يشدد الإسلام على الشهادة بالحقِّ، ويضع لها ضوابط محكمة، بل ويضع عقوبة على شهادة الزور، ويأمر بعدم الأخذ بشهادة من تورط فيها مرة، إلا إذا تيقنَّا أنه تاب وأصلح من بعد.
والشهادة في الإسلام لا تجوز إلا في المدرَك والمحسوس والملموس؛ أي يجب أن يشهد الشاهد بما رأى بعينه وسمع بأذنه أو بما أدركته حواسه الأخرى قطعا ويقينا. ولا يُكتفى بذلك، بل إذا لم تأت الشهادة وفقا لشروطها الأخرى، حتى وإن كانت شهادة إدراك حسِّي، فإنها تُسقَط، ويصبح صاحبها عرضة للعقوبة مثله تماما مثل شاهد الزور.
ولتوضيح المسألة نضرب مثال جريمة الزنا، فقد أوجب القرآن الكريم لثبوتها أن يشهد أربعة شهداء بأن فعل الزنا قد تم بالفعل، ولم يكن مجرد مقدمات. ولو توفر ثلاثة شهداء وفشلوا في العثور على شاهد رابع، فإنهم لو تقدموا بشهادتهم فسيعدُّون تماما كالذين يقذفون المحصنات زورا وبهتانا، وتكون عقوبتهم العقوبة نفسها، وهي الجلد ثمانين جلدة. فمع أنهم لم يفتروا ولم يكذبوا، إلا أن عدم توفر شروط الشهادة يُعدُّ جريمة كافية يستحقون عليها العقاب، بل يعاقبهم الشرع بألا تقبل لهم شهادة من بعد ذلك أبدا. وهذا لأن الإسلام يحارب الإفك والافتراء حربا بلا هوادة، ويعدُّ اتهام الشرفاء جريمة عظيمة وإن رآها البعض هينة، إذ يقول تعالى:
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } (النور 16)
لذلك، فلو حكم أحدٌ على أحد بأنه زان أو متورط في أي جريمة أخرى، وذلك بناء على استنتاجات وقرائن عقلية، أو ملابسات ظرفية يبدو أنها ترتبط ببعضها، ولم تكن هذه الشهادة مبنية على إدراك حسي يقيني، ولم تكن وفقا للشروط الأخرى لها، فإنه سيعد كاذبا وشاهد زور، ويجب أن يعاقب على ذلك، بل ويجب ألا تؤخذ بشهادته مطلقا بعد ذلك.
وهنا ينبغي الالتفات إلى أن الشهادة الحقُّ تتعلق بفعل أو جرم مشهود ملموس مدرَك بعد توفر الشروط، ولا علاقة لها بالإيمان بمبعوث سماوي ولا بتكذيبه، كما يتوهم البعض أو يحاولون إيهام الآخرين، لأن الإيمان بالأنبياء هو غيب وليس من المدرك الملموس. فبناء على القرائن العقلية والأدلة يمكن أن يتوصل الإنسان إلى مرحلة من اليقين يستطيع القول فيها “لا بد أن يكون صادقا”، وهذه المرحلة من العلم هي مرحلة علم اليقين، ولكنها مرحلة متدنية من اليقين، إذ يلزم أن يتقدم في اليقين ليصل إلى القول “إنه صادق فعلا”، ولكن هذا لا يمكن الوصول إليه بالقرائن العقلية، بل هي حالة قلبية يجلِّيها الله تعالى في قلب الإنسان بعد أن يرى إخلاصه وتشبثه بأهدابه تعالى داعيا ومتضرعا باستمرار، فيدرك بقلبه الإيمان إدراكا قويا لا علاقة له بالحواس المادية والاستنتاجات العقلية بعد أن يقذفه الله فيه. فعند ذلك ينتقل الإنسان من علم اليقين في إيمانه إلى عين اليقين. ثم بعدما يتقدمْ في الإيمان يرَ الثمرات ويتذوقها والتي تتمثل في الخوارق، فيدخل مرحلة حق اليقين التي تستولي على كيانه، وتكون أوثق وأقوى بكثير من إدراكه بالحواس.
وباختصار، فإن مجرد التصديق إنما ينشأ بغلبة الظن، ولا يُعتبر حالة ملموسة مطلقا، بل لم يسمِّها القرآن الكريم أحيانا إيمانا، باعتبار أن الإيمان إنما هو ما يدخله الله في قلب الإنسان في مرحلة عين اليقين فصاعدا، إذ يقول تعالى:
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (الحجرات 15)
لذلك فإن على المؤمن الذي يصدِّق الأنبياء أن يدرك أن أمامه جهادًا كبيرًا ليصل إلى عين اليقين فحق اليقين، وإلا فإنه سيكون في المرحلة الأولى من علم اليقين عرضه لهجوم الشبهات التي قد تعصف بإيمانه وتقذفه إلى الكفر والتكذيب. لذلك نبَّه الله تعالى إلى ضرورة الدعاء في هذه الحالة، بعد أن أمر بأن يتمسك الإنسان بالمحكمات ويترك المتشابهات، أن يدعو بألا يزيغ اللهُ قلبَه بعد إذ هداه، إذ يقول تعالى:
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } (آل عمران 9)
فإذا كان القرآن الكريم ينهى عن ادعاء الإيمان الحقيقي ما دام الإنسان ما زال في مرحلة التصديق المبني على رؤية بعض الأدلة والقرائن أو الرضا بها، ويقول إنكم يمكن أن تقولوا أنكم أسلمتم ولكن لا تقولوا إنكم آمنتم حقا، لأن الإيمان الحقيقي لن يدخل قلوبكم إلا بالخضوع لله تعالى والمجاهدة بطاعة الله ورسوله، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للإيمان، فمن باب أولى أن الذي يكذِّب بناء على ما يظنه أدلة وقرائن واستنتاجات عقلية فإن استنتاجه هذا لا علاقة له باليقين ولا بالإدراك الحسي ولا القلبي، وبالتالي فإنه لو تجرأ على الشهادة بكذب النبي أو المبعوث ليست سوى شهادة زور يستحق عليها العقوبة من الله تعالى. وهذا من أهم الأسباب التي جعلت تكذيب الأنبياء جريمة، لأنها في الواقع شهادة زور لا علاقة لها باليقين. فكيف إذا رافق هذا التكذيب جرائم القذف والشتم والتشنيع والتحريض والعدوان، فهذا يجعل جريمة المكذبين مضاعفة.
والواقع إنه لا يتجرأ على التكذيب إلا الأشرار أصحاب القلوب السوداء، أما الأتقياء فلا يتجرأون عليه، بل يتوقفون، ولا يقذفون أحدا بالكذب ويشهدون عليه بناء على شبهات واهية وروابط عجيبة منشؤها سوء الظن. وهذا لا يعني أنهم يصدقون كل صاحب دعوى، بل لا يهتمون مطلقا بالدعاوى الكاذبة وأصحابها ويتركونهم غير مبالين بهم، لأنهم يرون أن الله تعالى كفيل بالقضاء على الكذب، ولكنهم يخافون كثيرا من تكذيب الصادقين واحتمال أن يكون صاحب الدعوى صادقا، لذلك يبذلون جهدهم في البحث عن شيء من دلائل صدقه. وهذه الحالة قد لخصَّها مؤمن فرعون الذي قال الله تعالى على لسانه:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر 29)
ويتضح من قوله: ” يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ” أن المؤمنين يدركون أن هنالك أمورا ربما لن يتمكنوا من فهمها أو رؤيتها، ويكفي فقط رؤية بعض الدلائل والآيات لا كلها. ولكن لا ينبغي أن نبحث عن كذب المدعي أو أن نحاول إثباته بظنوننا وشبهاتنا، لأنه لو كان كاذبا حقا فكذبه سيرتد عليه وسيتكفل الله تعالى بدماره، لأنه تعالى لا يهدي المسرفين الكاذبين. وفي الواقع هذه إشارة إلى أن مسلك الكافرين باستمرار هو البحث عن كذب المدعين المزعوم، الذي لا يتورعون عن إعلانه وكأنه يقين مطلق، ليرفضوهم وليشنعوا عليهم. وهو مسلك خاطئ أدانه القرآن الكريم ولم يسوِّغه مطلقا.
وهكذا ثبت بطلان ادعاء بعض المعترضين أنه من الواجب عليهم تكذيب مؤسس الجماعة وتكذيب الجماعة بناء على ما رأوه من شبهات، لأن هذه شهادة حق – في رأيهم – وكتمانها شهادة زور! بل يتضح أنهم بتكذيبهم هم وتجرُّئهم على الشهادة القاطعة بكذب مؤسس الجماعة عليه السلام وأصحابه بل والجماعة على مدار تاريخها قد وقعوا في شهادة الزور التي سيؤاخذون عليها عند الله تعالى. فهل أدركوا هذا الكذب يقينا وعلموا علما قطعيا يقينيا بأن مؤسس الجماعة كاذب هو وأصحابه؟ وهل هذا بمقدورهم، والله تعالى بنفسه قد جعل الإيمان بالأنبياء غيب وليست مسألة حسية أو مسألة رياضية؟ هل ما يتجرأون عليه هو الحق أم هي مجرد استنتاجات بناء على ظنون تكشف عما في نفوسهم من انحراف وسوء ظن؟ وهل يمكن لمتقٍ أن يتجرأ على شهادة كهذه؟
الواقع أن هؤلاء، وخاصة من كان قد آمن منهم ثم ارتد، لم يؤمنوا أول مرة إلا إيمانا تصديقيا بدائيا بناء على الأدلة والقرائن، ثم فشلوا في أن يتقدموا في الإيمان بسبب أنهم لم يسعوا لتزكية أنفسهم، فصرعتهم الشبهات وأوصلتهم إلى هذا الحضيض. فكان ينبغي على النبلاء أن يتركوا الجماعة بهدوء، بعد أن خسروا إيمانهم، لا أن يدافعوا عن أنفسهم وموقفهم الجديد الذي يشعرون معه بالخزي بهذه الطريقة، ويسعوا لتبرير سنوات إيمانهم وانضمامهم إلى الجماعة بادعائهم الكاذب أنهم كانوا مخدوعين، وأصبح واجبا أن ينقذوا غيرهم من الخداع! والواقع أنهم بموقفهم هذا لم يحفظوا أنفسهم من الخزي، لأن الذي تعرض للخداع سنوات طويلة لا يوثق بعقله ولا بإيمانه، فما الذي يضمن أنه الآن قد اهتدى إلى الصراط المستقيم؟ ولكن على ما يبدو أن الله تعالى يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم، ويقيم الحجة عليهم في الدنيا، ويطلع الناس على حقيقتهم.
ومع أن الغرق في الشبهات وترك المحكمات يجعل المرء يعيش في دوامة من الشكوك والظنون الساحقة، وهو مخالف لتعليم القرآن الكريم الذي يأمر بالأخذ بالمحكمات وتفويض الشبهات إذا لم يتمكن الإنسان من توفيقها مع المحكمات، إلا أنه كان يمكن لهؤلاء أن يستفسروا عن هذه الشبهات، حتى بعد ارتدادهم عن الجماعة، بل كان يمكن أن يعرضوها ويطلبوا الإجابة عليها بأسلوب حضاري كريم لا اتهام فيه ولا إساءة. ولكن المسألة في حقيقتها بالنسبة لهم ليست شهادة حق ولا بحثا عن الحق كما يدعون، ولكنها ليست سوى دفاع غير موفق مبعثه الحقد والضغائن التي أصبحت الشبهات وقودها ليس إلا. وإلا فلا مبرر لهذا الهيجان الذي هم فيه.
وهكذا فإن الادعاء بأنه من الواجب تكذيب الجماعة ومؤسسها والهجوم عليها بالتشنيع والتحريض إنما هو شهادة حق، وعدم القيام بها شهادة زور، هو مبدأ مغلوط من أساسه. بل إن هذا الموقف الذي يتخذه المعارضون هو شهادة الزور بعينها؛ إذ لو ثبت لهم ببعض القرائن والدلائل العقلية كذب الجماعة جدلا فلا ينبغي أن يتجاوزوا في تكذيبهم إعلان أنه قد ثبت لهم بغلبة الظن أن الجماعة ليست على الحق، لأن هذا ما هو بمقدورهم. أما الإصرار الادعاء بكذب مؤسس الجماعة والصحابة والجماعة على مدار تاريخها، وتجاوز كل الحدود في الاتهام والإساءة، إنما هو جريمة تستوجب العقاب عند الله تعالى، أدناها شهادة الزور، ثم فوقها ما يرتبط بها من ظلم وكذب وإساءة وخيانة.