القرآن الكريم يدعو إلى الحوار، ويأمر المؤمنين بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يكون الحوار الذي يسميه القرآن الكريم جدالا بالتي هي أحسن:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (النحل 126)
فالأمر الأول هو الحكمة، والتي تعني وضع الشيء في موضعه، والقدرة على التركيز على مسألة دون تشتيتها لتتضح الأمور، وأن يبقى الحوار هادفا ومستهدفا أن يوصل المؤمن الفكرة، وألا يترك المجال للخصم للتشتيت أو الإساءة. ففي اللغة “الحكَمَة” تطلق على الحلّقة التي توضع في أنف الدابة ويربط بها حبل ليتم تسيير الدابة والسيطرة عليها كي لا تنفلت. فمن أهم المبادئ ألا ينفلت الحوار، وألا يُسمَح للخصم بالتشتيت والتضليل، وألا يصبح الحوار إطارا لكي يمارس الخصم بذاءاته وإساءاته بحق الدين والأنبياء والمقدسات، ويُسمِع المؤمنين هذه البذاءات ويؤذي قلوبهم، أو يدعوهم ليتقبلوها وكأنها أمر عادي أو من مستلزمات الحوار الهادف! ولذلك فقد حذَّر الله تعالى من هذا في القرآن الكريم حيث قال:
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } (النساء 141)
فيجب أن ينتبه المؤمنون ويتجنبوا أي حوار فيه كُفرٌ بآيات الله أو إساءة أو استهزاء، ويجب ألا يجلسوا في حوار أو جدال كهذا ويعتزلوه فورا . ويحذِّر الله تعالى الذي لا يفعل ذلك بأنه سيُعدُّ في زمرة المنافقين، وسيعد مثل هؤلاء الكافرين الذين يستمع إلى إساءاتهم واستهزائهم ويبقى صامتا ولا يُسكتهم أو يعتزلهم إن لم يرتدعوا.
ويأمر الله تعالى أن يكون الحوار بالموعظة الحسنة، والتي تعني أن يكون في الجدال عظة للخصم، ولكن بأسلوب يؤثر في عقله أو قلبه، فمن ناحية الحُسن العقلي أن يقدِّم الحجج القوية الذكية ويُفشل خطط الخصم في المراوغة، ومن ناحية الحُسن القلبي أن يكون الكلام مهذبا أنيقا محببا ليس فيه بذاءة، بحيث لا يؤدي إلى نفور الخصم أو المستمعين، مع مراعاة أن يكون حكيما محكما ليس فيه مواربة أو مداهنة. لذلك يمكن أن يكون في الكلام نوع من الشدة أو القول البليغ لتنبيهه إلى خطئه ومسلكه، كما يقول تعالى:
{وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } (النساء 64)
ولكن ينبغي ألا يكون فيه تجاوز أو إساءة أو بذاءة بحال.
وهكذا، فإن الخصم إن كان شتاما بذيئا لعَّانا طعَّانا، وكان يستهدف أن يسيء ويسمع المؤمنين الشتائم والإساءات بحق الأنبياء والمقدسات، فهذا الشخص لا ينبغي الجلوس معه وحاله هذه، أما إذا كان هنالك ضمانات بإلجامه وإلزامه الأدب، ولو مؤقتا، فيمكن محاورته بالحكمة والحذر بحيث لا يُسمح له بأن ينتقل إلى بذاءاته وإساءاته، لأن الله تعالى يقول:
{حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } (النساء 141)
لذلك، فقد كان موقفنا منذ البداية أننا لا نجالس السبابين الشتامين، وكنا مع ذلك نرد على الشبهات التي يثيرونها في صفحاتنا، وفي أكثر الأحيان لا نشير إليهم، بل نركِّز على الفكرة ونفنِّدها، وهذا هو موقفنا المبدئي المستمرون عليه بفضل الله. ولكن إذا انتهى هؤلاء عن السب والشتم والبذاءة والاستهزاء، ولو مؤقتا، واستطعنا أن نضع الضمانات الملائمة لكي لا ينفلت الحوار ويصبح بذاءات وشتائم يشفون بها غليل صدورهم ويؤذون بها قلوبنا، فعند ذلك يمكن محاورتهم بإلزامهم بهذه الشروط.
والواقع أن لجوءهم للبذاءة والإساءات والسب والشتم إنما يدل على إفلاسهم وسوء خلقهم، ولا يرجو عاقل عند سيئ الخُلقِ خيرا أصلا، وهذه الإساءات والشتائم والبذاءات ستكون حجة عليهم وسببا لنفور العقلاء والشرفاء عنهم، وهي وحدها كفيلة بهم. ولكن أيضا فإن الفكرة أو الاعتراض الذي يريدون إثارته يمكن أن يقدَّم بكل وضوح، ويمكن أن نناقشه معهم أيضا، ولا تعتبر مناقشته بحد ذاتها إساءة، ما دامت مجردة من البذاءة والإساءة. فالله تعالى يقول مثلا:
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } (الزخرف 82)
ومع أن هذه الفكرة مسيئة إلى الله تعالى في حقيقتها، والله تعالى يقول عنها:
{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } (مريم 91-92)
إلا أن مناقشتها ممكنة ولا تعتبر من الإساءة في شيء، وهذا لإقناع الخصوم أو إظهار قوة حجتنا أمام السامعين عسى أن تميل إليها قلوبهم. والقصد أن المعارضين ليسوا محتاجين إلى البذاءة والشتم في إيصال أفكارهم أو اعتراضاتهم مهما كانت مسيئة في أصلها، ولن نمتنع عن مناقشتها، فلا مبرر للإساءة والبذاءة، والشرفاء يمكن أن يوصلوا أفكارهم واعتراضاتهم بكل أدب واحترام. ولكن على المؤمنين أن يتحلوا بالحكمة ويكونون واعين تماما وحذرين، لأن بعض المعارضين الخبثاء يطرحون بعض النقاط ليتمكنوا من الإساءة؛ لذا على المؤمنين أن يختاروا المبادئ الأصلية التي هي بمنزلة جذع شجرتهم الخبيثة، ويأتوا عليها ويجتثوها، ولا يسمحوا للمعارضين الخبثاء بقذف إساءاتهم وبذاءاتهم بحجة النقاش أو الجدال. والواقع أن مناقشة الأصول هو الأولى دائما، أما الفروع فسقوطها لن يفيد ما دام الأصل قائما، لأن المعارض سيأتي بفرع آخر وآخر وهكذا.
وفي آخر الآية يبين الله تعالى أنه يعلم بسرائر القلوب إذ يقول:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (النحل 126)
وفي هذا إشارة إلى أن النيَّات يعلمها الله، وأن هنالك من يستغل الحوار أو الجدال لأهدافه الخبيثة، وهي الإساءة والبذاءة، ولكن ما دمنا قادرين على أن ندير الأمر بالحكمة، وما دمنا ملتزمين بالموعظة الحسنة، وبأحسن الوسائل، فالحوار يمكن أن يتم ويمكن أن يكون مثمرا، كما يمكن أن يستفيد منه الخصم والمستمعون لو أخلصوا النية.
أخيرا، فإن الحق لا يتعلق مطلقا بالحوار ولا بالجدال، مع أن أهل الحق يكونون الأقوى حجة والأعلى كعبا فيه، ويكون نقاشهم وجدالهم آية يهتدي بها الناس، ولكن المعيار الحق إنما هو النتيجة والعاقبة التي يجعلها الله لأهل الحق، والتي لن يطول الوقت حتى يجليها الله تعالى. وصدق الله تعالى إذ يقول:
{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (الأَنعام 136)