فيما يلي بعض الآيات التي تحضّ على الأخلاق العظيمة، والتي تبيّن أن القرآن الكريم سبق بها العالم، والتي من ثمَّ تؤكد أن الله تعالى ظلّ يرسل الرسل لهداية الناس، وأنه لم يترك الدنيا وشأنها كما يظنّ الملاحدة بشتى أنواعهم.
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت 35)
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (التوبة 6)
{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (النساء 76)
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج 41)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب 71)
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأَنْفال 68)
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (النساء 91)
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور 34)
{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (13) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 12-14)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة 3)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة 9)
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (191) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (192) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (193) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (194) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة 191-195)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (126) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (127) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (128) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل 126-129)
نظرة في وفاء النبي ﷺ وعفوه
(خطاب ألقي في مسجد الفتوح في لندن في ندوة بعنوان: سيرة النبي ﷺ)
يقول الله تعالى واصفا رسوله الكريم ﷺ ( وإنك لعلى خلق عظيم ). ويقول الرسول ﷺ ملخصا مهمّته: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
لكن، ما هو الخلق؟ وما الفرق بينه وبين الطبع الإنساني؟
إنه ما من خلق إلا ويقابله حالة من حالات الإنسان الطبعية، ولكن هذه الحالة الطبعية لا تسمى خلقا إلا إذا كانت في محلها، وكانت مراعية للحال والمقام.. وكانت نابعة من تفكير وإعمال عقل.. كما وضح ذلك المسيح الموعود ؏ في فلسفة تعاليم الإسلام؛ فالطفل لا يرضع إلا من أمه، ويرفض أن يرضع من امرأة أخرى، فهل يقال إنه يتمتع بخلق الأمانة ورفض غصب حقوق الآخرين؟ كلا، لأن هذه فطرته وطبيعته التي خلقه الله عليها. وبعد أن يُضرب الطفل بلحظات يقبل على ضاربه ويضحك معه، فهل يقال إن هذا الطفل يتمتع بخلق العفو والتسامح؟ كلا، فهذه طبيعته.
إذا، أول شرط للخلق أن يكون في محله، أما الشرط الثاني فهو ألا يمارسه صاحبه مضطرا. فلو عفا جبان عمّن اعتدى عليه، فلا نقول إنه يتمتع بصفة العفْو، بل عفا عنه لأنه لا يجرؤ على معاقبته، ولا يستطيع.
فالعفو والشجاعة وقتال الظالمين أخلاق حميدة حين تكون في محلها وحين يمارسها المرء وهو حرّ ولا يريد بها غير وجه الله. فهناك مِن الأشداء مَن يفسد في الأرض ويقطع الطريق، وهو يغلب عددا من الفرسان في الوقت نفسه، ولكن هذا لا يسمى شجاعة، بل فساد وجريمة.
بالنسبة إلى سيدنا محمد ﷺ، فقد عاش مختلف الظروف، ولكنه حافظ فيها كلها على أعلى مستويات الأخلاق..
هناك من الناس من يصبر على الظلم، ولكنه إذا قويت شوكته وسيطر على ظالميه انتقم منهم أشد الانتقام، وأعمل فيهم سيفه. وهناك من الأغنياء من يعطف على الفقراء ويمتلئ قلبه رحمة بهم، ولكنه إذا افتقر أفسد في الأرض انتقاما على ما حصل له.
قليل من البشر من جمع بين حالتي القوة والضعف في حياته، وبين حالتي الفقر والغنى، وقليل جدا من هؤلاء من تفوّقت أخلاقه في كل الحالات.
يمكن القول أن النبي الوحيد الذي عاش مضطهدا فترة طويلة، ثم حكم فترة طويلة وهزم أعداءه ومضطهديه، هو سيدنا محمد ﷺ..
ففي مكة كان ضعيفا لا يملك جيشا، ولكنه استطاع أن يصبر من دون أن يواجه سيوف الكفار بأي عنف أو ردة فعل يُستخدم فيها السلاح.. إذًا، نجح في خُلُق الصبر نجاحا باهرا.. مَن مِن الناس يصبر على أذى مدته 13 عاما من غير أن يقوم بأي رد فعل، فلا ينشئ تنظيما سريا مسلحا، ولا يحضُّ على مقابلة العدوان بعدوان.. بل حين مرّ بياسر وسمية وعمار وهم يعذَّبون، لم يزد على أن قال: صبرا آل ياسر موعدكم الجنة؟ ثم إذا انتصر هذا المضطهَد ومن معه نراه يعفو عن كل محترفي العدوان، مِن دون أن يكون لديه أي رغبة في الانتقام والتشفي! هنا يظهر الخلق ويمتاز عن الحالة الطبيعية.
في أحد برامج الحوار المباشر على الفضائية الأحمدية اتصل أحد القسس وقال: سلام المسيح لكم، الذي هو ملك السلام. فأجابه ضيوف البرنامج بقولهم: كيف يُعرف ملك السلام؟ هل يقال لمن لم يحكم ولم يُجرَّب ولم يُعرف سلوكُه وهو حاكم قوي.. هل يقال له: أنت ملك السلام؟ هل كان رجل سلام وصبر وتحمُّل حين كان ملكا فنشر السلام والأمن؟ هذا لم يحدث، رغم تقديرنا للمسيح عليه السلام ؏.
وحدَه سيدنا محمد ﷺ مَن يستحق هذا اللقب، لأنه قبل بعثته حدثت حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة، وسبب اندلاع هذه الحرب هو قتل ناقة إحدى القبائل، وسبب قتلها أنها رعت في أراضي القبيلة الأخرى! هذه الحرب وأمثلها كانت لا تتوقف حتى تبدأ غيرُها.. وبمجرد أن صار المصطفى ﷺ حاكم مكة حتى توقف ذلك كله، فلم يعُد هنالك عدوان من قبيلة على أخرى، واحتكم الجميع للقانون العادل الذي أنزله الله ﷻ. هذا النبي إذن هو ملك السلام، لأنه لم يكتفِ بأن نشر السلام بدعائه وقلبه ولسانه وسيفه، بل بأخلاقه وسموها.
الوفاء بالعهد:
الوفاء بالعهد خلق لا يتمتع به كثير من الناس، خصوصا في وقت الأزمات والحروب، فما أن يرى الخصم فرصة للانقضاض على المعاهدة حتى يدوس على كل مواثيقه ويغتنم الفرصة للانتقام.. لكن تعالوا إلى سيرة المصطفى لتروا بعض الدروس :
في غزوة بدر:
قال حذيفة بن اليمان: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله ﷺ فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد ﷺ، ولما جاوزناهم أتينا رسول الله ﷺ فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم؟ قال: “نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم” !!.(صحيح مسلم والمستدرك)
إذًا، رفض رسول الله ﷺ أن يشترك معه في المعركة حذيفة وأبوه، لمجرد أنهم تعهدوا بذلك أمام العدو. فهذا درس عظيم في الوفاء بالتعهدات.
أما قبيل فتح مكة فنقرأ:
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ أَبَاه أَخْبَرَهُ قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :- صلى الله عليه وسلم – إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ. (يعني: لا أنقض العهد ولا أحبس الرسل) وَلَكِنِ ارْجِعْ؛ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ. قَالَ فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَسْلَمْتُ. (أبو داود، الجهاد، باب في الامام يُستجن به في العهود) و(مسند أحمد)
إذًا، يرفض رسول الله ﷺ استقباله كمسلم ما دام قد جاء موفدا عن قريش، بل عليه أن يعود إلى قريش وأن يبلغهم ما يجب عليه تبليغه، ثم يعود إن شاء.
لم يطلب منه رسول الله ﷺ أن يتجسس على قريش لصالحه.. لم يطلب منه أن يندس في صفوفهم للعمل على انهيار عزيمتهم.. لم يطلب منه أي شيء ضدّ قومه الكفرة المعتدين؛ ذلك أن هذا الصحابي أرسلته قريش، ولا بد أن يظل وفيا لها ما دامت قد أمّنته على ذلك… تصوروا.. الرسول ﷺ يرفض أن يأخذ منه البيعة على الإسلام..
قد يسأل أحد هنا: هل ظلّ هذا الرجل على الكفر حتى العودة ؟ نقول: كلا، بل قد آمن، ولو مات خلال سفره وقبل عودته فلا إثم عليه، بل مأواه الجنة، فالإيمان ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، وهنا العمل هو الوفاء للكفار الذين أرسلوه.
في غزوة خيبر:
خلال محاصرة المسلمين لحصن خيبر، أسلم أحد رعاة الأغنام، وجاء إلى النبي ﷺ مبينا له أنه لا يريد العودة إلى حصن اليهود، ومن ثمّ سأله عن مصيره ومصير الأغنام التي يرعاها؟ فأمره النبي ﷺ أن يوَجِّهْ غنم سيده إلى حصن اليهود وأن يسوقها إليه، ففعل. ولما وصلت الغنم قريبًا من الحصن ساقها اليهود داخله. وهكذا أوجب عليه الرسول ﷺ أن يفي مع صاحب الغنم، رغم أنه يهودي، ورغم أن هذه الأغنام ستساعد في إطالة أمد الحصار.. (السيرة الحلبية مجلد 3 ص 45).
لماذا التركيز على الوفاء؟
الوفي يعني أنه صادق مسبقا، لا يعرف الكذب بالمرة، فالوفاء يقتضي الصدق المطلق. والصدق هو أساس الأعمال الصالحة.. وقد كان سيدنا محمد ﷺ يُعرف بالصادق الأمين حتى قبل بعثته. والوفاء يتضمن كره العدوان والقسوة، لأن الوفي محب للبشرية. فالوفاء يتضمن الصدق والود والشفقة والرحمة.
بعد أن عرفنا هذه الأحداث، هل يمكن أن نصدق أن سيدنا محمدا ﷺ كان ينقض العهود؟ هل يمكن أن نصدق أنه منع الوثنية بالقوة بعد أن حازها؟ هل يمكن أن نصدق أنه اعتدى على قافلة مشركي مكة المسالمة؟ هل يمكن أن نصدق أنه اعتدى على الروم وفارس من دون أن يعتدوا؟
كلا ثم كلا.
إن سيرة النبي ﷺ واضحة كالشمس، وإنْ أساء بعض الناس فهم زوايا منها فإن ذلك يعود إلى علّةٍ فيهم، كما قال الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
يعني من كان فمه مريضا فإنه يجد طعم الماء الصافي مرا.
أما خلق العفو فهو أشهر من الشهرة، فالعبارة التي أطلقها ﷺ بعيد فتح مكة، وهي:
اذهبوا فأنتم الطلقاء.. يعني اذهبوا أحرارا من دون أي قيد أو عقوبة، لعبارة يحفظها العالَم غيبا…
وكذلك عفوه عن اليهودية التي حاولت أن تسمه ﷺ
فقد روي عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله : أُتِيَ بِالْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتِ الشَّاةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهَا : مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ فَقَالَتْ : قُلْتُ إِنْ كَانَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ كَانَ مَلِكاً أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْهُ . قَالَ فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهَا.
بل إنه عفا عن الأسرى.. أسرى بدر، وأطلق سراحهم مقابل أن يعلم أحدهم عشرة من صبية المسلمين، ويا لها من منّة!
إذًا، إنه هو ﷺ الذي يصبر على الظلم وهو مستضعف، وهو الذي يعفو عن الظالم عندما ينتصر عليه.
إن الهجوم الذي يتعرض له سيد الخلق هذه السنوات والإساءات البالغة تتمحور في كثير منها على موضوع الجهاد في الإسلام، أي قتال المعتدين، حيث يقول المفترون إنه ﷺ ادعى طيب الخلق حين كان ضعيفا، ولكنه قلب ظهر المحن حين حاز القوة. وسأذكر فيما يلي: تعليم القرآن المجيد عن الحرب والسلام لتفنيد هذه المزاعم الداحضة :
إنّ تعاليم الإسلام تطابق الفطرة الطبيعية للإنسان وتتناسب معها، وتدعو لنشر السلام بالطريقة الوحيدة الممكنة.
يحرّم الإسلام الاعتداء على الناس، ولكنه يحث على القتال إذا كان القعود عنه يعرّض السلام للخطر ويشجّع الحرب. وإذا كان القعود عن القتال يؤدّي إلى الاستئصال التام لحرية الاعتقاد وحرية البحث عن الحقيقة، فإن واجبنا أن نقاتل.
هذا هو التعليم الذي يمكن أن يُبنى عليه سلام دائم، وهذا هو التعليم الذي بَنى عليه الرسول ﷺ سياساته الخاصة وممارساته العملية. لقد عانى ﷺ باستمرار وبصبر في مكة، ولكنه لم يقاتل العدوان القاسي الذي كان هو ضحية بريئة له. ولما هاجر إلى المدينة، وخرج العدو لاستئصال شأفة الإسلام، كان قتال العدو حينئذ هو العمل الذي لا بد منه، من أجل الدفاع عن الحق وحرية الفكر والعقيدة.
وسنعرض في ما يلي للآيات القرآنية التي تشتمل على موضوع الحرب.
أولاً: في سورة الحج: 40-42 نجد ما يلي:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ % الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ % الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)
ثانيًا: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ % وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ % فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ % وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)
ثالثًا: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ % وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ % وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)
رابعًا: ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ % وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)
خامسًا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
سادسًا: ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 4)
سابعًا: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6)
ثامنًا: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 68)
أي أنه لا يجوز أسر أحد، إلا من المقاتلين الذين يشتركون فعلاً في ميدان القتال، فلم يُشرّع الله ﷻ لأحد من الأنبياء أن يتّخذ أسرى إلا من الأعداء المقاتلين الذين قاموا بالعدوان وسفكوا الكثير من الدماء. وقد حرّم الإسلام خطف الأفراد من القبائل المعادية وهي العادة التي كانت منتشرة قبل الإسلام، وظل غير المسلمين يمارسونها بعده، فليس من الجائز شرعًا عند الله ﷻ أن يؤخذ أسير دون حرب وممارسة قتال فعلي.
تاسعًا: وضع القرآن المجيد قواعد إطلاق سراح الأسرى كما يلي:
( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (محمد: 5)
إن الوضع الأفضل في الإسلام هو إطلاق سراح الأسير دون فدية، ولما كان هذا غير ممكن في كل حالة، فلذلك نص الله ﷻ على السماح بقبول الفدية. والمعنى أن الأسير لا يقتل ولا يسترق بالمرة.
فهذه هي سيرة الرسول ﷺ، وهذه هي مهامه التي قام بها خير قيام.
أفلا يستحق منا هذا النبي العظيم أن نوضح للناس سيرته عبر وسائل إعلامنا كلها؟ ألا يستحق أن نفرد له عشرات الحلقات من برنامج حواري عالمي مباشر؟
بلا، إنه يستحق أكثر من ذلك، وهذا ما نقوم بجزء يسير منه عبر فضائيتنا، وإننا لنحمد الله على أن هيّأ لنا هذا الشرف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته