سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتنزيه الأنبياء” حلقة 1
معصية آدم وخصوصية المسيح بالسلامة من مَس الشيطان
في عام 1903 وصل القس والمبشر الإنجليزي مونرو ببعثة تنصير إلى الهند، فنشرَ كتيبات حاول فيها إثبات ألوهية المسيح عَلَيهِ السَلام على أساس خلوّه من الخطيئة مقارنةً مع آدم عَلَيهِ السَلام الذي يعتقد المسيحيون أنه هو أصل الخطيئة والموت الروحي للإنسان والطعن بالأنبياء، فَرَدَّ حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام على هذه المنشورات بأجوبة رائعة نشرها في مجلة حضرته “مراجعة الأديان” وطلب من القس مونرو بلطف أن ينشر الجزء الثاني من مقاله لكي يرد عَلَيهِ حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام، ولكن دون جدوى، وسنقتبس من الرد بضعة أسطر فقط لطول المقال كما يلي:
“إنَّ طبيعة معصية آدم ؑ في هذا السياق تُحددها بكل وضوح الآية السابقة لهذه القصة في سورة “طه”، حيث كُتب هناك بوضوح: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾. فهذه الآية تُزيل عن آدم عَلَيهِ السَلام تهمة الكسر المتعمد لوصية الله تعالى. ولا تقتصر الآية على التوضيح أن آدم ؑ نسيَ بل تنفي أيضاً نيّته للفعل، وبالتالي تجعل تبرئته من التهمة الكاذبة تبرئة مضاعفة. ولأن النية هي عنصر ضروري في الخطيئة، كما بَيَّنَّا سابقاً، فإن قيام آدم ؑ بالأكل من الثمرة المحرمة أمرٌ لا يصل على الإطلاق إلى الخطيئة. ثم تلي هذه الآية مباشرة قصة خداع الشيطان لآدم وأكله من الثمرة، ولذلك يتضح بشكل قاطع أن النسيان وعدم وجود النية هو المتعلق بهذا الأمر الإلهي. فآدم عَلَيهِ السَلام قد عصى أمر الله تعالى، ولكنه لم يقصد ولم ينوي العصيان، بل كان النسيان هو المؤدي إلى مخالفة أمر الله تعالى. يمكن أن نطلق على نتيجة الفعلِ عصياناً، ولكن بقدر ما يتعلق الأمر بآدم، فلا يمكن أن يسمى هذا الفعل خطيئة. إنَّ عنصر النيّة مفقودٌ تماماً، والله سبحانه وتعالى نفسه يُبرّئ آدم ؑ من تهمة الخطيئة في هذه المسألة. إنَّ النسيان ضَعفٌ طبيعي عند البشر، ولهذا السبب بعد أكل الثمرة المحرمة نتيجة النسيان توجَّه آدمُ ؑ بالدعاء إلى الله تعالى ليقوّيه ويحميه من الضعف البشري. … أما في الآية ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ فقد كان العصيان نتيجة النسيان، ولذلك لم تكن خطيئة، و”غَوَىٰ” تعني بحسب المعجم المعروف بـ لسان العرب: “فَسَدَ عَلَيهِ عَيْشُهُ“، إذن، فلا يمكن لهذه الكلمات أن تكون أساساً لأي اعتراض ولا تؤدي بحال إلى الاستنتاج أن آدم عَلَيهِ السَلام ارتكب خطيئة“. (مجلة “مراجعة الأديان”، المجلد 2، العدد 7، ص 256، تموز 1903)
كان هذا مجرد تعريب موجز (ترجمتي الشخصية للنص) لجزء قليل فقط من مقال كبير يدافع فيه الحَكَمُ العَدْلُ عَلَيهِ السَلام عن أنبياء الله تعالى عليهم السَلام وفق أسس القرآن المجيد بهدف توضيح الهدف من الرسالة الإلهية وهي التسليم إلى الله تعالى الإله الصالح الذي لا يظلم مثقال ذرة. ولقد تناول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الموضوع من زوايا عديدة لتوضيح حقيقة الأمر وإزالة الأوهام عن أذهان الناس وتحدّث حضرته بالتفصيل، ولكننا اقتبسنا جزءا فقط من المقال لتوضيح الصورة. ولمن أراد الاستزادة حول هذه المسألة يمكنه العودة إلى التفسير الكبير لسورة “طه” حيث ناقش المُصْلِحُ المَوْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هذا الموضوع بالتفصيل وهو التلميذ النجيب للمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام.
ما من مولود الا ويمسه الشيطان الا ابن مريم
وكذلك حاول القسس الولوج إلى التنصير عبر الاساءة لآدم عَلَيهِ السَلام عن طريق بث شبهة على أساس الحديث أن “ما من مولود الا ويمسه الشيطان الا ابن مريم” فكان ردّ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام رائعاً كالعادة، نأخذ منه جزءاً صغيراً كما يلي:
“من جملة إفادات الإمام البخاري أنه أورد الحديث في كتاب التفسير: “ما من مولود يولَد إلا والشيطان يمسه، حين يولَد، إلا مريم وابنها“، والحديثَ في كتاب بدء الخلق: “بإصبعيه… غير عيسى” مع الأحاديث المتعارضة، وبذلك لفت الأنظار إلى أن المراد من ابن مريم كلّ مَن يحمل صفاته ومتصبّغ بصبغته. وتلك الأحاديث المتعارضة هي في الصفحة 464 و 776 وكذلك هناك حديث ينتهي على “لم يضره شيطان” في كتاب النكاح. وبالإضافة إلى ذلك فإن قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾، وقوله تعالى عن يحيى عَلَيهِ السَلام ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾، يدلان بصراحة تامة أن الحماية من مسّ الشيطان ليس خاصا بابن مريم فقط. أما طعن الزمخشري -بأن الحديث عن حماية ابن مريم وحده من مس الشيطان الذي أورده الإمام البخاري في صحيحه لا يخلو من العيب، وفي صحته كلام كما قال بنفسه- فلا معنى له، لأن الإمعان في الموضوع يبيّن أن الإمام الجليل البخاري قد أشار بنفسه أن المراد من مريم وابنها، هو كل مَن يجمع في نفسه صفاتهما، فلا تناقض ولا تعارض.” (إزالة الأوهام، ص 640-641)
ثم يقول حضرته عَلَيهِ السَلام:
“كذلك أوّلَ المحققون حديثا ورد في صحيح البخاري: “ما من مولود يولَد إلا والشيطان يمسه حين يولد، إلا مريم وابنها“، لأنهم رأوه يخالف آيات القرآن الكريم: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾، وقوله : ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾، فقالوا إن المراد من مريم وابن مريم هم أناس يحملون صفاتهما، كما قال شارح البخاري في شرح هذا الحديث: “قد طعن الزمخشري في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته وقال: إنْ صحّ، فمعناه كل مِّنْ كان في صفتهما؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.”” أهـ
إذن اتضح من خلال جواب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن مَس الشيطان ليس مخصوصاً بالمسيح وأمه عَلَيهِما السَلام فقط بل كل من يتصف بصفاتهم بالدليل الموثّق. وبذلك يهدم المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أهمّ أسس التنصير وهي الفداء والكفارة. وسنستكمل إنْ شاءَ الله هذه السلسلة مع حضرة المسيح الموعود للأمة الإسلامية عَلَيهِ السَلام.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ