لعل أسوأ مصيبة يمكن أن يصابها المرء في هذه الحياة الدنيا هي أن يعرف الحق ويؤمن به، ثم تنازعه نفسه ويتغلب عليه كبره وصلفه وتغلبه شقوته فيرتد على عقبيه، فيخسر الدنيا والآخرة. فمن ناحية سيلاحقه الخزي في الحياة الدنيا إلى آخر لحظة من حياته، ثم سيكون له عذاب أليم في الآخرة.
أما عن الخزي في الدنيا، فهو سيجد نفسه غير موثوق بعقله ولا بإيمانه؛ إذ إن الذين سيفرحون بارتداده نكاية بجماعة المؤمنين سيضمرون هذا الشعور تجاهه، وسيقولون في أنفسهم وفيما بينهم أنه رجل لا عقل ولا إيمان له؛ فلو كان عاقلا ما انطلت عليه خديعة هذه الجماعة واقتنع بأدلتهم الواهية، أما لو كان عاقلا فهو لا دين له؛ إذ اختار أن يؤمن بما لم يقتنع به عقله طمعا في متاع الدنيا ورغبة في المكاسب على ما يبدو. ويرون أن هذا الشخص يعيش الكذب والنفاق في كل لحظة. وبقدر ما طالت به المدة في جماعة المؤمنين وبقدر ما كان فاعلا في هذه الجماعة ويظهر حماسا لها بقدر ما سيكون الخزي الذي سيلاحقه أكبر.
أما نحن، فإن نظرتنا إلى المرتد هي أرحم بكثير من نظرة الآخرين؛ إذ أننا ندرك أن الإيمان نور يلقيه الله في قلب الإنسان، ويؤدي إلى تنوِّر عقله وجوارحه بقدر ما يتعاظم هذا النور، ولا نقول أن المرتد كان غبيا أو كان منافقا كذابا طامعا من اليوم الأول، بل نقول إن مرضا اعترى قلبه وسلب منه الإيمان فتغير فكره بعد أن تقلَّب قلبه، وأصبحت تنطبق عليه الآية:
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الأَنعام 111)
فيصبح شأن هذا الشخص عجيبا؛ إذ يصبح لا يؤمن بما كان قد آمن به أول مرة بصدق، ويبدأ بطرح شبهات طالما رد عليها هو بنفسه وكان يستغرب أن الآخرين يقولون بها ولا يفهمون حقيقة الأمر. هذه حالة سجَّلها القرآن الكريم لتكون عبرة للمؤمنين والمرتدين على السواء.
والواقع أن الأمر يمكن استدراكه فيما لو أقر المرتد بالمرض الذي في قلبه، وتوجه إلى الله تعالى راجيا أن ينقذه مما هو فيه، وداعيا إياه أن يعيد إلى قلبه السكينة والطمأنينة التي كان يعيشها، ويحميه من خزي الدنيا والآخرة. أما إذا ركب المرتد رأسه، وتمكَّن منه الصلف والغرور، فإنه سيقع في مستنقع من الخزي لن يخرج منه أبدا إلا ما شاء الله. وستكون الخطوة الحمقاء التي يمكن أن تحسم مصيره هو أن يبدأ بمهاجمة جماعة المؤمنين والادعاء أنه اكتشف كذا وكذا من الأمور، ويحاول تبرير ارتداده، بل ويسعى لجرِّ الآخرين معه.
وقد يبلغ بالبعض الصلف والحمق والغباء أن يظنوا أنهم قادرون على ردِّ الآخرين معهم، وخاصة من ظنوا أنهم كانوا هم السبب في إيمانهم، وأن هؤلاء إنما آمنوا لسواد عيونهم وعذب كلامهم وجاذبيتهم الشخصية، وأنهم ضحوا وواجهوا المشاكل والصعوبات من فرط إعجابهم بهم شخصيا! فهذا يرتب عليهم واجبا أخلاقيا أن يخرجوهم من الإيمان كما كان قد أدخلوهم فيه! ورغم ما في هذه النظرة من غرور وحمق وغباء إلا أنهم سيتكشفون سريعا خطأ ظنهم هذا، وسيجدون أن الذين آمنوا إنما جذبهم نور الإيمان والحق الذي استنار به هؤلاء المرتدون عندما كانوا مخلصين، وأن المحبة والإعزاز والاحترام لم ينجم إلا بسبب ما كانوا يحملونه من الحق، لا بسبب مزاياهم الشخصية، وسيجدون أن المخلصين من المؤمنين سيلمحون سريعا في وجوههم قتامة تعكس ما في قلوبهم من ظلمات، وسينصرفون عنهم غير آبهين بهم.
ولا شك أن بعض الذين في قلوبهم مرض من المنافقين وذوي الطبائع التعيسة سيلتحقون بهم، ولكن هذا ليس بسبب أنهم وجدوا الصدق عندهم، ولا بسبب قوة إقناعهم واقتناعهم، بل لأنهم سيجدون في ذلك فرصة لإخراج ما في صدورهم، فيتكاتفون فيما بينهم مؤقتا ظانين أنهم بذلك سيقضون على جماعة المؤمنين، ثم سرعان ما يختلفون ويتصارعون فيما بينهم، لأن ذوي الطبائع الفاسدة لا يتوافقون، بل تدفعهم طبائعهم للتنافر والعداوة. والواقع أن هذه الفرص تكون سببا لتنقية جماعة المؤمنين من هؤلاء وتمييز الخبيث من الطيب، وهذه سنة الله مع المؤمنين إذ لا يمكن أن يترك الخبيث مختلطا بالطيب، بل سيدبر الأسباب لفصلهم كما يقول تعالى:
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (آل عمران 180)
وباختصار، فإن مسيرة الارتداد هي الخزي والذلة الذي لا مفر منه بعد العزة التي كان يحظى بها هؤلاء في جماعة المؤمنين، وسيجدون أن الخزي يحيق بهم من كل جانب، ولن تنفعهم محاولاتهم للنيل من جماعة المؤمنين بل ستجعلهم مصداقا للمثل القرآني الذي يقول فيه الله تعالى:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (الأَعراف 176-177)
ولا يظنن أحد أننا نرهب المرتدين أو نغلق عليهم الطريق، فهنالك طريق يمكن أن يسلكها المرتد العاقل وهي أن ينسحب بهدوء ويقضي ما تبقى من حياته في صمت، وبهذا فإنه سيحفظ ماء وجهه وسيحمي نفسه من الخزي المحتوم الذي ينتظره فيما لو سلك طريق العدوان والوقاحة. ومن يفعل ذلك فهو الذي تكون فيه بقية من خير ونبل أخلاق قد ينظر الله إليها ويرحمه بها. وهذا النوع من المرتدين له منا كل الاحترام والمواساة بل والدعاء أيضا، مدفوعين بعاطفة المواساة التي نحملها لخلق الله تعالى، ومتذكرين أياما كان فيه هؤلاء بيننا ومتأسفين لفقدهم. أما الذي يخون الأخوّة وينسى المعروف فهو الذي اختار لنفسه هذا المصير المؤسف.