لقد أكَّدَ الإسلامُ على مسألة الظن وحذّرَ المؤمنين من الوقوع في سوء الظن، هذه الهوّة التي تبتلع العقل والإيمان نفسه، وأمر المؤمنين بإحسان الظنِّ بأنفسهم وبالآخرين وجعل النجاة منوطة به. يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ -الحجرات
أي أنَّ مجرد البعض والقليل فقط من الظن ومقدَّماته هو إِثْمٌ بحسب القُرآن المَجِيد.
وقد حذّرنا النبيُ ﷺ من الظن واعتبر الظن هو أكذب ما يمكن أن يُتَّفَوهُ به كالتالي:
«إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».” (متفق عليه)
وكذلك ذَكَرَ المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ارتداد أحد الأطباء عن الجماعة وكان السبب هو سوء الظن والكِبر، فيقول حضرته:
“ارتدَّ في هذه الأيام لشقاوته المدعو عبد الحكيم خانْ، الجرّاح المساعد في ولاية بتياله وصارَ عدوّاً لهذه الجماعة، وكان قبل ذلك من المبايعين، وذلك لأنه كان محروماً من الحقائق الدينية وكان يجهلها بسب قلة فُرص اللقاء والصحبة، وكان مصاباً بمرض الكِبر والجهل المضاعف والرعونة وسوء الظن. فحاولَ قدر استطاعته أن يطفئ نور الله بنفثاتٍ سامّةٍٍ في كتاباته المبنيّة على الجهل، بُغية إطفاء هذا المصباح الذي أشعله اللهُ تعالى بيده.” (حقيقة الوحي)
صَدَقْتَ يا خادم النبي ﷺ عَلَيْك السَلام، فما أشبه اليوم بالبارحة !
وقد بيَّنَ المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام طبع الذين ينتهجون سوء الظنون ويفترون على الصالحين فقال عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
“وقد عجزوا أن يحتجّوا عليَّ بوجه المعقول والمنقول، وسقطوا عليّ كالجهلاء والسفهاء، وأرادوا أن يغلبوا بالسبّ والشتم والتكفير والبهتان، وقَفَوا ما لَمْ يكُن لهم به علم، وتركوا سبيل المتقين. وما تركوا شيئاً من سوء الظن وتركِ الأدب والافتراء والقيام بمخالفة الحق، وما شهدوا إلا بِزوُرٍ، وما جادلوا إلا بمكائد الشياطين. فلمّا اضطرمتْ نارُ الفساد بأيديهم، وانطلقتْ إلى دخان الفتن أرجلُهم، سألتُ اللهَ ربّي أن يُعينني من لدنه ويؤيدني من عنده، وقلتُ ربّنا افتَحْ بيننا وبين قومنا بِالْحَقِّ وأنتَ خَيْرُ الفاتحين.” (حمامة البشرى)
وردّاً على أحد الذين كانوا ينشرون ضد حضرته الافتراءات ويصفونه بالدجال وما إلى ذلك من أوصاف الغيبة والنميمة واللمز والكراهية يقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ناصحاً ومستفتحاً ببيت شعر معرّب ما يلي:
“كُنْ بطلاً وانظُر إلى واقع أمرِنا
وانظر نُصرة الله ذي الجلال
ليس من شيمة الرجال الطعنُ
دون الامتحان، فامتحنْ وانظرْ مآلنا
يا عزيزي، لا يجوزُ التسرّع في سوء الظن بعباد الرحمن. ما الذي جناه الذين أساؤوا الظنّ بالأصفياء من قبل؟” (حقيقة الوحي)
فالذي يترك سوء الظن فقد سحقَ شيطانه وتلَّ جبينه لله تبارك وتعالى.
وفي رسالة حضرته عَلَيهِ السَلام إلى العرب حيث خاطبهم بعظيم الحُب ومنتهى القرب، شرح لهم فيها أيضاً أسباب نشر الخصوم الكذب والافتراء ضد حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام والوقوع في المحظورات، هذه الأسباب هي سوء الظن والغيبة واللمز ومن شاكلة هذه الأفعال التي لا تليق بالمؤمنين، فقال حضرته مُبْرزاً عدداً من الآيات الكريمات:
“وآذاني قومي .. ولعنوني وكفّروني .. وقالوا كافر دجّال، وسمّوني بأسماء يكرهون أن يُسمّوا بها، ولقّبوني بألقاب لا يحبّون أن يُلَقّبوا بها، وأكثروا القولَ في إيماني وكانوا مُعتدين. فأفوّضُ أمري إلى الله .. هو يعلُم ما في قلبي وما في قلوبهم، ولا يخفى على اللهِ خافية .. أليس اللهُ بأعلم بما في صدورِ العالمين؟ ويا قوم .. أُذكّركُم بآياتِ الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّاب رَحِيمٌ}.” (جماعة البشرى)
وقال عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ناصحاً الجميع:
“أيها الناس .. ادنوا منّي ولا تتحوّلوا، وافتحوا أعينكم ولا تغضّوا، وادخلوا في أمان الله ولا تبعدوا، وتَطهّروا عن الحقد والشَّنَآن ولا تلطّخوا، وتَجلّدوا إلى التوبة ولا تستأخروا، ولا تُفرِطوا في سوء الظن واتقوا واجتنبوا.” (التبليغ)
وأقتبسُ من مقال أستاذنا الحبيب تميم أبو دقة المحترم الذي عنوانه “حسن الظن أساس العقل والإيمان وسوء الظن أساس الجنون والكفر” حيث جاء فيه:
«والواقع أن سوء الظن لا يبعد الإنسان من الإيمان فحسب، بل هو جنون أو مقدِّمة الجنون، فالذي يستولي عليه سوء الظن لا شك بأنه سيفقد عقله ويدمِّر حياته كلها قبل أن يدمِّر إيمانه. يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حول ذلك:
“إن حسن الظن قوة طبيعية أُودعت فطرة الإنسان، وإن استخدامها ميزة طبعية في الإنسان ما لم يكن هناك سبب جوهري لسوء الظن. ولو عطّل أحد هذه القوة دونما سبب واتخذ من سوء الظن عادة له لسُمِّي مجنونا أو أسير الأوهام أو مسلوب الحواس. ومَثَله كمثل الذي لا يأكل الحلوى أو الخبز وغيرهما من السوق متوهّما أن الخبازين أو صُنّاعها قد دسّوا السمّ فيها، أو كالذي يشك في حالة السفر بكلِّ مَن يدلّه على الطريق زاعما أنه قد يخدعه في ذلك، أو يخاف الحلاقَ خشية أن يقتله بموسه. فكل هذه الأفكار إنما هي مقدمات الجنون والهلوسة. عندما يكون أحد على وشك الإصابة بالجنون تنشأ أولا في قلبه أفكار فاسدة مثلها، ثم يجنّ جنونه رويدا رويدا .. فثبت من ذلك أن إساءة الظن دون سبب معقول شعبة من شعب الجنون، وعلى كل عاقل فطين أن يجتنبه في كل الأحوال. والحكمة في إيداع الله تعالى قوة حسن الظن في فطرة الإنسان هي أن الصدق والسداد أيضا هي فعلا قوة فطرية في بني آدم، فلا يريد الإنسان أن يكذب ما لم يُكرِهه قاهرٌ، ولا يجيز لنفسه ارتكاب أيّ سيئةٍ أخرى. ولو لم يُعطَ الإنسان قوة حسن الظن لضاعت جميع المنافع التي ينالها الناس بعضهم من بعض بقوة الصدق والسداد التي هي عماد مهمات التمدّن والتعايش، وتعتمد عليها إدارة البيوت والبلاد، ولحرِم الناس جميعا من الفوائد التي تترتب على استخدام القوة المذكورة. فمثلا؛ من بركات حسن الظن أن الأولاد الصغار يتعلمون الكلام والحديث بسهولة ويعرفون آباءهم. ولو أساؤوا الظن لما تعلّموا شيئا، ولقالوا في نفوسهم: لعل معلّمينا يقصدون من وراء ذلك شيئا آخر. فلو كانوا كذلك لظلوا بُكمًا ظانين ظن السوء، ولشكّوا في أمر آبائهم أيضا، أهُم آباؤهم فعلا أم لا” (البراهين الأحمدية)
والواقع أن سوء الظن لا يدل على فساد العقل فحسب بل يؤدي أيضا إلى فساد القلب. فالذي يسيء الظن عموما يكون قلبه فاسدا جدا، بل يكون مستعدا لارتكاب كل ما يشك بأن الآخرين فعلوه أو سيفعلونه أو يكون قد ارتكبه فعلا، لذا يتوقع منهم السوء لأنه يراه ممكنا ومقبولا بالنسبة له. أما المؤمنون فلا ينجرُّون وراء سوء الظن، بل ينظرون في أنفسهم فيعرفون أن غيرهم ممن هو خير منهم لا يمكن أن يقوم بما يأنفونه هم بأنفسهم ولا يمكن أن يقوموا به. لذلك قال تعالى عن حال المؤمنين عند سماعهم لحادثة الإفك:
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } (النور 13)
فكان حسن ظنهم كافيا وحده ليبرئهم وينجيهم من فتنة الإفك.
وأخيرا، يقول المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مبينا أن المبايع لا يمكن أن يكون مبايعا حقيقيا وينجو إلا إذا تبرأ كليا من سوء الظن:
“ولكن ليس المراد من البيعة البيعة باللسان فقط مع بقاء القلب غافلا بل معرضا عنها.. بل معنى البيعة هو البيع. فأقول صدقا وحقا بأن الذي لا يبيع حياته وماله وشرفه في الحقيقة في هذا السبيل لا يدخل البيعة عند الله. بل أرى أن هناك كثيرا ممن بايعوا ظاهريا ولكن لم تكتمل فيهم عاطفة حسن الظن، فيتعثّرون كطفل ضعيف عند كل ابتلاء. وهناك بعض من سيئي الحظ الذين يتأثرون بكلام الأشرار فورا ويسعون إلى سوء الظن سعيَ الكلب إلى الجيفة. فأنّى لي أن أقول بأنهم داخلون في البيعة حقيقةً؟! إنني أُعطى بين حين وآخر علمًا بهؤلاء ولكن لا يؤذَن لي أن أخبرهم بذلك. كم من المحتقَرين سيعظَّمون، وكم من العظماء سيُحقَّرون! فهذا مقام خوف وعبرة.” (البراهين الأحمدية، الجزء الخامس)
وهذا ما كنا ولا زلنا نراه دوما؛ أن محسني الظن كانوا دائما يتقدمون في الإيمان، بينما سيئو الظن دائما كانوا يسقطون ويستحوذ عليهم الشيطان فيخسرون الدنيا والآخرة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المحسنين في كل شيء دوما، آمين.» انتهى كلام الأستاذ تميم المحترم
وبالفعل فإحسان الظن هو النجاة من جميع المشاكل حيث يقول المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:
“إنَّ الإنسان يُؤْمِنُ بالله تعالى دون أن يراه، ويؤمنُ بالملائكة ولم يرهم أيضاً، ويؤمنُ بالجنة والنار مع أنهما غائبتان عن الأنظار، فيؤمنُ نتيجة حُسن الظن فقط فيُعَدّ صادقاً عند الله، وصِدقه هذا يكون سبباً لنجاته.” (مرآة كمالات الإسلام)
كما وقد علّمنا حضرتُهُ عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام السبيل لمعرفة حقائق الأشياء وسرّ كُلّ شيء بما يرتضيه الله تعالى وحده ويُطلع عَلَيهِ من يشاء، هذا السبيل هو الدعاء الصادق واستخارة الله تعالى بخلوص القلب التام دون أدنى ذرة من الميول النفسانية والحُكم المسبق بل السؤال النقي النابع من القلب الحريص على المعرفة، سؤال مَن يجهل حقّاً ويسعى لجواب الله تعالى، وهذا سبيل الساعين إلى الْحَقِّ والمنصفين الذين لا يتّبعون الظن فتيلا. هذا هو الطريق الصحيح لقهر الاستعجال في إصدار الأحكام الغيابية وسوء الظن:
“يجب عليهم أن يداوموا على هذه الاستخارة لأسبوعين على الأقل ولكن بعد التخلّي عن نفسانيتهم لأن الذي يكون مليئا بالبغض سلفاً ويغلب عليه سوء الظن فإنه لو سأل عن طريق المنام عن حالة شخص يراه أسوأ الناس سلفاً فسيأتيه الشيطان ويُلقي في قلبه أفكارًا مُظلمةً بحسب الظُلمة التي تسودُ قلبَه. فتكون حالته الأخيرة أسوأ من سابقتها. فإذا كنتَ تريدُ أن تسأل اللهَ تعالى عن شيء فاغسل صدرك كليًّا من البغض والعناد، وتخلَّ عن نفسانيتك واطلب منه نور الهداية متخليًا عن البغض والحُب كليهما فسينـزل وفق وعده نوره الذي لا يغطيه دخان أوهام النفس. فيا أيها الباحثون عن الحق، لا تفتتنوا بأقوال المشايخ، بل انهضوا وقوموا بشيء من المجاهدة واستعينوا بذلك القوي القدير والعليم الهادي المطلق. وها قد أدّيتُ واجبَ التبليغ الروحاني أيضاً ولكم الخيار بعد ذلك. والسلام على من اتبع الهدى. المبلغ غلام أحمد عفا عنه.” (الإعلانات نقلا عن “الآية السماوية” الطبعة الأولى، رياض هند أمرتسار الطبعة الأولى ص38-41)
وهذا يعلّمنا نحن الضعفاء الذين لسنا بنبيّين ولا مُرسلين ولا نعرف عن أحوال إخوتنا الخاصة شيئاًً، ولعلهم دوننا أو فوقنا بالإيمان، هذا الدرس هو أن لا نُسيء الظنّ ببعضنا وألا نشيع الكذب والافتراء والكراهية ضد بَعضنا بعضاً، فهو طريق القسوة والهلاك الذي حذّرنا منه مبعوث السماء سيدنا المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام الذي نختتم قولنا بما اختتم عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام به رسالته إلى العرب العرباء، بهذا الدعاء:
“ونسألُ اللهَ أنْ يوفّقكم، ويعطيكم من لدنه قوّةً، ويهبكم من عنده إلهاماً موقناً، ويعصمكم من الخطأ في النظر والاستعجال في إقامة الرأي وسوء الظن، ونسأله أن يُدخلكم في ملكوته مع الأنبياء والرُسل والصدّيقين والشهداء والصالحين.” (حمامة البشرى)
وهكذا علّمنا المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام أن نتجنّب الظن بل وأن نرتقي إلى الدعاء لإخواننا الذين قد يسيؤون الظن بِنَا لكي يتغلبوا على أي باطلٍ يواجههم ولكي ينالوا سعادة إحسان الظن ونشر ونثر الكلام الطيب من حولهم كما تُنثَر الزهور الجميلة، فالكلام الطيب وحده هو الذي يصعد مباشرة إلى الله تعالى القائل:
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ – فاطر
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ