لم يجعل الله تعالى الحق والهدى محتاجا لكثير من الشروح والتعليلات والتفاصيل أو يتطلَّب دراسات معمَّقة يحتاج الشخص فيها أن يدرس آلاف الصفحات ومئات الكتب لكي يعرف أنه الحق. بل سُنَّة الله تعالى أن يبعث نبيا أو مبعوثا موافقا لحاجة العصر والوقت بدعوى تقوم على أركان بسيطة ولكنها قوية واضحة، وهو أنه قد جاء لإرساء التوحيد وفقا للنبوءات لإيصال الناس إلى الله تعالى وإنشاء العلاقة معه. ثم بعد ذلك يُظهر الله تعالى آيات نصرته لهذا المبعوث رغم قوى المعارضة ورياحها العاتية، فتتحطم موجات هذه المعارضة وتتلاشى بينما تزداد دعوته قوة ويقيمها الله إلى الأمد الذي قدَّره الله تعالى لها.
وإضافة إلى ذلك، ودفعا للشك والريبة، فمن عجائب قدرة الله الواضحة هو أن الله تعالى لا يترك من ينافس هذا المبعوث الصادق ويدَّعي دعوة مماثلة مستغلا الوقت والظروف فيتشوش الناس ولا يعرفون من الذي على الحق! بل لو ظهر شخص كاذب كهذا فسرعان ما يقضي عليه الله ويندثر وتندثر جماعته ويبقى الصادق وتبقى جماعته آية جلية للمتقين ذوي الفطرة السعيدة الطيبة.
وتأكيدا على بساطة دعوة الأنبياء مع قوتها ورسوخها نجد أن القرآن الكريم قد ذكر أن دعوى الأنبياء لم تكن إلا : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهي التي تكررت على لسان الأنبياء ووردت في سور الأعراف وهود والمؤمنون، ولم يقل لهم كل نبي إلا أنني داعٍ إلى الله تعالى على سُنَّة من قبلي، وأنكم رأيتم بأنفسكم أن الذين جاءوا بمثل ما جئت به من قبل قد نصرهم الله تعالى وقضى على معارضيهم وأعدائهم أخيرا. ولم يقل لهم أحد إنني قد جئتكم بتفاصيل كثيرة وكتب لا بد أن تدرسوها بكل جزئياتها، ولا بد أن تتحققوا منها، ولن تعرفوا أنني صادق إلا إذا تتبعتم كل صغيرة وكبيرة في حياتي وكل كلمة قلتها أو سأقولها، فإذا وجدتم كلَّ شيء واضحا ومفهوما لكم فعند ذلك اقبلوني، وإلا فلا!
ولهذا فقد كان مجرد الإطار العام لدعوة موسى عليه السلام حجة كافية لمؤمن فرعون الذي قال:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر 29)
وملخَّص قوله هو أن موسى يدعو إلى الله تعالى، وجاء بالبينات والآيات التي منها انطباق النبوءات عليه ومنها ما جاء به بنفسه، ورأيتم وسترون أن بعضها سيتحقق وتشهدونه وبعضها لن تشهدوه؛ إما لأنه متعلق بالمستقبل أو لاختلاف رؤيتكم حوله، وعليكم ألا تقلقوا وتتشككوا لأن الله تعالى لن يهديه بمعنى أنه لن ينجح مساعيه وسيتكفل به وسيقضي عليه لو كان كذَّابا. وهذا في الواقع هو المنهج السليم والفكر الإيجابي الذي تتحلى به النفوس والطبائع السعيدة، التي تستطيع أن تميز الخبيث من الطيب، والتي لديها الثقة المطلقة بالله تعالى الذي لا يمكن أن يهدي الكاذبين ولا أن ينجح مساعيهم ويهديهم.
والواقع أن سُنَّة الله تعالى تؤكد أنه لم يحدث مطلقا أن ادعى أحد النبوة كذبا وأفلح، بل أخزى الله تعالى المفترين واجتثهم وقضى عليهم. وهذه السنة قد ذكرها الله تعالى مرارا في القرآن الكريم كما في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (الأَنعام 22). أما انحراف الأتباع بعد الأنبياء الصادقين فهو أمر آخر مقدَّر، بل هو أحد أهم ذرائع بعثة الأنبياء اللاحقين، فعندما يتعاظم الانحراف سواء بتطاول الأمد أو بفعل بعض الدجالين من الأتباع فهذا كان يستدعي بعثة مبعوث صادق، ولم يترك الله تعالى هذا لاجتهاد الناس ولجهدهم الخاص؛ علما أن دعوى مقاومة الدجل والكذب هي دعوى المعارضين الذين لم يفوضهم الله بهذا بل تكفَّل به بنفسه.
ووفقا لما ذكرنا، فإن بعثة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام ودعواه إنما قد جاءت مطابقة تماما لسنَّة الأنبياء والمبعوثين. فقد جاء داعيا إلى الله تعالى، في وقت فساد المسلمين وانحرافهم، مطابقا لحاجة العصر ووفقا للأنباء، وأظهر الله تعالى على يديه الآيات، ونصره وقضى على معارضيه في كل زمان وأصبحوا أحاديث ومزَّقهم كل ممزَّق، وتمتع أتباعه بالصلة بالله تعالى وبتحقق الوعود فيهم ورأوا ما وعدهم ربهم حقا. وكل من سوَّلت له نفسه أن يدعي دعوة مماثلة مستغلا الوقت فقد اجتثه الله تعالى وقضى عليه وعلى جماعته، ولا يوجد أثر الآن لأي جماعة أخرى تدعي أنها جماعة الإمام المهدي المبعوث والمسيح الموعود الذي جاء وفقا للأنباء، إلا اللّهم بعض الدعوات الهامشية الفاشلة، مما لا يجدر الالتفات إليه ومما من العبث ذكره أو مقارنته بها.
أما معارضو الجماعة، فهم يسيرون وفقا لسنة معارضي الأنبياء في كل زمان، والذين يُعرضون عن هذه الأسس القوية الواضحة ولا يجدون مفرًّا أمام أن الجماعة جاءت وفقا للأنباء موافقة للزمان وحاجة العصر متفرِّدة لا تنافسها جماعة أخرى في دعواها، ويحاولون تتبع تفاصيل يجتزئونها من سياقاتها ويحرِّفونها عن مواضعها ويحاولون بها تشتيت الناس وتتويههم، ويصرَّون على أن الحقَّ لا يُعرف إلا بمعرفة هذه التفاصيل المحرَّفة المشوَّهة، ويأتون باقتباسات مطوَّلة موهمين الناس أنهم يعودون للنصوص ويقدمونها، مع أنهم يُغفلون عمدا في كثير من الأحيان أن هنالك نصوصا قبلها ونصوصا بعدها تتحدث عن ذات القضية. فالتحريف لا يقتصر على تغيير الكلمات والنصوص، بل هنالك ذكر أمر في غير سياقه وعلى غير حقيقته وفي غير موضعه وإن كان النص سليما، وهذه هي لعبتهم ومنهجهم.
أقول أخيرا إن سياسة معارضي الجماعة ومنهجهم إنما هي سياسة معارضي الأنبياء على مرَّ الأزمان والذين يتركون الأسس الراسخة القوية والمحكمات البينات الواضحات ويلجأون إلى المتشابهات ويحرِّفونها محاولين تشويه سيرة النبي أو المبعوث وإثبات كذبه في هذه التفاصيل ليقولوا للناس إنه لو كذب في هذه المسألة أو لو كانت هذه أخلاقه فلا حاجة للنظر في دعواه كلِّها، وهذا المنهج المعروف هو المنهج الذي نهى مؤمن فرعون قومه عنه بقوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} (غافر 29) أي لا تحاولوا البحث عن أكاذيب تزعمونها له، ولا تحاولوا الادعاء بأنه مسرف يرتكب السيئات، فلو كان مسرفا كاذبا فإن كذبه وإسرافه سيرتد عليه وسيتكفَّل الله به، ولكن عليكم ألا تعرضوا عن دلائل صدقه وإنذاراته التي سيصيبكم بعضها فيما لو أعرضتم.
ولكن ما يجدر الالتفات إليه هو أن سياسة محاولة تشتيت الناس بالتفاصيل لم تفلح مع الناس ولم تكن سندا متينا لهؤلاء المعارضين بل أصبحت سببا لمزيد من انحرافهم وضياعهم. فهذا الأسلوب دفع هؤلاء المعارضين للفرار من البينات الواضحات والنبوءات والعلامات مما جعلهم يحاولون إنكارها إنكارها وإنكار الوقت والحاجة أو التسويف والزئبقية؛ لأنهم يعرفون أن هذه الأنباء وانطباقها وحلول الوقت والزمان لهذه البعثة سيفا مسلطا على رؤوسهم. وهذا المسلك يقودهم يوما فيوما إلى الإلحاد؛ إذ كفروا بأنباء الله تعالى وجعلوها وراءهم ظهريا وكفروا بقدرة الله تعالى على اجتثاث الكذب والكاذبين المسرفين في السيئات. فكانوا بذلك عبرة ودليلا متجددا على صدق المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام وجماعته. وهذه أولى منازل عذابهم وخزيهم لو كانوا يعلمون.