فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا
الطلاق هو أبغض الحلال عند الله، ولكنه ضروري جدا إذا أصبحت الحياة مستحيلة، وأصبحت مضار استمرار العلاقة الزوجية أكثر من نفعها. ولأنه في أوقات انفعال قد لا يرى كلا الزوجين محاسن كل منهما، فقد أتاحت الشريعة مجالا للتراجع عن هذا القرار ضمن حدود معقولة، كما اغلقت باب الضرر والتحايل في هذا المجال أيضا.
فيمكن للرجل أن يطلِّق المرأة، ولكن الواجب أن تبقى في بيتها فترة العدة، ويمكن له أن يراجعها خلالها دون عقد جديد، أو بعدها بعقد جديد. وخلال هذه الفترة – خاصة أنهما سيكونان تحت سقف واحد – سيعيدان النظر في شئونهما ويترويان ويستذكران ذكرياتهما الطيبة، فهذا يساعد على إصلاح العلاقة بينهما عندما يدركان أن الوقت قد أوشك ليكونا غريبيْن يسير كل منهما في طريقه. ولكن هذا متاح لمرتين فقط، وهي فرصة كافية لاستنفاد كل وسائل إصلاح العلاقة وتجديدها، أما إن طلقها ثالثة فهذا يدل على أن فرصة الإصلاح أصبحت شبه مستحيلة، فلا جدوى من المراجعة، وتكون قد بانت منه بينونة كبرى، وأصبح محرما عليه أن يرجعها.
أما تحريم المرأة على الرجل بعد الطلاق الثالث، فهذا ليدرك الرجل والمرأة أن الطلاق ليس لعبة، وأنه لا جدوى من علاقة فيها هذا القدر من الشقاق، بحيث وصلت الأمور إلى هذا الحد. ومن حسناته أيضا أنه يغلق الطريق على تحايل وضرر قد يقع على المرأة من زوج خبيث؛ بحيث يبقى يطلق ويراجع إلى ما لا نهاية ليضارَّ المرأة ويزعجها أو يبتزها.
وتبيح الشريعة أن ترجع الزوجة لزوجها الأول فيما لو تزوجت من رجل آخر ثم تطلقت أو مات زوجها، ومع أن هذا الاحتمال احتمال ضئيل إلا أنه قد وضع لحكم بالغة على رأسها إعادة الاعتبار إلى المرأة وإلى مؤسسة الزواج الشرعي التي شوهتها تعاليم الكتاب المقدس، التي تعدُّ زواجها ثانية من رجل آخر نجاسة!!
أما إذا أراد الزوجان التحايل على الشريعة، واتفقا أن تتزوج برجل آخر لفترة وجيزة ثم يطلقها لتعود إليه، فهذا التصرُّف لا يمت إلى الشريعة بصلة، وهو فعل نجس وتلاعب أغلقته الشريعة أيضا؛ فقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بأن كلا الرجلين اللذين يقومان بفعل كهذا ملعونان، إذ قال صلى الله عليه وسلم: {لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ} (رواه أبو داود وابن ماجة) ولا شك أن امراة ترتضي بهذا الفعل وتقترن بملعونيْن هي ملعونة أيضا.
ولا شك أن النفوس الزكية الطيبة تأنف من هذه الحيلة الخبيثة التي لا يقوم بها إلا ديوث ملعون من الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. فالمحلل أو “التيس المستعار” كما تسميه الشريعة، ليس من الشريعة في شيء، بل هو فعل مناف للشريعة بل وللمروءة والخلق السوي السليم.
أما لماذا قد وضعت الشريعة هذا الحكم، ولماذا أباحت الشريعة أن ترجع المرأة لزوجها الأول فيما لو تزوجت وتطلقت أو توفي زوجها، فمن أهم أسبابه هو تبيان أن الزواج بمطلقة أو أرملة في الإسلام ليس فعلا خبيثا نجسا كما يقدمه الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، بل إن الإسلام قد حض على الزواج بالأيامى واعتبر الزواج بهن مطهرا مباركا، ولم يعُدَّ زواج المرأة السابق نجاسة أو وصمة عار عليها. فلا ينبغي أن نغفل أن من أغراض أحكام القرآن الكريم هو إصلاح الفساد في الشرائع السابقة وللرد على أحكامها المشوهة والمحرفة والمسيئة.
فماذا يقول العهد القديم في هذا الشأن؟
{«إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا عَيْبَ شَيْءٍ، وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاَق وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ، 2وَمَتَى خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ ذَهَبَتْ وَصَارَتْ لِرَجُل آخَرَ، 3فَإِنْ أَبْغَضَهَا الرَّجُلُ الأَخِيرُ وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاَق وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ، أَوْ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ الأَخِيرُ الَّذِي اتَّخَذَهَا لَهُ زَوْجَةً، 4لاَ يَقْدِرُ زَوْجُهَا الأَوَّلُ الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يَعُودَ يَأْخُذُهَا لِتَصِيرَ لَهُ زَوْجَةً بَعْدَ أَنْ تَنَجَّسَتْ. لأَنَّ ذلِكَ رِجْسٌ لَدَى الرَّبِّ. فَلاَ تَجْلِبْ خَطِيَّةً عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا.} (اَلتَّثْنِيَة 24 : 1-4)
فالتوراة تحرِّم العودة مطلقا للزوج الأول، باعتبار أن الزوجة قد تنجَّست بزواجها من رجل آخر! فما هذا الحكم الغريب؟ هل يُعقل أن يُنظر إلى زواج المرأة الشرعي من رجل آخر على أنه نجاسة قد أصابتها؟! هذا يعني أن علاقة الزواج بين الرجل والمرأة عموما هو تنجيس للمرأة، ولذلك على الرجل الشريف ألا يتزوج بمن كانت تتنجس عند غيره من قبل!!
هذا التعليم هو عارٌ على الإنسانية، ويجب أن يعلن كل إنسان شريف براءته منه.
والواقع أن هذه النظرة الشاذة قد سيطرت على العهد الجديد أيضا، فقد جاء فيه:
{وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُل يَزْنِي} (إِنْجِيلُ لُوقَا 16 : 18)
فما هذا الحكم العجيب الذي يمنع من زواج المطلقات إلى الأبد؟!
وواضح أن مرجع هذا ما الحكم العجيب هو ما جاء في التوراة؛ من أنها بزواجها من رجل فقد تنجست! لا أنها كانت في علاقة زواج عفيفة طاهرة، وأن طلاقها لا يغلق الفرصة أمامها لتتزوج من جديد وتتحصن في حصن العفة والطهارة، كما جاء في الشرع الإسلامي العظيم.
لذلك فإن قوله تعالى:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (البقرة 231)
فيه رد على أن الزوجة لو تزوجت بزوج آخر، ثم حدث الطلاق أو الموت، فلا بأس في أن ترجع إلى زوجها الأول، لأنها لم تتنجس بهذا الزواج الشرعي -كما يقول الكتاب المقدس!! بل كانت في علاقة زواج شرعي وكانت فيه طاهرة مطهرة. ولكن هذا إن حدث، وإن وجدا في أنفسهما رغبة فيه، فيجب أن يكون في نطاق الحيطة والحذر، وإذا ظنا أنهما سيقيما حدود الله وسيعيشان حياة جديدة يتدراكان فيها أخطاء الماضي.
وبهذا الحكم فقد شرَّف الإسلام المرأة وطهرها من رجس الكتاب المقدس الذي ألحقه بها، وأعاد الاعتبار إلى مؤسسة الزواج المقدسة التي سعى الإسلام للحفاظ عليها وصيانتها لتكون حصنًا آمنًا تتحصن فيه الأسرة وتعيش حياة مكرمة طاهرة قويمة.
الحمد لله على هذا التنزيه القرآني للصالح العام.