیْحَۃِ۔ فَھٰذَا الْاِشْتَرَاکُ یَدُلُّ قَطْعًا عَلٰی اَنَّ الْعَابِدَ فِی الْحَقِیْقَۃِ ھُوَ الَّذِیْ ذَبَحَ نَفْسَہٗ وَقُوَاہُ۔ وَکُلَّ مَنْ اَصْبَاہُ لِرِضٰی رَبِّ الْخَلِیْقَۃِ وَذَبِّ الْھَوٰی۔ حَتّٰی تَھَافَتَ وَانْمَحٰی۔ وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفٰی۔ وَھَبَّتْ عَلَیْہِ عَوَاصِفُ الفَنَاءِ۔ وَسَفَتْ ذَرَّاتِہٖ شَدَائدُ ھٰذِہِ الْھَوْجَاءِ۔ وَمَنْ فَکَّرَ فِیْ ھٰذَیْنِ الْمَفْھُوْمَیْنِ الْمُشْتَرِکَينِ۔ وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَیَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَیْنَیْنِ۔ فَلَا یَبْقٰی لَہٗ خِفَاءٌ وَلَا مِرَاءٌ۔ فِیْ اَنَّ ھٰذَا اِیْمَاءٌ۔ اِلٰی اَنَّ الْعِبَادَۃَ الْمُنْجِیَۃَ مِنَ الْخَسَارَۃِ۔ ھِیَ ذَبْحُ النَّفْسِ الْاَمَّارَۃِ۔ وَنَحْرُھَا بِمُدَی الْاِنْقِطَاعِ اِلَی اللّٰہِ ذِی الْاٰلَاءِ وَالْاَمْرِ وَالْاِمَارَۃِ۔ مَعَ تَحَمُّلِ اَنْوَاعِ الْمَرَارَۃِ۔ لِتَنْجُوَ النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَۃِ۔ وَھٰذَا ھُوَ مَعْنَی الْاِسْلَامِ۔ وَحَقِیْقَۃُ الْاِنْقِیَادِ التَّامِّ۔ وَالْمُسْلِمُ مَنْ اَسْلَمَ وَجْھَہٗ لِلّٰہِ رَبِّ الْعَالَمِیْنَ۔ وَتَلَّھَا لِلْجَبِیْنِ۔ وَمَا نَسِیَ الْحَیْنَ فِیْ حِیْنٍ۔ فَحَاصِلُ الْکَلَامِ اَنَّ النُّسُکَ وَالضَّحَایَا الْاِسْلَامِ۔ ھِیَ تَذْکِرَۃٌ لِّھٰذَا الْمَرَامِ۔ وَحث عَلٰی تَحْصِیْلِ ھٰذَا الْمَقَامِ۔ وَاِرْھَاصٌ لِحَقِیْقَۃٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوْکِ التَّامِّ۔ فَوَجَبَ عَلٰی کُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُؤْمِنَۃٍ کَانَ یَبْتَغِیْ رِضَاءَ اللّٰہِ الْوَدُوْدِ۔ اَنْ یَّفْھَمَ ھٰذِہِ الْحَقِیْقَۃَ وَیَجْعَلَھَا عَیْنَ الْمَقْصُوْدِ۔ وَیُدْخِلَھَا فِیْ نَفْسِہٖ حَتّٰی تَسْرِیَ فِیْ کُلِّ ذَرَّۃِ الْوَجُوْدِ۔ وَلَا یَھْدَءْ وَلَا یَسْکُنْ قَبْلَ اَدَاءِ ھٰذِہِ الضَّحِیَّۃِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُوْدِ۔ وَلَا یَقْنَعْ بِنَمُوْذَجٍ وَقِشْرٍ کَالْجُھَلاءِ وَالْعُمْیَانِ۔ بَلْ یُؤَدِّیْ حَقِیْقَۃَ وَیَقْضِیْ بِجَمِیْعِ حَصَاتِہٖ۔ وَرُوْحِ تُقَاتِہٖ رُوْحَ الْقُرْبَانِ۔ ھٰذَا ھُوَ مُنْتَھٰی سُلُوْکِ السَّالِکِينَ۔ وَغَایَۃُ مَقْصَدِ الْعَارِفِیْنَ۔ وَعَلَیْہِ یَخْتَتِمُ جَمِیْعُ مَدَارِجِ الْاَتْقِیَاءِ۔ وَبِہٖ یَکْمُلُ سَائرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّیْقِیْنَ وَالْاَصْفِیَاءِ۔ وَاِلَیْہِ یَنْتَھِیْ سَیْرُ الْاَوْلِیَاءِ۔” (الخطبة الإلهامية)
لقراءة الخطبة الإلهامية كاملة نرجو مراجعة الرابط التالي
للمزيد: الدليل ان اسماعيل ؏ هو الذبيح
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ