مؤخرا أخذت الصيحات تتعالى في مختلف البلاد العربية والإسلامية داعية إلى تجديد الخطاب الديني، وكان هذا نتيجة الصدمة التي تلقاها السياسيون وعامةُ الناس مما يحتويه هذا الخطاب من مفاصل خطرة تعجَّب الناس منها وأدركوا أنه لا بد وأن يكون هنالك خطأ ما، ولا بد من تصحيحه. ولم يبرز هذا مؤخرا إلا بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي ثم ظهور داعش وأخواتها، وبات واضحا أن الخطاب الديني الرسمي بل والجماهيري وقف عاجزا أمامها وكان غير قادر على تفنيدها، بل تبيَّن أنه يتبنى المبادئ نفسها التي قامت عليها حركات التمرد، بل خلع عدد من دعاة الوسطية من المشايخ والدعاة عباءتها وأخذوا يدقُّون طبول الحرب ويحرِّضون على التمرد والفتن، وتمايز هؤلاء وفقا لمصالحهم وأحزابهم وفئاتهم، رغم أنهم لا خلاف فكريا بينهم. وأصبحت المسألة باختصار أن الفكر التمرُّدي الانقلابي التكفيري الإقصائي إنما هو القاسم المشترك بين الجميع، ولكن تطبيقه يرتبط بالظروف الملائمة التي بمجرد توفرها تتحول حمامات السلام إلى غربان سوداء تفتك بكل ما حولها.
كان هذا الظرف فرصة ليدرك العالم أن الجماعة الإسلامية الأحمدية وحدها ودون منازع هي التي تملك ذلك الخطاب الذي يتطلَّع إليه الجميع، والذي كان أصيلا متأصلا في فكرها منذ البداية، ولم يتولَّد نتيجة ظروف معينة، بل سبق هذا الفكرُ الظروفَ، وهذا بحدِّ ذاته يُثبت صدق هذه الجماعة التي أعدَّها الله تعالى قبل أن تظهر آثار الأمراض على جسد الأمة الإسلامية عندما كان هذا الفكر ما زال كامنا متحوصلا لم يبرز للناس خطرُه على أرض الواقع.
أما ما هي مصادر الخطر والفساد في الفكر الإسلامي الرائج حاليا، وكيف قدمتها الجماعة الإسلامية الأحمدية؟
الواقع إن مصادر الخطر والفساد يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط أساسية وهي: التكفير وما يترتب عليه، الجهاد وما يرتبط به، والنظام السياسي والسعي لإقامة الدولة الإسلامية.
فبخصوص التكفير أكَّدت الجماعة الإسلامية الأحمدية على حقِّ كل من يدعي أنه ينتمي إلى الإسلام بأنه مسلم، وأنه لا يستطيع أحد أن يسلبه هذا الحق، وأنه مهما كان مخطئا في فكره أو سلوكه فلا يحقُّ لنا أن ندعي بأنه يتظاهر بالإسلام أو نقول بأنه لا يحق له ادعاء الانتماء إليه، فحقيقة الإيمان والإخلاص لا يعلمها إلا الله تعالى وهو الذي يحاسب عليها. فلا يحقُّ لأحد أن يخرج أحدًا من الملَّة، كما أنه لا حقيقةَ لحكم التكفير المبتدَع ولا ما يترتب عليه تقليديا من أحكام تتعلَّق بالمُكفَّر، ولا حقيقة لحكم قتل المرتد لمجرد ردته؛ وفي هذا السياق بيَّنت الجماعة الإسلامية الأحمدية حقيقة ما حدث تاريخيا، وخاصة فيما يتعلَّق بقتال المرتدين، وبيَّنت بأنهم كانوا معتدين عوملوا كغيرهم من المعتدين دون تمييز، وعُفي عنهم بعد هزيمتهم واستسلامهم. وبهذا فقد أسقطت الجماعة الإسلامية الأحمدية الركن الأول من أركان زعزعة أمن المجتمع وكيان الأمة الإسلامية بذريعة التكفير المبتدَع.
أما فيما يتعلَّق بالجهاد، فقد أكدت الجماعة الإسلامية الأحمدية بأن الجهاد إنما هو بذل الجهد لإقامة الإيمان والتقوى والصلاح على النفس أولا ثم تقديمه بالحكمة والموعظة الحسنة كهدية للمجتمع والعالم أجمع دون جبر أو إكراه. وأكَّدت أن القتال إنما فُرض دفاعا عن النفس وعن المظلومين لكي يحظوا بالأمن والسلام والحرية وخاصة الحرية الدينية لكي يختاروا الدين الذي يشاءون ويمارسوه بحرية، وهو ليس سوى فرع من الجهاد له شروط وضوابط. وأكَّدت الجماعة على أنه من الخطأ الفادح الظن أن الجهاد إنما فُرض لنشر الإسلام بالقوة والإكراه، وبيَّنت حقيقة السيرة والتاريخ وكيف أن هذا هو المبدأ الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده والذي كان الطابع العام للحروب الإسلامية في التاريخ عموما.
أما ما يرتبط بالجهاد من أحكام أُلصقت بالشريعة الإسلامية ظلما وعدوانا، كمثل السبي والاسترقاق وفرض الجزية على المهزومين من أهل الكتاب عموما دون تمييز، فقد بينت الجماعة الإسلامية الأحمدية بطلانها وخطأ الفقه في إنزالها في غير موضعها. فالإسلام لا يسمح بالسبي ولا بالاسترقاق، وأن الأسرى لا يتحولون إلى عبيد بل سماهم القرآن الكريم بالأسرى، وأن مصيرهم الحتمي هو المنُّ أو الفداء حصرا. ولكن بما أن العُرف الذي كان سائدا في صدر الإسلام بين الأمم والشعوب يقوم على أن المهزومين يتحولون عبيدا وإماءً للمنتصر، وكان هذا ما يقوم به أعداء المسلمين ضدهم وما كانوا سيقومون به، لذا فقد أجاز الإسلام معاملة الأسرى معاملة العبيد والإماء من باب المعاملة بالمثل في ظروف كهذه مع فارق كبير؛ وهو أنهم لا يهانون ولا يكلَّفون فوق طاقتهم ولا يسخَّرون بل يُكرمون في المجتمع وينالون حقوقهم وأجورهم، وأن النساء وإن سُبين في ظل تلك الظروف فلا يغتصبن بل لا بد من الزواج بهن، ثم هن لا يُرغمن على الزواج، بل يكون بإمكانهن أن يطلبن المكاتبة أو يفديهن أهلهن. وهذا كله إنما يجوز فقط إذا كان هذا العُرف مطبقا عند أعداء المسلمين معاملةً بالمثل، فما دام هذا العُرف لم يعد سائدا، فلا يجوز للمسلمين اليوم السبي ولا معاملة الأسرى معاملة الرقيق مطلقا، ويصبح هذا التصرُّف حراما محضا، لأن هذه الأحكام إنما هي أحكام عقابية لا تُنزَل إلا بوجود الجريمة أصلا، والتي هي في هذه الحالة وجود عرف السبي والاسترقاق عند الأعداء.
وبالطريقة نفسها فقد بينت الجماعة الإسلامية الأحمدية أن الجزية أيضا هي حكم عقابي لا يفرض إلا على معتدين في حرب دينية يحاربون فيها المسلمين بذريعة الدين ويريدون فرض الجزية على المسلمين وفقا لما يدَّعونه من أحكام دينهم وأعرافهم. وقد ذُكر أهل الكتاب خاصة لأن الجزية إنما هي حكم توراتي طَبع سلوك اليهود والمسيحيين لاحقا في حروبهم مع غيرهم، فما دامت هذه الحروب الدينية لم تعد قائمة، وما دام هؤلاء قد انتهوا عن فرض الجزية على المسلمين ولم تعد جزءا من تقاليدهم، فلا يحقُّ للمسلمين فرض الجزية على المهزومين من أهل الكتاب اليوم، لأن هذا النوع من الجزية إنما كان معاملة بالمثل لا أكثر.
وبهذا فقد هدمت الجماعة الإسلامية الأحمدية الركن الثاني وهو ادعاء الفكر التقليدي أن الجهاد يعني بالأساس حرب الكافرين لأجل نشر الإسلام، وكذلك كل ما يترتب عليه من أحكام ليست من أصل شريعة الإسلام.
أما ما يتعلق بالنظام السياسي وإقامة الدولة الإسلامية المزعومة، فقد بينت الجماعة الإسلامية الأحمدية أنه لا يجوز السعي على الصعيد الفردي أو الجماعي للوصول إلى السلطة بأي وسيلة، بل لا يقبل المؤمن السلطة إلا إذا رُمي بها لا أن يسعى إليها ولا أن يحرص عليها، وهذا مبدأ إسلامي راسخ. ولهذا لا يجوز أن يسعى الأفراد ولا الأحزاب التي تلبس لباس الدين إلى السلطة مطلقا، وأن النظام الديني لا يريد من النظام السياسي في أي بلد سوى عدم المعارضة وعندها سيعدُّه جزءًا لا يتجزء منه، وإن عارض النظام السياسي النظام الديني وحاول إعاقته فإنه سيصبر على هذا الأذى ولن يتمرَّد بذريعة الاضطهاد الديني خاصة ولا بأي ذريعة أخرى، وأن طاعة النظام السياسي في كل بلد واجبة إلا في معصية الله تعالى؛ كأن يأمر بمنع الصلاة أو يأمر بمنكر، وعندها لا يطيع المؤمن في تلك المعصية فقط ولكن لا يشقُّ عصا الطاعة عموما بهذه الذريعة.
وبينت الجماعة الإسلامية الأحمدية بأن التمرَّد محرَّمٌ في الإسلام حتى ولو تعرَّض الناس لمظالم لا حدود لها، وأن الواجب أن يعطوا الحكام حقَّهم ويسألوا الله تعالى حقَّهم، والله تعالى سيصلح الحاكم أو سيبدله بخير منه لو تمادى في ظلمه. أما الثورات والتمردات فإنما تزيل ظالما لتأتي بمن هو أظلم منه، وهذا ما شهده العالم العربي مؤخرا بوضوح.
وباختصار، فلا يوجب الإسلام السعي للسلطة بذريعة إقامة الدولة أو النظام الإسلامي كما هو سائد تقليديا، بل يكره السعي للسلطة على الصعيد الفردي أو الجماعي، ولا يوجد شيء اسمه الدولة الإسلامية التي هي نظام سياسي يحظى فيه المسلمون بحقوق خاصة، بل المواطنون متساوون أمام القانون. ومن الخطأ الفادح الاعتقاد بأنه لا بد من فرض الجزية على غير المسلمين من المواطنين؛ لأنهم لم يكونوا أصلا محاربين ولم يحاربوا المسلمين في حرب دينية كانوا يريدون فيها فرض الجزية على المسلمين لو انتصروا، بل هم مواطنون شركاء في الوطن كمثل المسلمين، بل لا علاقة للدين بعقد المواطنة في أي بلد. أما المسلم فينبغي أن يكون متفانيا في خدمة مجتمعه أكثر من غيره ويعطيهم من حقوقه من باب ما يأمر به الإسلام من التزام العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى طمعا في رضا الله تعالى، لا أن يفضِّل نفسه عليهم.
ويجدر هنا القول أن ما سبق لا يعني أن المسلم سيكون عازفا عن الانخراط في النظام السياسي أو العمل السياسي بتاتا، بل المقصود أنه لا يكون في هذا النظام ساعيا للحكم والمناصب والمكاسب، بل هدفه خدمة المجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، ولا يصل إلى سُدَّة الحكم إلا إذا رُفع إليها راغما، وعندها سيتحملها كأمانة ومسئولية ثقيلة يحرص فيها على أداء الحقوق بكل خشية.
وبهذا فقد سقط الركن الثالث من أركان هذا الفكر الذي لا شك في فساده، وأصبحت الصورة واضحة فيما يتعلق بالنظام السياسي والسلطة وعلاقتها بالدين.
وأخيرا، وبالنظر إلى ما تقدَّم، فهذا هو الخطاب الديني الإسلامي الأصيل الذي تشوَّه مع الوقت كما هو ظاهر بيِّن، وما التجديد الذي قدمته الجماعة الإسلامية الأحمدية إلا إعادته إلى أصله بأدلة قوية قاطعة تزخر بها أدبيات الجماعة من كتابات الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام والخلفاء من بعده. وهذا ما تحتاجه الأمة اليوم بشدة وما وقفت المؤسسات والقيادات الإسلامية عاجزة أمامه لعدم قدرتهم على حلِّ بعض الإشكالات التي جذَّرت الفساد العظيم الذي يدبُّ في جسد الأمة. ولا شك أن عجزهم نابع من سوء الفهم من ناحية ومن الخشية أو الظن بأن التجديد إنما يعني أن نتنازل عن ثوابت الدين أو نحدث تغييرا في الدين نفسه، بل إن البعض أخذوا يحاولون التنازل عما يظنون أنه عقبة في طريقهم كالحديث الشريف مثلا الذي لا يضعونه في مكانته الصحيحة ويسيئون فهمه ويسيئون التعامل معه. ولكن هذا الظن وهذه الخشية ليست في محلها، فالإسلام العظيم وثوابته وتراثه كانت ولا زالت قادرة على حلِّ مشكلات المسلمين والعالم أجمع، والإشكال إنما هو في رؤى هؤلاء وأفهامهم.
إن لم تقبل الأمة الإسلامية اليوم الجماعة الإسلامية الأحمدية فلا بأس أن تقبل على الأقل هذا الإصلاح والتجديد الديني التأصيلي، فلو فعلت ذلك لخطت خطوات هامة نحو الأمن والسلام والازدهار. أما أن تقع الأمة فريسة أعداء الجماعة ومعارضيها ممن يريدون لها أن تبقى في هذه الظلمات فهذا ما يؤسف له بشدة. فنسأل الله تعالى أن يوفق الأمة لكي تعرف الإسلام الحق وتتبعه للتخلص من ويلاتها ومصائبها، آمين.