يبين القرآن الكريم في أوائل قصصه أنه بمجرد أن أعلن الله تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } (البقرة 31) حتى تألَّب الشيطان ورفض الخضوع لهذا الخليفة، وبدأ مكايده محاولا أن يصدَّ الناس عن هذه الخلافة ويسعى لإفشال مسيرتها. ولكن الله تعالى، رغم أنه قد أتاح له أن يقوم بهذه المكايد، إلا أنه تكفَّل بحماية عبادة المخلصين منها، وأعلن أن نتيجة عمله ستكون الفشل الذريع والطرد بالخزي والعار آخذا معه أولياءه من الغاوين أصلا الذين سيتبعونه ويطيعون نداءه، وبذلك سيتحقق الغرض الحقيقي من وجود هذا الشيطان، ألا وهو تنقية جماعة المؤمنين من هؤلاء وتمييز الخبيث من الطيب، لكي تبقى الجماعة طاهرة نقية ناصعا طيبها لافظة خبثها.
وعندما أقام الله تعالى الخلافة الراشدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تألب الشيطان تحقيقا لنبوءة القرآن الكريم، وقرر المرتدون من المنافقين أن يشنوا حربا لا هوادة فيها، هدفهم الوحيد فيها هو مقام الخلافة، وكانوا مستعدين للتنازل عن عدوانهم العسكري فيما لو تحقق غرضهم هذا والذي كان يتلخص في إقرار الخليفة بأنه لا ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء ولا يحق له أن يطالبهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطالبهم به من الحقوق والولاء والطاعة، ولكن ما كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يرضى بهذا، وقَبِل أن يواجه العدوان ويصدَّه موقنا بأن الله تعالى الذي أقامه هو ناصره كما كان ناصرا للنبي صلى الله عليه وسلم رغم الضعف والشدائد، وهذا ما كان بفضل الله تعالى.
وبعد هزيمة المرتدين عسكريا، استمروا في جهدهم للقضاء على الخلافة ومنصبها ومقامها بعد ذلك بكل وسيلة ممكنة، ولكنهم قد فشلوا في ذلك فشلا ذريعا، واستشهد عثمان رضي الله عنه مدافعا عن مقام الخلافة، مؤكدا أنه منصب يقيمه الله تعالى، ولا دخل للبشر في تعيين الخليفة ولا يحق لهم عزله، وإن كانوا يظنون أنهم هم من عينوه فهم واهمون، بل الواقع أن الله تعالى قد أقامه بهدايتهم لمعرفته، ولا دور حقيقيا لهم في ذلك. فلم يكن هدفهم قتل عثمان رضي الله عنه، بل كان هدفهم منصب الخلافة ومقامها الذي كان ولا يزال سببا لإثارة الشيطان وتألُّبه بسبب هذه العداوة الأزلية بينه وبين الخلافة. فلمَّا لم يستطيعوا ذلك ولم يعطهم عثمان ما رغبوا به، اضطروا لقتله ظانين أن طيَّ صفحة خلافته قد يفتح لهم مجالا للقضاء على الخلافة بوسائل أخرى.
ولكن مسيرة الخلافة استمرت بقوة بعد ذلك، وكان من العجيب أن اضطر المرتدون والمنافقون للاحتماء بالخلافة في عهد علي رضي الله عنه مؤقتا لإدراكهم أنه لا أمان لهم إلا بها وتحت مظلتها، ثم بعد سعيهم للقضاء عليها مجددا قدَّر الله تعالى أن ينصر الخلافة عليهم ويذيقهم على يد الخليفة علي رضي الله عنه ما يستحقون من عقوبة، ويقضي الله تعالى على فتنتهم على يده.
لذلك من الخطأ الظن أن المنافقين والمرتدين قد نجحوا في خطتهم في القضاء على الخلافة، ولكن الخلافة رُفعت لأن الله تعالى قدَّر مسبقا أن الخلافة الراشدة الأولى ستنشأ وتبقى فترة محددة من الزمن، ثم تتحول الخلافة إلى ملك عاض ثم ملك جبري قبل أن تعود مرة أخرى لتبقى خلافة دائمة. والواقع أن الحكم المتضمنة في هذا التقدير الإلهي عظيمة، ولكن لا مجال الآن للخوض فيها، والأهم هو أن رفْع الخلافة الراشدة لم يكن أمرا طارئا مفاجئا، أو لم يكن نتيجة جهد الشيطان وأعوانه من المرتدين والمنافقين، ولم يتحقق أي من أهدافهم على كل حال، إذ حافظ الخلفاء الراشدون الأوائل على مقام الخلافة وأرسوا أسسه بتضحيتهم بدمائهم وأرواحهم، وبناء على هذه الأسس عادت الخلافة مرة أخرى.
ثم بعد رفْع الخلافة الراشدة الأولى لم يتوقف الشيطان عن مساعيه لإبطال الخلافة وتقويض أسسها، وبدأ باتهام الخلافة الراشدة بأنها خانت وغدرت ونقضت وصية النبي صلى الله عليه وسلم ثم حرَّفت القرآن الكريم وزيفته وحرَّفت تعاليم الإسلام وحذفت وأضافت على هواها! وقام الشيطان وأعوانه بإنشاء مذهب كامل يقوم على هذه الفكرة التي لا مرجع لها إلا سوء الظن. بل العجيب أن الأدلة التي وضعها الله تعالى لصدق الخلافة ولتطهير المؤمنين من شبهات الشيطان وأعوانه هي نفسها يقدمها الشيطان دليلا معاكسا. فمثلا قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (التوبة 40) الذي جعله الله دليلا وشهادة على مقام أبي بكر الصديق العظيم يقدِّمه الشيطان على أنه دليل على أنه كان منافقا خائفا مما قام به وسيقوم به من أفعال! وأصبحت سورة النور التي أنزلها الله تعالى لتبرئه السيدة عائشة من إفك المنافقين دليلا عندهم والعياذ بالله على تورطها في الفاحشة! وهكذا دواليك. فأصبحوا يحترفون التزييف وتحريف الكلم عن مواضعه ليقلبوا الحق باطلا والباطل حقا. والواقع أن مجرد تحلِّي الإنسان بشيء من التقوى وإحسان الظن سيسقط كل شبهاتهم وأقوالهم، ولا يمكن أن يرتضي أحد بهذه التحريفات ويطمئن بها إلا من فسد قلبه وتشوَّه ضميره وتخلى عن كل فضيلة ونبل وميزة إنسانية حسنة.
وعلى كل حال، فإن هذا العمل الذي يقوم به الشيطان، وهذه العداوة المستحكمة بينه وبين الخلافة مستمرة إلى يوم يبعثون كما قال الله تعالى، ولا عجب أن يخرج أعداء الخلافة من المنافقين والمرتدين في كل وقت بنفس الأساليب ونفس التوجه، ولكن عملهم لن يضر المؤمنين شيئا، بل سيخلصهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وتكون سببا لإظهار نصرة الله لعباده المؤمنين وتأييده لهم. لذلك ليس عجيبا أن يحاول الشيطان الهجوم على الخلافة مرة بعد أخرى، فهذا عمله الذي خُلق من أجله، ولكن النتيجة الحتمية هي فشله الذريع وخزيه، ولكن الحسرة على الذين في قلوبهم مرض لم يسعوا ليتخلصوا منه فوقعوا في مصيدة الشيطان وطردوا معه من جماعة المؤمنين. هؤلاء لو كان فيهم خير لما ضيَّعهم الله تعالى، ولكن المصير الذي يؤولون إليه مؤسف بلا شك، والمواساة التي تفيض من قلوب المؤمنين لإنقاذهم لا تعني أن المؤمنين يخشون الشيطان أو مكايده، بل هم يدركون تماما أن الشيطان رجيم مطرود فاشل سيبوء بالخزي الأبدي في الدنيا وسيقذف في الجحيم وفي عذاب الخزي الأليم في الآخرة.