لوحظ في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تزايد الهجوم على الإسلام، وكأن الإسلام الآن أصبح هو العدو اللدود بعد أن نجح الغرب في القضاء على انتشار الخطر الشيوعي، وبعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي وسقط حائط برلين. ومع انتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام التي أتاحتها الإنترنت، والمحطات الفضائية، بدأت تُشَن حملة واسعة ضد الإسلام. بدأت بشكل هادئ في أول الأمر، وتحولت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) لتكون بأسلوب سافر، وفي كثير من الأحوال بأسلوب سافل أيضا. وأولئك الذين يشنون هذه الحملة الشعواء على الإسلام يتّبعون كل ما لديهم من وسائل، بما في ذلك وسائل التدليس والكذب والخداع والإفك.
ويذكرنا حديث هؤلاء عن الإسلام، وانتقاداتهم لحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعلاقاته مع أزواجه، بحديث الإفك عن السيدة عائشة، الذي أثاره بعض المنافقين، ووقع فيه أيضا بعض المسلمين. ولا شك أن حديث الإفك ذلك قد أحزن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأحزن المؤمنين المخلصين، ولكن الله تعالى أظهر الحق في نهاية الأمر، وكشف الكذابين والدجالين والمدلسين والمخادعين. ويُسَرّي الله تعالى عن المسلمين فيقول لهم: (إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) ثم يقول تعالى في الآية التالية (لَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ) (سورة النور: 11-12)
واليوم، نسمع مرة أخرى حديث الإفك، بشكل جديد، وبتكنولوجيا حديثة، وبأسلوب أشد خبثا، وبتدبير أكثر مكرا، ولكنه أولا وأخيرا هو أيضا من حديث الإفك، وسوف يكون مآله بإذن الله تعالى نفس مآل جميع أحاديث الإفك في الماضي، فسوف ينكشف الحق ويظهر صدق الإسلام، وسوف ينكشف أيضا الباطل ويظهر كذب الكذابين.
وفي الحقيقة، إن الحملة الشرسة التي تُوجّه ضد الإسلام اليوم ليست جديدة، وهي ليست سوى معركة في حرب طويلة بدأت بعد عصر النهضة في أوربا. كانت أوربا المسيحية تعيش في عصور الظلام، واستمرت في هذا الحال لمدة ألف سنة تقريبا، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر. ثم بدأ المارد الذي كان يغط في سُبات عميق يستيقظ، وينهض، ويغزو العالم، ويسيطر ويستعمر الشعوب. وطبعا كلمة يستعمر الشعوب هي كلمة تقوم على الكذب والخداع والتدليس، لأن الاستعمار معناه الإعمار والبناء والتقدم، ولكن استعمار الغرب للشعوب كان عبارة عن استغلال الشعوب ونهب ثرواتها والاستيلاء على خيراتها. وفي خلال ثلاثة قرون، استطاع الغرب المسيحي أن يستولى على العالم بأجمعه، وخضعت له الشعوب، وأصبحت دولة مثل بريطانيا تسمى باسم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. في نفس الوقت، وبكل أسف، تحول المسلمون ليكونوا كما وصفهم سيدنا رسول الله: “غثاء كغثاء السيل”، والغثاء هو ما يحمله السيل من قاذورات وأوساخ.
وكان من الطبيعي، بعد أن انتفخ الغرب المسيحي واستولى على العالم، أن يعمل على نشر المسيحية في العالم، وهكذا بدأت حملات التبشير تغزو كل البلاد التي غزتها الجيوش من قبل. فإن محاولات التنصير كانت دائما تصحب هجمات الاستعمار. ولذلك رأينا في القرن التاسع عشر نشاطا بالغا للحملات التبشيرية في الهند وجنوب شرق آسيا، كما انتشرت أيضا الأنشطة التبشيرية في أفريقيا على أوسع نطاق.
ثم انشغل العالم بعض الشيء في القرن العشرين ببعض المشاكل، فكانت الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني، ثم تلا ذلك الأزمة الاقتصادية التي أثرت في العالم كله في العشرينيات، ثم تلا ذلك الحرب العالمية الثانية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات، ثم ظهر الخطر الشيوعي في الخمسينيات والستينيات حيث اندلعت الحرب الباردة بين المعسكرين المسيحيين في الشرق والغرب. ومع حلول السبعينيات بدأت عوامل التفكك تظهر في المعسكر الشرقي، وما أن جاءت الثمانينيات حتى اندحر فيها العدو الشيوعي وزال خطره. وهنا كان لا بد للغرب المسيحي أن يعمل على رأب الصدع الذي أصابه، ويتحول مرة ثانية إلى الإسلام والمسلمين، خاصة وأنه كان يستغله أسوأ استغلال للدفاع عن مصالحه، والوقوف كسد أيديولوجي منيع ضد انتشار الأيديولوجية الشيوعية، ثم عملوا على تشجيع التطرف والعنف بين الجماعات الإسلامية، واستخدموها في أفغانستان لمحاربة الاستعمار الشيوعي. وأهرق المسلمون دماءهم في أفغانستان، وظنوا أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ولكنهم في الحقيقة كانوا يدافعون عن المصالح الاستعمارية الكبرى، التي استعملتهم واستغلت دماءهم في محاربة الاستعمار الشيوعي السوفيتي.
وبعد أن تم القضاء على الخطر الشيوعي، تحوّل الغرب المسيحي لمحاربة أصدقاء الأمس الذين كان يعتبرهم مجاهدين، فإذا به الآن يعتبرهم إرهابيين. وبعد أن لعب صدام حسين الدور المطلوب منه في تقليم أظافر الخطر الشيعي الذي تفجر مع ثورة الخميني، تحول الغرب للقضاء على صدام حسين والقضاء أيضا على من سماهم بالإرهابيين، مع أنه كان السبب الأول في خلقهم وتدريبهم وتسليحهم.
وبعد أن تم القضاء على الخطر الشيوعي، تحوّل الغرب المسيحي لمحاربة أصدقاء الأمس الذين كان يعتبرهم مجاهدين، فإذا به الآن يعتبرهم إرهابيين. وبعد أن لعب صدام حسين الدور المطلوب منه في تقليم أظافر الخطر الشيعي الذي تفجر مع ثورة الخميني، تحول الغرب للقضاء على صدام حسين والقضاء أيضا على من سماهم بالإرهابيين، مع أنه كان السبب الأول في خلقهم وتدريبهم وتسليحهم.
غير أن المعركة لم تكن معركة بالسلاح فقط، فقد كان استخدام السلاح ضد من يحمل السلاح، ولذلك كان لا بد من فتح جبهة أخرى ضد الإسلام والمسلمين، وهي جبهة التبشير المسيحي. وبذلك عاد النشاط التبشيري مرة أخرى بعد أن مر بفترة من الهدوء النسبي في القرن العشرين. وشهد العالم الإسلامي هجمة جديدة للتبشير المسيحي، بدأ الإعداد الجيد لها في الثمانينيات واستمرت في التسعينيات، ثم أسفرت عن وجهها في القرن الواحد والعشرين، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما سبق ذكره.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الحملة الجديدة ضد الإسلام العديد من العوامل، منها:
(1) الدول التي كانت تهتم بالأمور الإسلامية، إما أنها تحولت إلى مسالمة الغرب ومصادقته، وبالتالي عزلت نفسها عن معركة التبشير ضد الإسلام، أو أنها احتضنت فلول الجماعات الإسلامية، فوضعت نفسها تحت مطرقة الغرب وأسلحته.
(2) الكثير من العلماء المسلمين لم يشاءوا أن يصرفوا أوقاتهم وجهودهم في الاهتمام بهذه الأمور، خاصة وأن لديهم من شؤون المسلمين ما يهمهم ويشغلهم عن الاهتمام بشؤون غير المسلمين.
(3) الكثير من الجماعات الإسلامية ظلت تحلم بأن السيف هو الوسيلة الوحيدة لفرض وجودها، عملا ببيت الشعر المشهور للشاعر أبي تمام الذي يقول فيه:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فكان أن تعرضت لمطرقة الغرب وسندان الحكومات التي تعيش تحتها، حتى اضطر بعضها إلى إعلان التوبة، أو استمر يعطي للغرب الذريعة باتهامها بالإرهاب ويتيح له الفرصة للقضاء عليها.
(4) ومع انتشار الإنترنت كوسيلة للاتصال وجمع المعلومات، ومع انتشار الفضائيات التي يسهل استخدامها بعيدا عن أية رقابة ولا تدخل من الحكومات في البلاد الإسلامية، بدأت الحملة المسيحية الجديدة تعمل لنشر المسيحية في العالم الإسلامي وفي الوطن العربي بشكل خاص.
وبطبيعة الحال، لا بأس من أن يعمل أصحاب أي دين على نشر أفكار دينهم، ما داموا يحترمون المشاعر الدينية للآخرين، ولا يحاولون الإساءة إلى معتقدات الآخرين أو استخدام الأساليب الوضيعة من افتراء الأكاذيب واتباع أساليب الخداع. وهنا طلع علينا القُمّص زكريا بطرس يقدم لنا المسيحية التي يؤمن بها، وراح يحدثنا أولا عن التثليث، وعن تجسد السيد المسيح، وعن عقيدة الفداء التي استلزمت صلب المسيح ليكون كفارة عن خطيئة آدم التي يقول إن الجنس البشري قد توارثها. واستمع الكثيرون إلى القُمّص زكريا بطرس، ولكن لوحظ أنه لم يكن يخاطب أتباعه من المسيحيين البعيدين عن الكنيسة فيعمل على إعادتهم إلى الطريق الصحيح كما يراه ويؤمن هو به، وإنما كان يخاطب المسلمين ويحاول إقناعهم بصدق عقائده المسيحية. ولا بأس كما قلنا في أن يدعو الإنسان الآخرين إلى ما يؤمن به من عقائد وتعاليم، ولكنا رأينا القُمّص زكريا بطرس راح يوجه انتقادات لاذعة إلى الإسلام، ويتناول بالتجريح مشاعر ومقدسات المسلمين، ويصف رسول الرحمة بالإرهاب. ولو أنه كان موضوعيا في انتقاداته لما أثار حفيظة أحد، ولكنه راح عن قصد يردد ما سبق أن رد عليه علماء المسلمين من افتراءات وأكاذيب، معتمدا في ذلك على ما جاء في بعض الكتب الإسلامية التي ظهرت في عهود التخلف، أو يستدل بكتب كأنها إسلامية وهي ليست كذلك، فهي إما أن تكون لملاحدة، أو تكون بمسميات إسلامية وهي غير إسلامية، وكان يستعين ببعض العقائد التي تسربت بكل أسف إلى مفاهيم المسلمين، نتيجة لدخول أعداد كبيرة من النصارى في دين الإسلام، ولم يستطع هؤلاء التخلي كلية عما ورثوه من عقائد ومفاهيم، ومع مرور الوقت وجدت تلك العقائد والمفاهيم الخاطئة طريقها إلى الكتب والمفاهيم الإسلامية، وهي معروفة باسم “الإسرائيليات”. وبمعنى آخر، راح القُمّص زكريا بطرس يصطاد في الماء العكر، لكي يسيء إلى الإسلام ويعمل على تنصير المسلمين.
ومن الواضح أن القُمّص زكريا بطرس لم يقم بهذا العمل بمفرده، وإنما كان هناك الكثير من فرق العمل التي تعمل معه، وتستخرج له المواد اللازمة، وتسجل له النصوص التي يستعين بها. وكُنّا على استعداد أن نسمع له ونحترمه لو أنه التزم بالموضوعية وابتعد عن التزوير والإسفاف، ولكنه لم يلتزم لا بالصدق ولا بالموضوعية، ولا ابتعد عن التزوير والإسفاف. ولعل هذا لم يكن خطأ صادرا عنه، بل كان خطأ من يُعدّون له المواد ومن يكتبون له الموضوعات التي يقدمها. وفي أيّ من الحالتين، فإن الإساءة إلى الإسلام والمسلمين قد وقعت، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة أن نَرُدَّ عليه، ونُفنّد عقائده، ونفضح الأكاذيب التي قدمها، والتي استطاع بها أن يخدع بعض المسلمين. وقد ظل القُمّص ينادي بأن يرد عليه علماء المسلمين، ويتحدّى علماء الأزهر الشريف، ويتحدى الدكتور زغلول النجار، بل وطالب فضيلة الشيخ الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر أن يرد عليه. ولعله لا يعلم أنه بذلك قد تجاوز قدره، وأساء الأدب بهذا التحدي، فمن يكون القُمّص زكريا بطرس لكي يتحدى مثل هؤلاء الأفاضل من العلماء؟ إنه ليس إلا قمّصا لا غير، لم يصل إلى أن يكون أسقفا أو كاردينالا، وبالطبع لم يصل إلى كرسي البابوية، فما باله يتحدى شيخ الأزهر وعلماءه؟ وهل يرضى الأخوة المسيحيون أن يخرج علينا واحد من أئمة المساجد مثلا ليتحدى قداسة البابا شنودة وأساقفة الدين المسيحي؟
وعلى أية حال، إنني أقول لجناب القُمّص، إنني قبلت التحدي وسوف أتصدى له، وأنا مجرد واحد من ملايين المسلمين. وقد يقول إنني مجرد فرد لا شأن لي، وقد يقول إنني لا أمثل المسلمين فلا يحق لي أن أتكلم باسمهم. وأحب أن أطمئنه أنني لا أتكلم باسم أحد ولا نيابة عن أحد، وإنما أنا مجرد إنسان مسلم أتاه الله عقلا يستطيع أن يستخدمه في التفكير، ولذلك سوف أتولى تحليل العقائد المسيحية التي قدمها لنا جناب القُمّص، وسوف أبين له وللناس كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، أين هي مواطن الخلل في المنطق الذي استعمله جناب القُمّص. وإنني أرجو من جناب القُمّص، ومن حضرات المشاهدين، المسلمين منهم والمسيحيين، وأيضا من أولئك المسلمين الذين خدعهم المنطق المغلوط الذي قدمه جناب القُمّص، فتركوا الإسلام وقبلوا المسيحية، إنني أرجو منهم جميعا أن يتفكروا فيما أقدمه، ويسمعوا ما أقدمه بأذن ناقدة، ثم يردوا عليّ إن كانوا يستطيعون الرد، فإن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فكل ما أرجوه هو معاودة التفكير، وعدم الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وكما يقول المثل: من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة، أو إذا كان من الممكن استعارة كلمات السيد المسيح التي يقول فيها في إنجيل متّى (3:7):
“لا تدينوا كي لا تُدانوا، لأنكم تُدانون بالدينونة التي بها تدينون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك. يا مرائي، أخرج أولا الخشبة التي في عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك“.
لا شك أن كل مسلم يحترم المسيح u، ويحترم دين المسيح الذي أنزله الله تعالى عليه. ورغم أن المسلمين على قناعة بأن دين المسيح قد أصابه التحريف، وأن الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على المسيح قد ضاع ولم يبق منه إلا آثار من أقوال جمعها بعض الناس في كتب اعتبرتها الكنيسة أناجيل معتمدة، رغم كل ذلك فإن المسلمين يحترمون ما يريد النصارى أن يؤمنوا به، ومن أراد أن يعبد إلها من ثلاثة أقانيم فهو حر، ومن أراد أن يعبد بقرة بثلاثة أرجل فهو حر أيضا، ولكن إذا تطاولتَ على ديني، فإنك تعطيني الحق أن أعاملك بالمثل، لأنك أنت الذي بدأت بالعدوان، فأصبح من حقي أن أدافع. وعفوا يا جناب القُمّص، فلن أستطيع أن أدير لك الخد الآخر هذه المرة، ولن أكيل لك الصاع صاعين، بل سأكيله صاعات وصاعات، وكما يقول المثل: على نفسها جنت براقش.
إن المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص تقوم على الكثير من المغالطات المنطقية:
أولا: تحريف تفسير بعض الفقرات في الكتاب المقدس لاستخراج معان معينة لم تأت في النص. فمثلا، إذا افترضنا أن كاتبا كان يكتب أقصوصة أو بعث إلى أحد أصحابه برسالة وكتب فيها يصف أن رجلا من أهل الريف أخذ ابنته وذهب إلى السوق واشترى أشياء وحملها هو وابنته إلى المنْزل فكتب يقول: “وقال الأب لابنته أم الخير: احملي البصل، فلما حملته ووصلا إلى الحظيرة قال لها ضعي البصل”. ثم نفترض أن مثل هذه القصة أو الرسالة، لسبب أو لآخر، أصبحت جزءا من كتاب مقدس يؤمن به جناب القُمّص، وأراد أن يفسرها ليحقق بها غرضا معينا، نراه يستعمل منطقا غريبا في تفسيرها فيقول: إن الرجل يعني الله لأنه الأب، وابنته أم الخير هي مريم لأنها أم يسوع، ويسوع هو مصدر كل الخير في العالم، ولما قال لها احملي البصل، كان يقصد أن تحمل بالكلمة، أي تحمل يسوع في رحمها، لأن البصل جسم حي يرمز لجسد يسوع الحي، وأيضا البصل طعام فهو يعطي حياة، وكذلك قال يسوع إنه الطريق والحياة، ومن هنا كان البصل رمزا ليسوع، وقد وضعت البصل في الحظيرة، أي أنها ولدت يسوع في حظيرة.
قد يستغرب المشاهد من هذا المنطق، وقد يظن أنني أبالغ في وصف المنطق الذي استعمله القُمّص زكريا بطرس، ولكن هذا هو ما حدث بالضبط، وسوف أبين للمشاهد صدق كلامي عندما أتناول ما قاله وما قدمه جناب القُمّص.
وقد يعترض أحد فيقول إن الكتب المقدسة لا يمكن أن تحتوي على حكايات أو حواديت من صنف حدوتة “أم الخير”، ولكن المشاهد سوف يندهش عندما أقدم له الحواديت والكلمات المكتوبة في بعض الخطابات التي يتصور القُمّص أنها وحي مقدس. وعلى سبيل المثال، فليقرأ المشاهد الجزء الأخير من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس حيث يقول فيها:
“سلم على فرسكا وأكيلا وبيت (فلان الفلاني) أُنيسيفورُس، (فلان) أراستُس بقي في كورِنثوس، وأما (فلان) تُروفيمُس فتركته في (البلد الفلانية) ميليتُس مريضا. بادر أن تجيء قبل الشتاء. يسلم عليك (فلان وفلان وعلان وترتان) أفْبولُس وبوديس ولينُس وكلافَدِيَّة، والإخوة جميعا” (2تي19:4)
فهل يمكن أن يتصوّر عاقل أن هذا الكلام من وحي الله تعالى؟ ومع ذلك فإن بعض الناس يعتبرونه وحيا مقدسا، ولا يستبعد على مثل هؤلاء أن يعتبروا حدوتة مثل حدوتة “أم الخير” وحيا مقدسا أيضا.
ثانيا: المغالطة المنطقية الأخرى التي تقوم عليها المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص زكريا بطرس هي تقديم أفكار صحيحة تبدو أنها منطقية، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ويخرج منها في النهاية بقاعدة تبدو أنها صحيحة، لأنها مبنية على الأفكار الصحيحة التي قدمها، ولكنها خاطئة لأن أساسها خاطئ، ومع ذلك فإنه يبني على تلك القواعد عقائد في غاية الأهمية. وقد يكون من الصعب الآن تقديم مثال على هذه المغالطات نظرا لأنها تحتاج إلى شرح طويل، ولكني أعد المشاهد أنه سوف يرى بنفسه حجم المغالطات التي يقدمها جناب القُمّص، وسوف يلمس بنفسه الخلل الذي يقوم عليه منطقه، وما أقامه عليه من عقائد.
ثالثا: المغالطة الثالثة التي يستعملها جناب القُمّص أنه يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز، حتى إن الحقيقة عنده تكون أحيانا مجازا، وفي كثير من الأحيان يعتبر أن المجاز حقيقة. وقد اتبع جناب القُمّص هذه المغالطات بكثرة عند كلامه عن موضوع ما ظن أنه تجسّد السيد المسيح.
رابعا: إنه كثيرا ما يتعمد تزوير النص وتحريفه لكي يستخدمه في إثبات وجهة نظر معينة، فمثلا يذكر للقارئ أن في القرآن المجيد آية تقول: “الرحمن على الكرسي استوى”، ثم يفسر كلمة استوى على أنها تعني القعود على الكرسي، ثم يطلق لسخريته العنان في الاستهزاء بمن يؤمن بأن الله يقعد على الكرسي، وما إذا كان له مقعدة يقعد بها على الكرسي، إلى آخر ما شابه ذلك من أساليبه السفيهة. مع أن الآية القرآنية هي (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، والاستواء لا يعني القعود على كرسي بمقعدة. وبهذا يتبين أن جناب القُمّص لا يستعمل عقله كثيرا في التفكير، ولا يسمو فكره ليصل إلى مستوى رأسه، إذ ينحدر مستوى تفكيره أحيانا حتى يصل إلى مستوى المقعدة.
خامسا: كثيرا ما يتهم جناب القُمّص المشاهدين المسلمين أنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا فإنهم لا يفهمون، وإذا فهموا فإنهم لا يقبلون الحقائق التي يقدمها، وهي بالطبع ليست حقائق، وإنما هي أكاذيب وأغاليط سوف نكشف عنها له وللمشاهد.
سادسا: جناب القُمّص، ومن يستخرجون له المواد التي يستعملها، لديهم ولع شديد باستخراج بعض التفاسير التي تتفق مع مفاهيمهم المغلوطة، ثم يتولى جناب القُمّص تقديمها على أنها المعنى الوحيد الذي يجمع عليه كل المفسرين وكل المسلمين. وهو بذلك يخدع المشاهد لأنه يوحي إليه بشيء يغاير الحقيقة، ولا يقول له إن رأي المفسرين ليس هو رأي القرآن، وإنما المفسرين اجتهدوا، منهم من أصاب ومنهم من أخطأ، فمن أصاب له أجران ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد، ولكن كلام المفسرين ليس ملزما للمسلمين. وهنا يختلف المسلمون عن النصارى، وخاصة أتباع المذهب الأرثوذوكسي والكاثوليكي، حيث يتحتم على الجمهور المسيحي قبول تفاسير البابوات وتفاسير المفسرين. ولكن الإسلام لا يُلزم المسلمين بمثل هذا المبدأ أبدا.
وأخيرا، أقول عن حديث الإفك الذي قدمه لنا القُمّص زكريا بطرس ما قاله القرآن المجيد عن حديث الإفك الذي أذاعه بعض الموتورين من المنافقين، حيث قال تعالى عنه (لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ). إن جناب القُمّص أتاح لنا فرصة عظيمة لكشف ألاعيب المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها، كما أنه أتاح أيضا فرصة عظيمة للكثير من المسلمين الذين كانوا تحت تأثير فهم خاطئ لبعض الأمور في التراث الإسلامي أن يصححوا مفاهيمهم. وأيضا أتاح فرصة عظيمة للمسلمين أن يتّحدوا للدفاع عن دينهم وشرف نبيهم ﷺ وكرامة الكتاب المجيد الذي يؤمنون به.
أيها المسلمون في كل مكان! لقد دق ناقوس الجهاد من أجل نصرة الدين، ليس بالسيف ولا بالسنان، ولا بالعنف والإرهاب، ولا بالتكفير والتفجير، ولكن بالمنطق وباللسان، تماما كما فعل جناب القُمّص، الذي كثيرا ما كانت جراحات لسانه أشد وطأة وأكثر خطرا من جراحات السيف والسنان. إنني أدعو المسلمين جميعا أن يهبوا لهذا الجهاد المجيد، وليطرحوا خلافاتهم جانبا، وليتناسوا ولو مؤقتا، ما يفصلهم عن بعضهم البعض، وليتخلوا عن أساليب التكفير لبعضهم البعض، ولنتحد جميعا لمواجهة هذا الخطر الجديد، الذي كشّر عن أنيابه، وكشف عن مخالبه، وظن أن الإسلام والمسلمين قد صاروا لقمة سائغة يمكن أن يلوكها أو يتلمّظ بها. وندعو الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يوحّد كلمتهم، وأن يكفيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأن ينصرهم نصرا عزيزا على كل من تسوّل له نفسه أن ينال من شرف سيدهم وحبيبهم رسول الله ﷺ، أو يدنس طهارة وقدسية كتابهم العزيز، أو يحط من شأن دينهم الكريم الذي ارتضاه الله لهم. وفقنا الله، ووفق الله المسلمين في عمل كل ما فيه رضاه، ونصرهم سبحانه على أعدائهم وأعداء الدين. آمين.
نقلها الأستاذ فراس علي عبد الواحد