لا شك أن التوحيد هو ميزة الإسلام وعقيدته الأولى، وهي من القوَّة بحيث أثَّرت في الأديان السابقة والأفكار اللاحقة، بحيث لم يعد من المقبول طرح فكرة الآلهة المتعددة، وأخذت الأديان الشركية تتملق التوحيد وتحاول أن تقدِّم نفسها على أنها أديان توحيدية.
ولكن التوحيد في الإسلام قد شابَهُ الفساد أيضا قبيل بعثة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام؛ إذ تحوَّل التوحيد إلى مجرد الإقرار بوجود الله تعالى وإعلان الإيمان به، ونبْذ الشرك الجلي المتمثل بعبادة آلهة أخرى من دونه. والواقع أن مجرَّد الإقرار بوحدانية الله تعالى ليس بشيء، لأن الشيطان بنفسه يقرُّ بهذا التوحيد، كذلك فإن كون التوحيد مجرَّد أفكار لا يغني ولا يسمن من جوع وحده -خاصة إذا التبست هذه الأفكار وانحرفت – ولكن التوحيد الحقيقي هو أن تتكامل هذه الأفكار السامية عن الله تعالى مع مشاعر العبودية الخالصة والرغبة العارمة في إنشاء العلاقة بالله تعالى، ثم أن يتجلَّى الله تعالى بنفسه على العبد ويعلن عن وحدانيته، ويحلُّ في قلب العبد المؤمن بعد تطهيره وتزكيته ويتملَّك قلبه اليقين، فيحترق الإثم تلقائيا ويتقدَّم الإنسان في التقوى والطهارة، وتتوحد مشيئته مع مشيئة الله تعالى.
فالمميز فيما قدَّمه حضرته هو أن الله تعالى ليس جمادا أو تمثالا أثريا يكشف الإنسان عن حقيقته بالتنقيب ونفض الغبار عنه والعياذ بالله، بل الله تعالى هو الذي يتقدَّم لعبده الباحث عنه ويعلن عن وجوده وتوحيده بإرادته، أما الأفكار الجامدة وحدها فلن تأتي بشيء.
هذا المفهوم للتوحيد لم يكن معروفا من قبل، وقدَّم حضرته نفسَه مثالا عمليا للموِّحد الذي تجلَّى الله تعالى عليه، فلم ينعم عليه باليقين القلبي الكامل فحسب وإنما أظهر على يديه آيات النصرة العديدة التي أعلن من خلالها وجوده ووحدانيته وحياته وقيوميته. لذلك فإن الموحَّد لا يمكن أن يكون موحِّدا حقا حتى يتجلَّى الله تعالى عليه، ويتحوَّل التوحيد عنده من مجرد أفكار أو علم إلى معاينة، وهذا ما يعد به الإسلام المسلم إذا أخلص وجاهد وبذل ما في وسعه مستعينا بالله تعالى.
ومما يقوله حضرته حول التوحيد الذي يجب أن يتحلَّى به المؤمن لينعم بتجلي الله تعالى وباليقين في وجوده ووحدانيته:
“التوحيد ليس مجرّد أن تقول بلسانك “لا إله إلاّ الله” وأنت تُخفي في قلبك مئات الأوثان، بل إن كلّ من يعظِّم تدابيره أو خططه أو دهاءه بقدر ما يجب أن يعظّم الله بالعبادة؛ أو يعتمد على شخص آخر بقدر ما ينبغي أن يتوكل على الله وحده؛ أو يعظِّم نفسه بقدر ما يجب أن يعبد الله وحده، فهو عابد للأوثان عند الله تعالى؛ لأن الأوثان ليست فقط تلك التي تُصنع من ذهب أو فضة أو نحاس أو حجارة وتُعبد بصورة ظاهرية، بل إنّ كلّ شيء، وكلّ قول، وكلّ عمل يُعطَى أهميةً لا تليق إلاّ بالله عزّ وجلّ وحده، لهو وثن عند الله تعالى …. تَذَكّروا أنّ وحدانية الله التي يريد الله منّا الإيمان بها، والتي يعتمد عليها الخلاص والنجاة إنّما هي الإيمان بأنّ الله منزّه في ذاته عن كلّ شريك، سواء كان وثنًا أو بشرًا أو شمسًا أو قمرًا، أو نفس الإنسان وذاته، أو مَكْرَه أو خداعه؛ وكذلك ينبغي للإنسان ألاّ يَعُدّ أحدًا قادرًا مثل الله، وألاّ يعُدّ أحدًا رازقًا غير الله، وألاّ يعتبر أحدًا قادرا على أن يعزّه أو أن يذلّه، وألاّ يعدّ أحدًا ناصرًا أو معينا؛ كما أن عليه أن يخلص لله وحده حبَّه وعبادته وخضوعه وآماله وخوفه.
ولا يمكن لوحدانية الله أن تكون كاملة من غير الخصوصيات الثلاث التالية:
أولا، توحيد ذات الباري- أعني أن نَعتبر الأشياء الموجودة كلّها كالمعدوم بالمقارنة مع الله تعالى، وأن نعتبرها ميتة وباطلة.
ثانيًا، توحيد صفات الباري- أعني عدم الإقرار بالربوبية والألوهية إلا لذات الله، وأنّ الآخرين -الذين يظهرون رازقين ومحسنين- كلّهم ليسوا إلا جزءًا من النظام الإلهي الذي وضعه اللهُ وصنعه بيده تعالى.
ثالثًا، توحيد الحب والإخلاص والصفاء – أعني ألاّ نجعل أحدًا شريكًا لله في حبّنا وعبادتنا له والتفاني فيه عزّ وجلّ“. (الرد على أربعة أسئلة لسراج الدين المسيحي، الخزائن الروحانية ج12 ص 349 – 350)
وللمزيد من الأفكار والتفاصيل يرجى قراءة الإنجاز الثالث للمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام من كتاب “إنجازات المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام“.