في ظل هذا التيه الذي يعيشه المسلمون عموما والعرب منهم خاصة، وبعد كل هذه الويلات والمآسي التي تشتد وطأتها في كل يوم، أصبح واجبا أن نعي أن الغالبية العظمى منا لا تتلمس الطريق الصحيح، ولا تعي طبيعة المرض الذي تعاني منه الأمة وحجم التحديات التي تواجهها وكيفية مواجهتها.
ما يجري في فلسطين هذه الأيام خاصة يقدم نموذجا لهذا التخبط الذي يقود إلى مزيد من الويلات والمعاناة والخسائر على كل الصعد. فهذا الشعب المقهور الذي يعاني الاحتلال والتمييز، والذي أصبح أقلية على أرض وطنه وغريبا في بلاده، تقوده الخطوات الطائشة إلى خسائر متراكمة تباعد بينه وبين نيل حقوقه والحرية والاستقلال والحياة الأفضل.
بداية، يجب أن نعي أننا أمة أعزها الله تعالى بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذه الأمة قد نهضت بقوة الأخلاق الهائلة التي نفختها فيها القوة القدسية للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان على خُلق عظيم، وأظهر الله تعالى خُلقه العظيم هذا في فترات الضعف والاضطهاد وفي فترات القوة، وجعل سيرته الناصعة كتابا أبيض مفتوحا لا يملك أشد معارضيه إلا أن يقرُّوا به. لم يدفعه الضعف إلى خطوات بائسة يائسة متهورة بحجة أن الضعيف عاجز ويجب أن يلجأ إلى أي وسيلة للإضرار بعدوه، كما لم تدفعه القوة إلى الاستبداد والظلم لأشد الأعداء وأكثرهم إجراما، بل عندما قَدِر عليهم صفح عنهم وعفا، فأرغمهم عفوه وصفحه وسمو أخلاقه إلى أن يخضعوا له خضوعا أبديا.
إن أسوة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون ماثلة أمامنا، إذا كنَّا ندعي أننا ننتمي إليه، وأننا ندافع عن دينه الإسلام، وعن مقدسات هذا الدين، ويجب ألا ننجرف تحت وطأة الظروف وننسى هذه الأسوة الحسنة وننقاد إلى ثورة مشاعرنا المتأججة لنخالف أسوة النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه مما لن يجلب لنا سوى الخسارة الفادحة.
ومما لا شك فيه أن إسرائيل تمارس سياسة عنصرية استفزازية تتصاعد يوما بعد يوم. وهذا ليس مستغربا، وخاصة لمن يدرك طبيعة تكوين إسرائيل الدولة والحكومة، فهي كيان لا يستطيع العيش إلا في الأزمات، ويدرك أنه كيان سيتفكك فيما لو حلَّ الأمن والسلام وزالت التهديدات المفترضة. وهذا يشكل أيضا محور فكر الحكومات الإسرائيلية وبخاصة هذه الحكومة الحالية المتطرفة التي تحاول افتعال الأزمات الداخلية والخارجية للمحافظة على بقائها كحكومة. كذلك فإن من مصلحة إسرائيل أن تبدو الكيان الأخلاقي الديمقراطي المتحضر في المنطقة وأن يظهر العرب عامة والفلسطينيون خاصة الهمج المتوحشين الذين لا يقدِّرون الحياة ولا يقيمون لها وزنا والمندفعين بثورة الغضب والمشاعر المتأججة.وكلما كان الأمر كذلك نالت إسرائيل وحكوماتها نفخة تعيد إليها الحياة وتطيل عمرها.
لذلك، وفي ظل هذه العناصر المتعلقة بهذا الصراع، يجب علينا أن ندرك أن من واجبنا الالتزام بهذا الدين وبهذه الأخلاق التي أنشأت أمتنا وجعلتها في سنوات معدودة سيدة العالم أجمع في ذلك الوقت. هذا الدين وأخلاقياته هو القادر على أن يحيي أمتنا من جديد ويجعلنا فائزين في هذا الصراع وهو الكفيل بإنهاء معاناتنا المتفاقمة. ومع أن من الواجب الالتزام بهذه الأخلاقيات بغض النظر عن الفوائد المرجوّة، إلا أن الفوائد المباشرة والسريعة التي ستحقق ستقلب كفة الصراع وستفتح طريق الأمل.
فعندما ترتَّب على إسرائيل إنهاء المرحلة الانتقالية وفقا لاستحقاقات أوسلو، التي كانت ستنتهي عام 1999، وبعد أن انتخب الشعب الإسرائيلي حكومة أيهود باراك اليسارية رغبة منه في السلام، استطاعت الحكومة الإسرائيلية الفرار من هذا الاستحقاق الذي لا تريده- لأنها تعرف أنه سيكون بداية النهاية لإسرائيل التي تقوم على العنصرية وخطاب تخويف الشعب بالتهديدات المفترضة – وذلك بأن عملت على استفزاز الشعب الفلسطيني بقضية الأقصى، حيث دخل أرئيل شارون الحرم القدسي بمصاحبة عدد كبير من رجال الشرطة، وأدى ذلك إلى استفزاز المشاعر، ونشبت الانتفاضة الثانية التي حررت إسرائيل من استحقاق إنهاء الاحتلال وعملت على تردي أحوال المناطق الفلسطينية يوما بعد يوم، كما قلبت مزاج الشعب الإسرائيلي الذي كان مائلا إلى السلام حينها ليميل إلى التطرف والعنصرية. واليوم، وبعدما حققت السلطة الوطنية الفلسطينية بعض الإنجازات الدبلوماسية، وتوحَّد العالم إلى حدٍّ كبير نحو وجوب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية، لجأت الحكومة الحالية إلى نفس اللعبة المكشوفة لإثارة المشاعر وقلب الطاولة من جديد بإثارة قضية الأقصى. والمؤسف أن القيادات التي تعي هذا الدرس جيدا لا تجرؤ على مواجهة هذه المشاعر العارمة بل تترك الشعب ينقاد بثوائره مما يصبُّ في النهاية في مصلحة إسرائيل وسياستها العنصرية وممارستها الإجرامية.
فلو رجعنا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتأسينا بأسوته الحسنة لنزعنا فتيل هذا الاستفزاز الذي تعيه إسرائيل جيدا وتريده. فما المشكلة في أن يزور اليهود أو غيرهم ساحات الأقصى؟ خاصة وأن المسجد الأقصى ما زال بيد المسلمين ومن المتعذِّر على إسرائيل تغيير هذا الوضع، ولن تؤدي هذه الزيارات إلى تحويله إلى كنيس أو هدمه. كان الواجب على المسلمين أن يحسنوا استقبالهم، وبذلك يفوتون الفرصة على الحكومة الإسرائيلية ويضعونها أمام استحقاقاتها ويكشفون وجهها للعالم.
المؤسف أن القيادات الفلسطينية في كافة أرجاء الوطن لا تقوم بدورها، وتترك الجماهير فريسة لمشاعرها المتأججة، وبذلك تقدم هدية لإسرائيل على طبق من ذهب.
يجب أن يكون واضحا لجماهير شعبنا أن إسرائيل في الواقع لن تتضرر بعمليات الطعن والدهس المحدودة التي تجري، بل على العكس، هي تجني منها فوائد عظيمة معنوية وتكتسب تأييدا عالميا ودعما، وفي نفس الوقت تطلق يدها للقيام بعمليات انتقامية دون رادع أو وازع يسقط بسببها أطفال أبرياء ونساء بذريعة أنهم كانوا ينوون القيام بالطعن أو الدهس. إن هذه الخسائر المحدودة التي تقع في الإسرائيليين هي في نطاق الخسائر المحسوبة والمتوقعة بل والضرورية لتمرير سياسات إسرائيل وإحكام قبضتها على فلسطين والمباعدة بين الفلسطينين والحرية المنشودة. فإسرائيل لا تقيم وزنا لهذه الخسائر، وما يهمها هو بقاؤها ولو كان على حساب عدد من مواطنيها، وبالطبع لو كلَّف ذلك معاناة الشعب الفلسطيني بأكمله.
وأخيرا، يجب أن يكون واضحا أن القرآن الكريم قد أنبأ بقيام إسرائيل عندما سيفسد المسلمون، وأنبأ بأنها لن تعود إليهم إلا إذا عادوا إلى الله تعالى وأصبحوا صالحين عابدين. وأن السبيل الحقيقي لعودتها في هذا الزمان هو إظهار الوجه الحقيقي لإسرائيل وعنصريتها وإجرامها، وهذا لن يحدث إلا إذا التزم المسلمون بأخلاق دينهم وأصبحت إسرائيل مضطرة للقيام بإجرامها وعنصريتها دون الاتكاء على مبرر الرد على الاعتداءات والأعمال الإجرامية من الجانب الآخر. هذه هي الطريق الوحيدة التي ذكرها القرآن الكريم، حيث يقول تعالى:
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}
(الإسراء 8)
فعندما ننجح في إظهار الوجه السيئ لإسرائيل الذي تحاول إخفاءه بإثارة الشعب ودفعه إلى أعمال أكثر سوءا عندها سيتحقق النصر وسيصل الشعب الفلسطيني إلى مبتغاه.
فكفانا إساءة لوجوهنا نحن بأعمال لا أخلاقية لا تليق بنا ولا بديننا وتعطي لإسرائيل فرصة الاستمرار في ظلمها وإخفاء وجهها العنصري القبيح القائم على افتعال الأزمات واستبقائها. وآن الأوان للشعب أن يلتمس طريقه، وآن الأوان للزعماء والقيادات أن يقودوا الشعب نحو هذه الطريق التي لا طريق سواها.