جُبِل الإنسان على حُب سماع الموسيقى والايقاعات، وتزخر الطبيعة بأمثلة حية تنتشي فيها النفوس فتهدأ بسماع إيقاعات البحر وأنغامه وزقزقة العصافير والطيور الجميلة، وتلعب الفطرة دورا مهما في هذا فما أن يفرح الإنسان حتى يميل نحو الغناء ويعلمنا التاريخ أن أنفس الصحابة هاجت في المدينة بعد أن رأوا نور الله يقترب منهم في هجرته الشريفة فصدحت ألسنتهم بالمديح والقول
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع…….ووجب الشكر علينا ما دعى لله داع
ومع إيقاعات الدفوف تمايلت أجساد الصحابة فرحًا بهذا المقدم المبارك، كما أولى المسلمون العناية بالموسيقى من خلال تزيين قراءة القران القران الكريم بأصواتهم حتى قال النبي لأحد اصحابه وهو يقرأ القران بصوت شجي أنه أوتي مزمارا من مزامير داوود.
وقد أولى الأولياء من أهل التصوف والعرفان أهمية عظمى للسماع وللغناء الصوفي وقد لعب التصوف الإسلامي دورا كبيرا في الفن الإسلامي على العموم والموسيقى والغناء خصوصا، وكان الأولياء ومريديهم ودراويشهم مرتعا وواحة للعناية بهذا الفن وتطويره وصناعته، من الشعر الى الوتر، لًما للموسيقى أهمية كبيرة في تقريب المريد من حالة الوجد الروحي التي هي كأس الخمر الإلهية التي يغيب فيها عقل المتصوف وتدور الروح في فلك الوجود لترسم صورة حلزونية نحو الذوبان في الحقيقة المطلقة، فقد إعتن المتصوفة بالمقام وبالرقص الصوفي حيث تقام حلقات الذكر على إيقاع طبول الباز ليستطعموا فيها حلاوة الذكر ونفحات الجنان بلوعة المحبين الذين لا يحق لأحد أن يلومهم إذا ما هاج بهم الشوق إلى محبوبهم وإذا ما ضاق بمشاعرهم كونهم المادي الذي وطأته شهب الهيام الروحي. وقد اشتهرت الى اليوم الرقصة المولوية لسيدنا جلال الدين الرومي التي يدور فيها المريد على نفسه وفي حلقات تماثل دوران الأفلاك نحو الشمس مركز الكون، وقد أشار قبلها ابن عربي رحمه الله تعالى الى الربط بين عالم الفلك وعالم المقامات الروحية واسماها بالافلاك التسع التي تبرز في العالمين على نحو التماثل، وقد رقص الرومي رقصته المشهورة وهو يسمع دقات العمال المتوازية والمنسقة في معمل لصياغة الذهب فترك هذا الايقاع في نفسه اثرا إذ وازى هذا الايقاع الموسيقي ايقاع نفس الرومي الولي فانتعش وظل يدور حول نفسه، وينكر أهل الظاهر على الصوفية اهتمامهم بتلك العلوم واعتبروها من المنكرات كعادتهم إذ ينكرون كل شيء يجهلونه وقد سئل الامام أحمد بن حنبل عن حال أهل التصوف وسماعهم للموسيقى فقال اتركوهم يفرحوا مع الله ساعة فذكر له ان بعضهم يغشى عليهم فقال لهم وهو يتلو اية من الذكر الحكيم (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ).
ومن المعلوم ان الموسيقى والطرب لها تأثير روحي عميق في الانسان بغض النظر عن انتمائاته واعتقاداته فهي غذاء الروح وزاد الانسان في دروب العشق والهوى وهي من العلوم التي تركها إلينا الأوائل وتوارثوها من أنبياء الأمم السابقة وأوليائها وهنا ننقل غيض من فيض بعض أقوال سلف الأمة عن الموسيقى والتي نقلها الينا العلامة الشيخ جلال الحنفي رحمه الله تعالى
1- قد جاء في (الدر النقي في علم الموسيقى) للشيخ احمد بن المسلم الموصلي المتوفى سنة 1150 هـ قوله ( ان موسى عليه السلام اشتغل بالمناجاة لما حصل لبني اسرائيل التيه أربعين سنة فجاءه جبرائيل عليه السلام وقال يا موسى ان الله يقرأك السلام ويقول (اضرب بعصاك الحجر) لترى قدرتي فضرب موسى بعصاه الحجر فبان من كل عين صوت حسن غير الاخر لما انفجرت اثنتا عشر عينا، فمنها اخذت المقامات الاثنا عشر وهي أصلها، فقال جبرائيل عليه السلام لموسى يا موسى: اسق فاختصرت هاتان الكلمتان وجعلتا اسما لهذا الفن فقالوا موسقى).
2- ورد في الرسالة الفتحية لمؤلفها محمد بن عبد الحميد اللاذقي المتوفى سنة 900 هـ عن سبب تسمية الموسيقى وتعليلها الاتي: (وقيل سمي باسم الفلك الاعظم الذي هو “موسيقاقيا” لتشابهما في الشرف فحذف بعض الحروف طلبا للخفة فصارت موسيقى)
وقال أيضا (اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن اولا فيثاغورس وهو من تلاميذ سليمان عليه السلام، ورأى في المنام ثلاث ليال متوالية، ان شخصا يقول له يا فيثاغورس قم واذهب الى ساحل البحر الفلاني وحصل علما غريبا، فذهب من غد كل من اليالي الثلاثة الى ذلك الساحل، وبالغ في الصبر هناك فلم ير احدا يتعلم منه علما، ولما علم في اليوم الثالث ان تلك الرؤيا ليست مما يؤخذ جزافا، تفكر فكرا كثيرا وكان هناك جمع من الحدادين يضربون المطارق على وجه متناسب فذهب خاطره اليه وتأمل في تلك المناسبات، ثم رجع الى بيته وقصد انواع مناسبات بين الاصوات لما حصل له ما هو مقصود له بتفكر كثير وفيض رباني صنع الة وشد عليها ابريسما وانشد شعرا في توحيد الله تعالى وترغيب الخلق في أمور الآخرة).
3- وفي رسائل اخوان الصفا ورد أن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب فاستخرج بجودة فطرته أصل الموسيقى ونغمات الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم وأخبر عن هذا السر) … طبعا ولا مندوحة من القول أن هذا الكلام يماثل ما قاله الشيخ الاكبر ابن عربي قدس الله سره الشريف.
4- وقد وردت العديد من الاخبار حول مزامير داود عليه السلام وصناعته لبعض آلات الموسقى التي يتجاوز اوتارها الى 10 أوتار.
ولست في هذا المقام ممن يحب أن يخوض في بحر علم يجهل أصوله ولكن من المعلوم والمعروف أن علم الموسيقا علم روحي يتداخل مع المقامات الروحية ومع الإيقاعات النفسية وتحولاتها وللموسيقى أثر لا ينكر في الروح لذا إهتم الصوفية المسلمون بالموسيقى والغناء وحفظوا أصول المقامات الموسيقية كما توارثوا المقامات الروحية فيما بينهم ونشأت الموسيقى العربية من بين أحضان أولياء الصوفية ويكفي أن نذكر الشيخ الموصلي وأيضا سيد درويش والشيخ زكريا وغيرهم ممن أوجدوا لنا فن الموسيقى العربية التي صدحت به السيدة أم كلثوم كصوت تخرج من الموالد النبوية والمدائح الصوفية ليسكب جواهره على الغناء الطربي العربي الأصيل ولتشكل ملامح الموسيقى العربية المعاصرة. وأن هذا العلم مهما أشاع أهل الظاهر عليه وافتوا ضده إلا أنه علم روحي غريب كغرابة التصوف ومجاهيل مقامات النفس يؤثر في الانسان بشكل غريب وعجيب وأصبح مادة لشفاء الأمراض الجسمية والنفسية، ويدخل السامع المستلذ لهذا العلم بسماع الموسيقى عالما آخر من عوالم الوجد والنشوة حتى يغيب الشبح وتبرز الحقيقة الباطنة المطلقة بأبهى صورها فتعمى عنها العيون وتضيق عنها المعاني ويدخل السامع الى الجنة الأرضية التي قال الله تعالى عنها (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) فجنة الدنيا يدخلها السالك والواجد بهذه الحالات بحالة صفاء مع الله تعالى تخرس فيها الأصوات وتبدأ النفس تستشعر حركات الأفلاك الروحانية فتنتظم الإيقاعات وتبرز وتهيج النفس شوقا وعندها يدخل الانسان الى ملكوت اللاهوت فيهيم ويهيم ويترك الناسوت ويبحر في بحر الجبروت، إنها الجنة لا ريب التي قال الله تعالى عنها (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙقَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وبالتالي فان هذا النعيم الروحي المتأتي من الموسيقى وغيرها يماثل النعيم الأخروي في النوعية لا في الشدة والتجلي ولكن يبقى السؤال المهم الذي لن تستطيع الا النشوة الموسيقية تعريفه لماذا قال الله تعالى عن الجنة عرفها لهم وأن الجنة الدنيوية تماثل الجنة الاخروية؟
ولماذا يدخل الانسان في عالم البرزخ روضة من الجنة؟
ولماذا لم يدخر الله تعالى النعيم لهذا الانسان في الاخرة فيدخل الجنة دفعة واحدة
فإن كانت الجنة مكانا كما يفهمها التقليديون لكان من باب أولى الا يعرفونها حتى تكون لهم مفاجأة عظيمة ولكن الله تعالى قال في الآيات التي ورد ذكرها بأن الأمر عكس ذلك وبأن الإنسان يعرف مكانه في الجنة ويذوق من طعم الجنة في الدنيا. هذا الأمر أرقني كثيرا واستطعت من خلال بعض حالات الوجد والتفكر والتدبر أن أحل هذا اللغز الخفي. أن الموسيقى كما أشرت سابقا غذاء روحي يستلذ المريد به والسالك الى ربه ولكن ما هو معلوم أن الأسماع والأذواق تختلف من إنسان الى إنسان ومن فئة الى فئة ومن مجتمع الى مجتمع وبالتالي فما تألفه نفسي قد لا تألفه انت وما يألفه العرب لا يألفه غيرهم ولنستعين لشرح هذا المفهوم برأي العلامة مصطفى جواد الذي يقول: ( مما لا سبيل للتعقيب عليه أن لموسيقى كل جمهرة أصيلة من جماهر الأمم البشرية خصائص عامة تنظمها فتميزها عن خصائص موسيقى غيرها من الجماهر، ولذلك نجد العربي يطرب بالموسيقا السامية عموما فضلا عن طربه بالموسيقى العربية التي يتعاطى فنونها غير شعبه في غير قطر، وكذلك القول في الانسان الآري والموسيقى الآرية )…. ويستمر العلامة بالشرح فيقول (أن الموسقى ليست كالأدب تفكير وفكرة وعاطفة مصورة بالكلم والعبارة وخيال يدركه العقل ولا تحسه الحواس، وعلى هذا لا نستغرب حال العربي حينما يبلغ سمعه الأصوات الموسيقية الأعجمية وخصوصا الأوربية والأميركية فينفر منها ولا يصغى أذنيه اليها ولا يرتاح لها لأنه نفسه لم تتعود الالتذاذ بها ولا السكون اليها ولا استعذابها منذ الطفولة والصبا وما بعده من مراحل الكبر) ويضيف قائلا (ولما كان للعادة سلطان مبين في الميل الى الموسيقى فاننا نرى أن الشباب العربي الذي درس في بلاد الغربيين قد آلفوا الموسيقى الإفرنجية).
إن الأمر الى هنا قد أستبان وان سماع المريد وتلذذه بالنعيم الروحي الناجم عن القرب من الله هو كتعويد الطفل على سماع نوع من أنواع الموسيقى كي يألفها ويستلذ بها وكلما زاد الطفل في سماعه منها كلما تلذذ أكثر وأكثر وكلما زاد حنينه وشوقه الى اللذة الأعظم التي ستنكشف عليها يوما بأبهى صورها في ميعاده، فما دخول الجنة الأرضية والجنة البرزخية الا كي تألف النفس لذة ونعيم الجنة الروحية وبالتالي فان عرفها لهم ضرورية كي يستلذوا بنعيم الجنة على أتم وجه.