في العالم المادي، جعل الله تعالى لكل داءٍ دواء، وحضَّ الناس على تحري الدواء المناسب للداء المناسب، وكلَّل عمل الساعين بالنجاح فضلا منه ورحمة. ولكن لم يشأ الله تعالى أن يجعل تأثير الدواء حتميا ومؤكدا في كل حالة، بل كان هنالك دوما هامش لمن لا ينفعهم الدواء من المرضى. ولكن بالمحصلة فإن أكثر من يتعاطون الدواء الصحيح يشفون. ولهذا يسعى الناس للتداوي ويقرون بتأثيره وأهميته، بل يسعون للحصول على الدواء المناسب مهما كلفهم الأمر، ولا يأبهون إن كان قد لا ينفع أحيانا، بل يتأملون في أن يكونوا ممن ينفعهم الدواء ويؤثر فيهم.
وفي العالم الروحاني، وفي الأسقام والنوائب والمصائب والصعاب المتنوعة التي تواجه الإنسان، فقد جعل الله الدعاء بمنزلة الدواء في العالم المادي. وقد ثبت لأهل التجربة أن الدعاء إذا كان في محلِّه الصحيح ووفقا لشروطه فإنه ينفع في الغالبية العظمى من الحالات، ويشهد الإنسان فرَجا من حيث لا يحتسب. وفي أحيان بلا شك فإن البلاء يقع ولا ينفع معه الدعاء، فهل عدم تحقق الدعاء في هذه الحالات يبرر الاعتقاد بعدم جدوى الدعاء بسبب أنه لا ينفع في بعض الأحيان ولا يتحقق وفقا لرغبة الطالب؟
المشهود أن إيمان الناس بالدواء وأثره وأهميته إيمان راسخ لا يتزعزع رغم عدم نفعه أحيانا، ولكنهم لا يحظون بالإيمان نفسه في الدعاء شقاوة منهم وتأثُّرا بنزغات الشيطان ووساوسه والأفكار الإلحادية. وهنالك أيضا من المؤمنين من لا يؤمنون كثيرا بتأثير الدعاء لأنهم يرون أن الله تعالى لا يستجيب إلا لأوليائه وخواصِّه ولا يأبه بالناس من المستوى الأدنى والمقصرين، وهذا خطأ فادح ووسوسة شيطانية هدفها حرمان الناس من أثر الدعاء. فصحيح أن الله تعالى يعامل أولياءه وعباده الخواص معاملة خاصة ويستجيب أدعيتهم أكثر من الناس العاديين، إلا أنه تعالى لم يحرم عامة الناس من الاستفادة من الدعاء، بل جعله في فطرتهم وجعله يتفجر عند الحاجة ويصل إلى عرشه ويحظى بالاستجابة من لدنه. فكيف ذلك؟
الواقع أن الدعاء يستجاب عندما يدعو الإنسان دعاء المضطر، ويقرُّ بكل كيانه أنه لا ملجأ ولا منجى إلا بالله، وهي الحالة التي يعيشها أصلا عباد الله تعالى الخواص دوما وتكون سببا لاستجابة أدعيتهم؛ إذ لا يرون الدنيا ولا أسبابها ولا أيا من المخلوقين شيئا أمام الله تعالى بل يرونهم جميعا خدما وأدوات بيد الله تعالى، إن شاء جعلها لفائدتهم وإن شاء منع فائدتها عنهم. أما الناس العاديون فإنهم عادة ما يكونون عباد الأسباب ومشركيها بالله، ولكنهم لا يحظون بشعور المضطر إلا إذا وجدوا أن الأسباب قد خذلتهم وأن شئونهم الآن بيد الله تعالى وحده، فتصرخ فطرتهم ويجأرون إلى الله تعالى بالدعاء من صميم قلوبهم، فتحظى أدعيتهم بالقبول. وإلى هذه الحالة أشار الله تعالى في العديد من المواضع في القرآن الكريم كقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (يونس 23-24)
وهنا يبين الله تعالى أنه يجيب دعاءهم رغم أنهم كانوا غافلين عنه من قبل ثم سيعودون إلى غفلتهم وسيئاتهم وبغيهم، ومع ذلك يستجيب رحمة منه وشفقة على خلقه!
وقد بين الله تعالى أن طبيعة البشر هي كما في قوله:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } (النحل 54-55)
ثم بيَّن تعالى أن استجابة الدعاء في حالة الاضطرار هذه – رغم تورُّط الناس في السيئات من قبل ومن بعد – هي من أهم دلائل وجوده وقيوميته وعلاقته المتواصلة مع خلقه، إذ يقول تعالى:
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (النمل 63)
وهكذا فإن باب الانتفاع من الدعاء مفتوح للجميع بشرط أن يدعو دعاء المضطر، ويصبح بذلك الدعاء وسيلة لمعرفة الله تعالى والتواصل معه بعد أن ألجأت الظروف الإنسان إلى الله تعالى وجعلته يشعر أنه لا ملجأ له إلا إليه، ويصبح عبادة بل مخَّ العبادة كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عدم تحقق الدعاء حتى في حالة الاضطرار على الصورة التي يأملها المرء فهذا مرجعه هو أن الحكمة الإلهية اقتضت أمرا آخر، ولكن الذي نال الداعي هو حتما الخير والأمثل والذي قد يتبين له في هذه الدنيا عاجلا أو آجلا. فالمسألة هنا متعلقة بالحكمة الإلهية، وليست باستجابة الدعاء أو عدم جدواه. ولكن السعيد هو من عاش هذه الحالة دوما ورأى نفسه مضطرا أمام الله تعالى وترك الأمر لله تعالى بعد ذلك، أما الشقي فهو الذي يلجئه الاضطرار إلى الدعاء ثم ينسى إذا ما أنجاه الله تعالى.
أخيرا فإن الذي ينكر أثر الدعاء ويسخر منه بحجة أنه لا يستجاب دوما وأن الأمر يكون بين شيئين لا ثالث لهما وهو أن يتحقق المراد أو لا يتحقق فهو ليس ملحدا فحسب بل أحمق، وسيجد نفسه بنفسه في يوم من الأيام مضطرا لأن يجأر بالدعاء عندما يحاط به، وعندها سيكون أمره بيد الله تعالى، ولعله سيقع أخيرا في قبضة الله تعالى ويرى هذه الحالة عندما يحلُّ به العذاب الذي استدعته سيئاته وخطيئته التي قد أحاطت به، وعندها لن ينفعه الدعاء.
هذه المفاهيم إنما هي قبسات من علوم الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام. وقد أنعم الله علينا ببعثة هذا الخادم الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء من بعده الذين يعيشون حالة الاضطرار دوما في دعائهم للإسلام والمسلمين وللأحمديين وللبشرية جمعاء لما جعل الله في قلوبهم من مواساة تجعلهم يعيشون مصائب الناس ويرونها مصائبهم الخاصة. وهذا الإحسان من جانبهم لا يمكن أن يدركه عامة الناس أو يقدروه حق قدره، ولكن الله تعالى العالم بهم يعلم ذلك وهو يجزيهم عليه. ولكن واجبنا أن ندرك ذلك ونحمد الله تعالى وندعو لهم، وأن نسأل الله تعالى أن يجعلنا نحظى بهذه الروح من المواساة وتنال أدعيتنا القبول. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك، آمين.