مبِّكرا نبَّه الله تعالى إلى أسلوب الشيطان واستراتيجيته في إبعاد الناس عن الحق وتشتيتهم عنه وحذَّر منها، ألا وهي التركيز على المتشابهات وتشتيت المحكمات. يقول الله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (آل عمران 8)
ويبيِّن الله تعالى أن هنالك فئتين من الناس يقعان في هذا الفخ أو يوقعان غيرهما أيضا وهما؛ إما الخبثاء أعوان الشيطان الذين يبتغون الفتنة فيجدون أن هذا السبيل هو أنجع الوسائل في ظنِّهم، أو بعض الذين يعانون من جمود العقل والفكر وضيق الأفق من ذوي النيات الحسنة بداية، والذين لا يستطيعون أن يروا أن للأمر جوانب عديدة ويمكن أن يُفهم بطرق شتى، سواء عرفوها أم لم يعرفوها. هؤلاء هم الذين ليسوا من أولي الألباب؛ أي ذوي العقول الجامدة المحدودة الذين لا يتمتعون بعقول مستنيرة بنور الله تعالى وتستطيع أن تفهم الأمور من جوانب عديدة. فهؤلاء أيضا قد يقعون في قبضة الشيطان بسبب طبيعتهم هذه.
أما الراسخون في العلم، فهم الراسخون في المحكمات والمفوِّضون للمتشابهات، والذين يسعون لتحويل كل متشابهٍ إلى محكمٍ ما استطاعوا، بعد الدراسة المستوفية مستعينين بالله تعالى، ويكون عملهم في حلِّ معضلات المتشابهات إنما هو عمل المطمئنين الساعين لزيادة العلم الذي يؤدي في هذه الحالة إلى زيادة الإيمان، ويدركون أن هذه الطريق لا نهاية لها؛ لأن العلم لا يتوقف والإيمان لا نهاية له، لذلك لا بد أن تبرز الشبهات والمعضلات دوما التي لم يجعلها الله تعالى إلا لهذه الغاية. فهم في هذا الطريق يسيرون واثقين مطمئنين لا يساورهم قلق ولا شكٌّ، وهؤلاء هم الراضون المرضيون من العلماء الربانيين.
أما الشيطان، فلا يريد إلا أن يشتت المحكمات ويصرف انتباه الناس عنها ويطلب منهم أن يركزوا على المتشابهات التي لا نهاية لها. وفيما لو قدَّم له الناس حلا لآلاف منها وأجابوا عليها فإنه لن يعدم الوسيلة لاستخراج متشابهات أخرى، وهكذا فهو يريد أن يبقيهم في حالة الشك إلى أن يجرفهم سيل الشبهات فينصرفوا عن الإيمان خاسرين. فالذي يطاوع الشيطان ويجاريه، ويترك وصية القرآن الكريم بالتركيز على المحكمات ويشغل نفسه بالمتشابهات مع قلة علمه وضعف إيمانه، فإن هذا الشخص سيقود نفسه إلى الكفر حتما وسيصبح فريسة للشيطان الرجيم.
والواقع أن الشيطان يتَّبع هذا الأسلوب لعجزه أمام المحكمات – التي هي دلائل صدق النبي وعلى رأسها حاجة العصر وتحقق النبوءات وتوفيق الله تعالى وتأييده الخارق ونصره له وهلاك أعدائه – وإنما يريد من هذا أن يقول: عليكم أن تبحثوا معي عن دلائل على كذب النبي أو المبعوث الرباني أو سوء خلقه، فإن ثبت هذا بما أقدِّمه لكم فلا حاجة لتشغلوا بالكم في دلائل صدقه، لأنه لو ثبت كذبه سقط كلُّ شيء! وهذا هو مسلك الكافرين على مرِّ التاريخ الذين يريدون إثبات كذب الأنبياء وسوء خلقهم لكي يتركهم الناس وينفضوا من حولهم، ولا يناقشون في صلب الأمور ومحكماتها ويحاولون تشتيت الناس عنها ما استطاعوا. وهؤلاء رد الله تعالى عليهم على لسان مؤمن فرعون بقوله:
{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } (غافر 29)
لذلك فالأجدر بالمؤمن أن يقول للشيطان الكذوب الرجيم أن يجمع شبهاته التي يبغي بها إثبات كذب النبي أو المبعوث الرباني أو سوء خلقه وينصرف بعيدا إلى كهفه الرطب المظلم. فلا مكان للشيطان تحت شمس الدلائل والبينات وآيات النصر الواضحات. ويقول له بعد ذلك: أما شبهاتك فسنحوِّلها بكل ثقة إلى محكمات ونضيفها إلى رصيد علمنا، وتمضي خاسرا مذءوما مدحورا.